في عام 1998 وقبيل الزيارة المرتقبة لاول رئيس امريكي بيل كلينتون الي قطاع غزة الصغير الكبير بتاثيراته , كنت اعمل مصورا لاحدي المحطات الامريكية , وقبيل الزيارة جاء وفد صحفي من المحطة , وكان علي رأسهم كبير مراسليهم في الشرق الاوسط , لطغطية الحدث المهم , وفي احدي جولاتنا في مخيم جباليا تصادف مرورنا بالسيارة , مع انتهاء اليوم الدراسي للفترة الصباحية للعديد من مدارس الفتيات التابعة لوكالة الانروا وبنفس الوقت , وبأعمار متقاربة وبزي مدرسي موحد بين الابيض والاسود , كان المنظر مهيب , مما استدعي المراسل بان يطلب مني التوقف مسرعا وتصوير المشهد , وبعد ان انتهينا سألني عدة اسألة والاندهاش لازال علي وجهه عن عدد سكان المخيم وبعض التفاصيل الاخري , وبحسبة سريعة قدر الاعداد بعشرة الاف وقال بعد عشرة سنوات يحتاج المخيم لعشرة الاف فرصة عمل , ومثلها منازل وما يتبعه من ملحقات للبنية التحتية وبحسبة أكبر للقطاع باكمله علي افتراض أن هذا الجيل يقرب من مائتين الف نحن نحتاج كل عشرة سنوات لخلق مائتين الف فرصة عمل ومائتين الف منزل , دون احتساب الزيادة المركبة.
وكما يقول المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل الفلسطنين الأونروا فيليبو غراندي ان قطاع غزة بات غير صالح للسكن , اثر سياسة تشديد الحصار التي يتبعها الاحتلال الصهيوني , محذرا من اهتزاز الاستقرار الاقليمي وجر المنطقة لمزيد من الصراع فكيف لغزة المظلومة ان تهدد الاستقرار الاقليمي , كلمة كبيرة على غزة الصغيرة المحاصرة , هل الاقليم ينعم بالاستقرار والرخاء أصلا لتهدده غزة , وهل هناك أحد من الاقليم يفكر فيها , أصبحنا يا سادة في بلاد الاقليم نجاهد فقط لدرء التهم المنسوبة لنا , فذاكرة الاقليم قصيرة وذاكرة من يحكم الاقليم أقصر , ورؤية من يحكم غزة لا تتعدي حدودها .
فاميركا والدول الاروبية وكافة الدول المتقدمة يحكمها قانون واحد الربح والخسارة , وبناء عليه تخضع كافة القوانين والاتفاقيات والمعاملات ووضع الاستراتيجيات لخدمة هذا الهدف , وأي تحرك لأية مجموعة شاذة في المجتمع , سيتم الحكم عليها من هذا المنطق , فلا مكان للقيم والمباديء , ولا للانسانية وحقوق الانسان والسلم الدولي , وحق شعوب الارض في العيش بكرامة وحرية , وتوفير أدني متطلبات الحياة من مأكل وملبس وسكن , فهذه شعارات ورتوش والوان زاهية لتجميل صورتهم القاتمة, أليست تلك شعوب من تجيء بحكوماتها ورؤسائها بانتخابت حرة ونزيهه , لتشن بعد ذلك الحروب وتنشر القتل والدمار في دول العالم النامية , وتغذي كافة الصراعات والنزاعات , وتمد الجماعات المتناحرة في الدول الفقيرة بالسلاح خدمة لمصالحها , فلو خرج أي حزب يطالب بوقف تصدير السلاح لتلك الدول مما سيترتب عليه غلق تلك المصانع ويعني ذلك فقدان المواطنين لبعض من امتيازاتهم الخدماتية فلن يعاد انتخابه مرة اخري , أليست تلك نفس الاحزاب وان تغيرت قياداتها هي من شنت الحرب علي العراق وأفغانستان وقتلت مئات الالاف في ظل خروج أكبر المسيرات المناهضة علي الحرب ان ذاك في تلك الدول , شعارات رنانة تتراجع لتحل محلها المصالح الاقتصادية والصحية والتعليمية عند اي استحقاق انتخابي .
وبنفس منطق الربح والخسارة كان تفاق اوسلو, والتي وضعت الولايات المتحدة وخلفها الدول الاروبية وبعض دول الاقليم ثقلها لينتج عنه ما نحن فيه الان , وكان منطق الربح لتلك الدول هو ما اجبرها علي المضي بهذا الاتفاق , كما اجبر القيادة الفلسطنية علي قبوله في ذلك الوقت , ولاختلاف الربح والخسارة ما بين الاطراف تعثر الاتفاق ووصلنا علي ما نحن عليه الان , وكان علي غزة المظلومة أن تدفع الفاتورة المكلفة لهذا الاتفاق.
كانت الشرارة الاولي للانتفاضة الاولي من قطاع غزة , انتفاضة علي الذل وهدر الكرامة ومطالبة بالحقوق المشروعة , رغم ان القطاع كان يعيش بأفضل حالاته الاقتصادية , وبعد ان لحقت به كافة الاراضي الفلسطنية المحتلة , استطاع هذا الشعب ان يبهرالعالم ويحرج الاقليم بثورته النبيلة وقضيته العادلة ويهزم الاحتلال اخلاقيا ومعنويا , ويهدد السلم الاقليمي للمنطقة , مما دفع هذه الدول للبحث عن مخرج لانهاء هذه الانتفاضة , مدفوعا بحسابات الربح والخسارة .
