وأخيراً أبرمت إيران والدول الست الكبرى "اتفاق إيران النووي". ورغم أنه ليس اتفاقاً شاملاً ونهائياً، بل اتفاق جزئي انتقالي لستة شهور، إلا أنه يحظى، وسيحظى، برفض إسرائيلي ثابت، رغم ما حازه من تأييد دولي وإقليمي واسع، ومن اهتمام سياسي كبير متعدد الجهات والمشارب والأغراض، ومما لا يحصى من التحليلات والتفسيرات والتأويلات المختلفة والمتنوعة والمتناقضة. أما لماذا؟ ببساطة، وأساساً، لأنه الاتفاق الأول من نوعه الذي تسهله وتشارك في توقيعه الولايات المتحدة بعد 34 عاماً من العداء الثابت للنظام الإيراني، الذي حل محل نظام الشاه، حليفها الإستراتيجي الأهم بعد إسرائيل في المنطقة، وبعد 10 سنوات من الضغط السياسي والحصار الاقتصادي والتخريب الأمني والتهديد العسكري الغربي الذي قادته الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع إيران من امتلاك القدرة على إنتاج الطاقة النووية، بدعوى أن للبرنامج النووي الإيراني شقاً عسكرياً، وكأن إسرائيل لا تملك ترسانة نووية هائلة. ما يعني أن المهم في هذا الاتفاق يكمن في مبدأ توقيعه رغم حمال الأوجه من بنوده ومصاعب وعراقيل تحويله إلى اتفاق نهائي. إذ ثمة مغزى سياسي كبير للاستدارة السياسية الغربية، والأميركية بخاصة، نحو قبول التعامل السياسي مع النظام الإيراني، الذي طالما عملت في السر والعلن وبالوسائل كافة على إطاحته أو تغييره عبر محاولات زعزعة أركانه ومنعه من امتلاك مقومات المنعة كافة وليس امتلاك القدرة على إنتاج الطاقة النووية فقط.
هنا يثور السؤال الأهم والمفتاحي بالنسبة لمصير هذا الاتفاق وقدرته على الصمود وتخطي المصاعب والعراقيل التي تعترض تحويله إلى اتفاق نهائي، والسؤال هو: ما هي أسباب ودوافع استدارة الولايات المتحدة، بخاصة، والدول الغربية، بعامة، نحو التعامل السياسي مع النظام الإيراني بعد عقود من العداء، بل والتهديد بشن الحرب عليه؟
يعزو البعض سبب هذه الاستدارة إلى فرضية أن الولايات المتحدة قررت تبني إستراتيجية جديدة تركز على الاهتمام بإقليم الشرق الأقصى أكثر من اهتمامها بإقليم الشرق الأوسط، بفعل أن العملاق الاقتصادي الصيني هو المنافس الأقوى للولايات المتحدة ونفوذها في العالم، وأن الاكتشافات الأميركية الجديدة للنفط والغاز تعطي الولايات المتحدة فرصة تخفيض الاعتماد على مخزون النفط والغاز في منطقة الخليج العربي خصوصاً وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً. لكن هذه الفرضية رغم ظاهر وجاهتها تتجاهل حقائق أن ثمة ترابطاً بين النفوذ الأميركي في الشرق الأقصى والنفوذ في الشرق الأوسط، وأن تقليل التركيز الأميركي على الشرق الأوسط لا يمس فقط بحاجة الولايات المتحدة لمصادر الطاقة فيها، إنما يمس أيضاً بحاجتها للحفاظ على تفوق حليفتها الإستراتيجية الثابتة، إسرائيل، على ما عداها من دول المنطقة وقواها، وأن تقوية النفوذ الأميركي في إقليم الشرق الأقصى دونه تحديات كثيرة وكبيرة تفاقمها أزمات صراعات لا تقل حدة عن نظيراتها في الشرق الأوسط. فهناك صراع الكوريتين، وهناك الصراع الحدودي الصيني الياباني، وهناك الصراع الهندي الباكستاني، وهناك الصراع متعدد الأطراف الدولية والإقليمية على منطقة آسيا الوسطى، طريق صراع الإمبراطوريات الدائم، وهناك الكثير من أوجه الصراع القومي والديني والطائفي، وهناك... الخ من التناقضات التي تعترض قدرة الولايات المتحدة على التسيد في الشرق الأقصى بصورة أسهل مما هو عليه الحال في الشرق الأوسط.
