يلفت انتباهي ما تتناقله مواقع التواصل الاجتماعي، وأقلام بعض الكتاب حول واقع الحياة اليومية في غزة خصوصا مع تفاقم أزمة انقطاع التيار الكهربائي بصورة، فالبعض يصور هذا الواقع بالكارثة والمأساة، والبعض يوره بأنه رمزا للتفاخر والعزة والانتصار، وبين ذاك وذاك تقرأ وتسمع العجب. فالبعض يرى غزة عالم مختلف عن كل ما يحيط بها، فهي ترفع لواء المقاومة، والنصرة لدين الله، ورمزا للعزة في الزمن العربي الذي فقدناه فيه كل شيء مصدرا للفخار والاعتزاز، وبتنا نعيش حالة من الذل والانكسار لم نعرفها من قبل في تاريخنا. والبعض يرى في غزة مكانا للشقاء والتعاسة والإحباط، فكل ما فيها يحطم الحياة الإنسانية ويذرنا قاعا صفصفا.
الصورة هذه أخذت في التعمق والاتساع في أعقاب ما تعرضت له مصر من انقلاب على ديمقراطيتها، والموجة الارتدادية لثورات الربيع العربي، وكأننا انتقلنا من الرب الذي يهب الحياة إلى رب ينتزعها منا، غنها صورة تبدو مرتبكة، وظلا مية لحد كبير، وهي بالتالي تعكس خواء وإفلاسا كبيرا لؤلئك النفر. فالحياة توهب وتنتزع من الناس بتقديرات إلهية تستند إلى سنن الله في الخلق من جهة، وإلى صيرورة الأشياء من جهة أخرى. وصدق الله في قوله " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وانتم لا تعلمون" البقرة 216. ولذلك من يتمون الصورة أو يجعلونها براقه إنما يبيعوننا أوهاما وتخيلات، لا يرشدونا لواقع نعيشه وقد خبرناه، فهؤلاء هم المرجفون.
البعض يريدنا أن ننظر لغزة على أنها سجن كبير، ومأوى للذل والهوان، ودار للجوعى والمرضى والمساكين والمقهورين ...، والبعض يريدنا أن ننظر لغزة على أنها أرض الكرامة والعزة والانتصار والفخر وشرف الأمة و..و..الخ. والأمر ببساطة ليس هذا ولا ذاك. فمكة عرفت عام الرمادة، والرسول أخرج منها لبلاد بعيدة، وحوصر أصحابه ما دون قوتهم، ولكن ظلت مكة مكه، وظل محمد محمد "ص"، وظل الصحابة هم الصحابة، هكذا نقلت لنا كتب التاريخ والسير. وفي هذا الزمان أمامنا دولة كبيرة وعظيمة هي كوريا الشمالية، مضى على حصارها وعزلتها قرون، وحبس عنها كل شيء حتى الطعام حبس، لكنها ظلت كوريا الشمالية كما هي بعزها وشموخها ووحدتها وتماسكها، ولم يعيبها شيء، وظل شعبها وحكومتها على قلب رجل واحد في وجه الحصار والظلم والاستبداد العالمي.
إن الشدائد في تاريخ الشعوب والمجتمعات لم تكن يوما عار عليها، ولا سببا في تخليها عن أهدافها وقضاياها ومصالحها، بل غالبا ما كانت الشدائد منطلقا لمجتمعاتها لأخذ زمام المبادرة للانطلاق من جديد، والدفع بأبنائها وطاقاتها وإمكاناتها لصنع أمجادا جديدة لها، وإعادة كتابة تاريخها بالتغلب على شدائدها، وإعادة تموضعها بين الشعوب والمجتمعات، لتؤكد أنها عصية على الذوبان، والانكسار.
غن ما تمر به غزة اليوم من محن، ومن شدائد، ومن حصار ومضايقات، ومن عسر وفاقة، إنما هو مؤشرا قويا على أهميتها وصلابتها وقوتها. إن تعبيرا عن صمودها وتماسكها وقدرتها على التصدي لكل محاولات تحطيمها، وإخضاعها، وتفكيكها. إن ما تتعرض له غزة من ضغوط ومضايقات إنها هي هموم الرباط الذي خص الله بها غزة وفلسطين عن سائر الأمم، وجعل من ذلك منزلة لهم عند الله. كيف نكون في رباط وعلى رباط، ونتقلب في النعم الظاهرة والباطنة، كيف لنا أن نكون في رباط ونحن نملك كل وسائل الرفاهية والحياة الناعمة، ورغد العيش.
أعتقد أن مشكلتنا في غزة ليست في كل ما ذكرناه سابقا، بل مشكلتنا أننا كمجموع فلسطيني لم نملك الإرادة الكافية لمواجهة معركة غزة الحقيقية مع الحرية والعدالة والتحرير والتخلص من الاحتلال. إن مشكلتنا أننا نريد أن نجمع بين واقع المجتمعات المستقر المستقلة، وواقع المجتمعات المقاومة والمحاربة والمحاصر والصامدة. إنه جمع بين المتناقضات وهذا امر مستحيل. وهذا يتطلب منا أن نعد شعبنا ومجتمعنا إلى الحالة التي يمر بها، فمع الأسف أن السلطة ضيعت السنوات والإمكانات دون ان تهيئ الشعب والمجتمع لشيء، وتركته رعاع، لا يعرف ماذا يريد، ولا كيف يصل إلى ما يريد.