فحكام دول الاقليم باتوا مهددين بمصداقيتهم امام شعوبهم , فأغلبهم اتخذ القضية الفلسطنية ذريعة لفرض سلطانه وقمع كل صوت يطالب بالتغيير والديمقراطية , فدول الغرب وعلي رأسها الولايات المتحدة لم تكن خائفة علي الكيان الصهيوني من هذة الانتفاضة , لانه بمنطق القوة لن يستطيع الشعب الفلسطيني انذلك ان يمحي هذا الكيان عن الوجود بحجارته ,فالخوف الحقيقي كان من الانتفاضة علي دول الاقليم , لان اي تغييرفيها كان يعني تهديد مباشر لمصالحها الاقتصادية والتي يمثلها وجود الكيان الصهيوني , فمن هنا كان وجوب اتفاق اوسلو لضمان هذا الاستقرار , وكان بمضمونه حلا اقتصاديا وليس سياسيا , سنغافورة الشرق الاوسط هذا ما كان يخطط لغزة , وهذا سر تدفق الاموال اليها في بداية الاتفاق من كل صوب , وعلي راسها اموال الاقليم الرابح الاكبر من هذا الاتفاق , وبمنطق الربح والخسارة لن يتجرأ اهل القطاع علي الانتفاضة مرة اخري خوفا عل أملاكهم وعملهم وقصورهم وسياراتهم الفارهة.
الي ان جاءت الانتفاضة الثانية وأفسدت كل المخططات لتلك الدول , لان منطق الربح للفلسطنيين كان اقامة دولتهم المستقلة التي طال انتظارها ,لا سنغافورة جديده , وبمنطق الخسارة كان عليهم دفع الثمن , فأول ما تم قصفه وتدميره هي مقومات الحياه , من كهرباء وبنية تحتية ومحاربتهم بقوت يومهم ومنعهم من العمل في داخل الكيان الصهيوني , ومع ذلك استطاع الفلسطنيين ان يجبروا الاحتلال علي الانسحاب من قطاع غزة الذي تمنوا دائما ان يغرق في البحر وشاركهم بهذه الامنية سرا العديد من دول الاقليم .
واستمر الخنق والحصار والقصف والتدمير وباشكال متفاوتة الي جاءت حماس للحكم , وبانتخابات حرة ونزيهة والتي رفضها الغرب صاحب ازدواجية الاخلاق ومن وراءه دول الاقليم المدفوعة بالخوف علي عروشها , واشتد هذا الحصار بعد سيطرة الحركة بالقوة علي القطاع , ليدفع المواطن الغزي مرة اخري المزيد من الاثمان , الي ان جاء الامل بالتغيير في بعض دول الاقليم , الذي لم يطول طويلا ويعود الخوف وتتغير حسابات الربح والخسارة , للمراهنات الخاطئة للحركة , ويدفع الثمن المواطن الفقير المغلوب علي امره.
ولكن هذه المرة الفاتورة كبيرة لا يستطيع المواطن العادي دفعها , فصور الماسي القادمة من غزة فظيعة , فالحصار طال كل مناحي الحياة , والاخطر ضرب النسيج الاجتماعي وقدرة الناس علي الصمود ومواصلة النضال , فالمراهنات السابقة تغيرت , والخوف من التغيير في بعض دول الاقليم قد حدث , ولم يأتي في صالح القضية الفلسطنية ولن يشكل خطر يذكر علي الكيان الصهيوني , لانشغال تلك الدول بمشاكلها الداخلية التي تحتاج لسنين طويلة للخروج منها , فالحصار سيشتد والمعاناة ستتفاقم ولن تجد من يحرك ساكنا .
فالاحتلال والمسؤول الاول عن هذا الحصار ينتشي الان بفرحته , فهوه يدير مفاوضات عبثية مع سلطة ضعيفة , ويستمر في نهب الاراضي واقامة المستوطنات , ويفرض حصاره الخانق علي القطاع , ويثقل ثمن اي محاولة لدخول حركة حماس في حرب جديدة معه , فهويعلم ان كسر ارادة وكرامة الشعب الفلسطيني اهم كثيرا من تدمير سلاح حركات المقاومة , وهوه يدرك جيدا ان لا احد من دول الاقليم ستهدد مصالحه ومصالح الغرب الان .
وبالطرف الاخر تعيش حركة حماس أسوأ ايامها , بعد ان فقدت الاصدقاء والحلفاء واصبحت معزوله محاصرة ومسئولة عن شعب محاصر لا يملك قوت يومه , فالخيارات المتاحة لها تتقلص يوما بعد يوم , ومعها تزداد معاناة الغزيين في ظل غياب البدائل وعجزهم عن التغيير , وهذا ما تريده اسرائيل ودول الاقليم ودول العالم , ان ياتي الشعب زاحفا باكيا متوسلا مكسورا نادما علي اختياراته الخاطئه واحلامه المتواضعه , باقامة دولته المستقلة وبان يحيا باحترام كباقي شعوب الارض , لا زال هناك متسع من الوقت للضغط اكثر , لم يصل هذا الشعب لدرجة الانكسار , لم يرفع الراية البيضاء بعد , فهم ليس بعجلة من امرهم .
فغزة الصغيرة تهدد السلم الاقليمي حقا فهي الان صامتة تلملم جراحها , تعيد حساباتها , فالانفجار قادم لا محالة في وجه من حكموها بحساباتهم الخاطئه , ومن ظلموها من الاشقاء انتقاما علي خياراتها , ومن تركوها حفاظا علي عروشهم , وفي وجه احتلال متغطرس يشرب كؤس النصر المؤقت .
أشرف فارس الغول
Ashraf_alghoul@hotmail.com