لذلك يصبح من الجائز والمنطقي القول: إن عزو سبب الاستدارة الأميركية تجاه النظام الإيراني إلى فرضية زيادة اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأقصى مقارنة باهتمامها بالشرق الأوسط، إنما يقود سيان: بوعي أو بجهالة، إلى إضاعة طاسة البحث في الأسباب الفعلية والدوافع الحقيقية لهذه الاستدارة الأميركية التي تعكس - بلا ريب أو شك - تحولاً سياسياً اضطرارياً لتفادي الدخول في حرب شرق أوسطية جديدة تشجع عليها وتطالب بها إسرائيل، بينما صار يقيناً أن الشعب الأميركي وإدارة أوباما لا يريدانها، ليس فقط بسبب أنه لا يمكن ضمان نتائجها والتحكم بتداعياتها ونطاقها وكلفتها، إنما أيضاً، وأساساً وجوهراً، بسبب أن الولايات المتحدة تواجه تحولات دولية وإقليمية واقعية كبرى قادت إلى تراجع عالم القطب الواحد من الواجهة لمصلحة عالم متعدد الأقطاب، عدا ما تواجهه من أزمة اقتصادية بنيوية ساهم في تسريع انفجارها وتفاقمها الفشل المتتابع لحروب "المحافظين الجدد" ولسياساتهم الخارجية، عموماً، والشرق أوسطية، خصوصاً. والرئيس الأميركي، أوباما، نفسه يكشف السر عندما يدافع عن الاتفاق الانتقالي بين الدول الست الكبرى وإيران بالقول: "لا يجوز إغلاق الباب على خيار الحل الدبلوماسي. فاللجوء إلى خيار استخدام القوة العسكرية سهل، لكنه لا يضمن الأمن للولايات المتحدة". علماً أن كلمات الرئيس الأميركي هذه مجرد اعتراف ملطف بحقيقة تراجع مكانة الولايات المتحدة ونفوذها عالمياً وإقليمياً جراء أزمتها الاقتصادية وفشل سياستها على مدار عقدين من الزمان.
إذاً الولايات المتحدة ليست في واقع دولة عظمى تسحب تركيزها من إقليم إلى إقليم آخر، إنما في واقع دولة عظمى تتراجع مكانتها ونفوذها وتنتقل من حالة قطب انفرد في السيطرة على العالم لعقدين من الزمان إلى حالة قطب بين أقطاب أعادت التوازن إلى النظام الدولي ومؤسساته وقراراته. هنا بالضبط يكمن سر أزمة قادة إسرائيل وما ينتابهم من هستيريا غير مسبوقة تجاه مباركة إدارة أوباما لـ "اتفاق إيران النووي" وتوقيعها عليه. فإسرائيل برفضها لهذا الاتفاق الرامي إلى تفادي الدخول في حرب لا يقوى حليفها الأميركي على شنها تقف عارية أمام شعوب العالم كداعية دائمة للحروب، بل وتقف عارية كعاجزة عن شن حرب إقليمية كبرى بمفردها وعن التقرير السياسي بشأنها. تحيل أزمة إسرائيل إلى سؤالين كبيرين طالما دار الجدل حولها.
السؤال الأول: هل إسرائيل تابع أم متبوع بالنسبة للولايات المتحدة؟ في الواقع وبالملموس، أي بعيداً عن الظاهر والمجرد، تظهر إسرائيل كمتبوع وليس كتابع عندما يتطابق ما تريده وتقتضيه حسابات مصلحتها الخاصة مع ما تريده وتقتضيه الحسابات الشاملة للمصالح العليا للولايات المتحدة، لكنها تظهر على حقيقتها كمجرد تابع عندما يبرز تناقض حقيقي بين حسابات ومصالح الطرفين. ولعل التناقض الجاري بينهما تجاه الحسابات الواقعية لسبل الحل الممكنة لأزمة الملف النووي الإيراني مجرد مثال على أن إسرائيل هي في التحليل الأخير مجرد تابع لراعيها الأميركي والغربي عموماً.
أما السؤال الثاني: هل تلعب إسرائيل وظيفة شريك حارس أم شريك محروس بالنسبة للولايات المتحدة؟ في الواقع وبالملموس أيضاً، هي هذا وذاك، لكن تقدم إحدى الوظيفتين على الأخرى، إنما يعتمد على حجم وتعقيدات المهمة المنوط بإسرائيل القيام بها. ولعل في عجز إسرائيل عن التصدي العسكري المنفرد لتحدي أزمة ملف إيران النووي، بل وعجزها حتى عن التقرير السياسي بشأنه، ما يكشف حقيقة أن إسرائيل في نهاية المطاف مجرد شريك محروس. فمنذ عشر سنوات وقادة إسرائيل، ونتنياهو منهم بالذات، ينذرون ويتوعدون ويهددون بشن ضربة عسكرية لتدمير مفاعلات إيران النووية، لكنهم لم يقووا على القيام بذلك، ليتضح أنهم إنما يرفعون الصوت على طريقة من يريد القول: امسكوني، ليس فقط بهدف جر الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً لشن حرب إقليمية كبرى يريدونها ويعجزون عن القيام بها، إنما أيضاً بهدف إشغال العالم بالملف الإيراني على حساب ضرورة انشغاله بملف الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية.
بقي القول: إذا كان هذا هو حال قدرة إسرائيل على التصدي الميداني والتقرير السياسي تجاه تحدي "النووي الإيراني" قبل إبرام الاتفاق الدولي بشأنه، فكيف لنا أن نتصور أن بوسع إسرائيل عرقلة الاستدارة الغربية والأميركية نحو التعامل السياسي مع النظام الإيراني عموما، ومع ملفه النووي خصوصاً، خاصة وأن هذه الاستدارة اضطرارية بفعل التراجع الحاصل على مكانة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم الناجم بدوره عن تحولات كبرى صنعتها شعوب أميركا اللاتينية وشعوب الوطن العربي وشعوب الغرب الرافضة لشن المزيد من الحروب، بينما العالم بأسره، وبأقاليمه ودوله كافة، ينام ويصحو على تداعيات هذه التحولات الكبيرة بل التاريخية أيضاً.


