كنا اليوم في زيارة لأحد المرضى في المستشفى، فلان ابن فلان، الذي أصيب بكذا يوم كذا وكذا!!
ذهبت امس لتأدية واجب العزاء لعائلة كذا...التي فقدت ابنتها قبل يومين.
شاركنا في اعتصام تضامني مع الأسرى...وبالأمارة كان في خيمة الاعتصام فلان وفلان، ومكثنا ساعة ونصف!!
كنت مع أم فلان، وأم فلان، في زيارة لوجه الله، لبيت أم فلان التي أجهضت كنتها في بطنها الأول!!
هذه أمثلة لقصص وعبارات نسمعها كل يوم من كل الناس وفي كل حين، وبمناسبة وغير مناسبة. نحن الذين نتباهى بأننا متماسكون أسرياً، ومتآلفون اجتماعياً. ونعتبر أنفسنا متفانين في حب بلادنا وخدمة مجتمعاتنا.
حدثني صديقي الأوروبي أنه بينما كان مسجى في سريره في المستشفى أثناء علاجه من جلطة دماغية خفيفة أصابته ذات يوم، لفت نظره أن أناساً لا يعرفهم من الرجال والنساء، من مختلف الأعمار، جاؤوا لزيارته، وقدموا له باقات الورد، متمنين له الشفاء. ظن أن هؤلاء من أصدقاء ومعارف زوجته التي كانت تشغل قبل تفرغها للاسرة منصبا كبيرا في احدى المؤسسات الكبرى. لكنه دهش عندما قالت له زوجته انها لا تعرف احدا منهم. ثم أوضحت له أن في المجتمع الكبير أناساً يتطوعون بلا مقابل وبكتمان كبير لزيارة المرضى في المستشفيات وادخال السعادة عليهم، تحسباً من أن يكون أحد المرضى ليس له أصدقاء أو أقارب يزورونه وييخففون عنه أوجاعه. وأن هذا السلوك موجود منذ أجيال مضت، وهو تقليد يعمل به كل من يجد عنده وقت، ويريد أن يقضي وقته فيما يفيد المجتمع دون انتظار لشكر او أجرأو شعور بالامتنان من الحكومة أو من الناس. المهم أن أحداً من هؤلاء المتطوعين لم يسمع في خطبة جمعة او من خلال حلقة تنظيمية او درس بعد الصلاة بحديث الصدقة التي لا تعلم فيها اليد اليسرى ما تصنعه اليد اليمنى. الأخلاق لا تحتاج الى مواعظ، والرياء يقترفه الحمقى، وفي بلادنا "الاسلامية" نجد مليون طريقة لنحدث الناس بأفعالنا الخيرة وسلوكنا الحميد، وصدقاتنا وتبرعاتنا التي لا نبغي بها "غير وجه الله".
دخلت الى دار سينما في لندن بصحبة ابنتي، وعند شراء التذاكر سألتنا الموظفة هل أنتم طلاب جامعة؟ لأن الطلاب يحصلون على تخفيض كبير في أسعار التذاكر، فأخبرتها ابنتي بأنها طالبة، وأخذت في البحث في حقيبة يدها عن بطاقتها الجامعية لاثبات ذلك، فابتسمت الموظفة قائلة: ليس هناك مشكلة، فأنت قلت أنك طالبة، وهذا يكفي. واعطتنا تذاكر بالسعر الخاص للطلاب.
عاد صديق لي في بلد أوروبي آخر الى بيته مبتسماً متفائلاً لأنه يحمل لبنه الشاب الجامعي خبراً سعيداً، وقال لابنه المشغول في ارتداء ملابسه متهيئاً للخروج: لدي أخبار طيبة...وجدت لك عملاً ليومين في الأسبوع. وشرح له الأيام التي يمكنه ان يعمل فيها والأجر الذي سيتقاضاه..فرد الشاب على أبيه: حسناً، أشكرك يا والدي، ولكن هذا العمل يتعارض مع عمل تطوعي أقوم به كل أسبوع مع مجموعة من الأصدقاء، يتمثل في اعداد الطعام وتوزيعه على الفقراء الذين لا يجدون في بيوتهم طعاماً أو المشردين الذين لا يجدون بيوتاً تؤويهم. فرد أبوه مجادلاً: لكن ما اعرضه عليك هو عمل تجني عن طريقه مالاً، وليس عملا تطوعياً. فقال الابن: لكنني لن أترك عملي التطوعي في مساعدة المساكين، لأنه يتعارض مع مواعيد عملي بأجر. المال ليس كل شيء في الحياة يا والدي.!!
ولكي لا يظن القاريء العزيز أنني أتحدث عن مجتمع ملائكي، فانني أذكر أن نفاق الساسة وميكافيلليتهم هنا أمر لا يختلف عليه اثنان، لكن هؤلاء الساسة مقبولون لدى مواطنيهم طالما صدقوا في تحقيق وعودهم، والا خلعوا بعد اعطائهم الفرصة الدستورية كاملة. لا وجود لكثير من الملائكة هنا، فقط يوجد بشر عاديون، متصالحون مع أنفسهم، ويخطئون اتجاه البوصلة أحياناً عن الدوافع النبيلة وراء الأعمال الحسنة. ومثال ذلك ما يعرفه كل من زار اوروبا عن ظاهرة المتسولين رجالا ونساء في محطات القطار او على الأرصفة في المدن الكبيرة. بعضهم يعزف بآلته لموسيقية، وبعضهم يصدح بالغناء على وقع ألحان مسجلة، للفت الأنظار واستدرار عطف المارة، الذين يلقون أمامه ببعض القطع المعدنية التي ضاقت بها جيوبهم ذرعاً. لاحظت أن من كان من هؤلاء المتسولين يجلس وفي حضنه او بجواره كلبه، يحصل على تعاطف أكثر ويجني من القطع النقدية أكثر من أولئك الذين يزهدون في اصطحاب كلابهم أثناء خروجهم للتسول، فأدركت أن تعاطف المارة وسخاءهم ليس دافعه الرأفة بالانسان، ولكن رحمة بالكلب الذي يرتجف برداً بجواره!!
مع ذلك، نحن الشعوب التي ظهرت فيها الرسالات السماوية والأديان، أشد تيهاً، وأكثر صراخاً عن الاستقامة في مواعظنا وخطبنا، بينما النفاق ينخرنا، كما نخرت دابة الأرض منسأة سليمان الحكيم.


