في الأسبوع الأخير فقط حصدت الأعمال الإرهابية في مصر ولبنان والعراق وليبيا وسورية أرواح المئات من شعوب هذه البلدان وجنودها. هذه المسألة تطرح تحدياً كبيراً على القوى الثورية في العالم العربي، لأنها من جهة حرب حقيقية تريد أنظمة الاستبداد استغلالها وإعطائها الأولوية للخلاص من استحقاقات ثورات تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي تعلن صراحة بأن الأولوية للقضاء على المجموعات الإرهابية، وأن على الشعب وقواه الثورية أن يتوحد مع الجيش لإنجاز هذه المهمة. خلال ذلك بالطبع تجرى إعادة بناء أجهزة القمع وتحصينها بقوانين تمكنها من القضاء على القوى الثورية، وترسيخ أركان حكمها القديم بدلاً من القضاء على الإرهاب الحقيقي الذي تخوضه الجماعات التكفيرية.
وهي من جهة أخرى مسألة إشكالية للقوى الثورية إذا أدارت ظهرها لهذه الحرب واعتبرتها موجودة فقط في ذهن قادة الأنظمة القديمة وأجهزتها القمعية، فهي تغامر بخسارة تأييد شعوبها لها، لأن هذه الحرب حقيقة قائمة وتحصد الأرواح يومياً. قد تكون هنالك أزمة وصراع مع جيوش هذه البلدان، لكن الغالبية العظمى في الدول التي لم تصل بعد لمرحلة الحرب الأهلية الصريحة، ترى الجنود والضباط، أبناءها، وهم فعلاً كذلك، ولا علاقة لهم بالصراع المحتدم على الأرض مع قادة هذه الجيوش أو بقايا الأنظمة القديمة أو القائمة.
كيف يمكن إذاً حل هذه الإشكالية والتقدم في طريق تحقيق أهداف الثورة؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن ندرك أولاً أن قوة الإرهاب على الاستمرار تكمن في وجود حامل اجتماعي له، هذا "الحامل" ليس من الضروري أن يكون فقط الفقر والتخلف الناتج عنه، والذي يتم استغلاله من قبل جماعات تكفيرية، ترى أن صراعها مع الأنظمة القائمة هو صراع ديني لا يتم حله إلا بالقضاء على الدولة ومؤسساتها واستبدالها بمؤسسات من صنيعتها هي.. وليس من الضروري أن يكون بسبب استغلال أنظمة إقليمية لهذه الجماعات لإضعاف دول وأنظمة تعتبرها عدوة لها.. ولكن أيضاً بسبب الانقسام العميق داخل مجتمعات هذه الدول والذي سببه في الأساس سلوك الأنظمة المستبدة ضد جزء أو حتى ضد الغالبية من شعوبها.
قد تتوفر هذه الظروف جميعها في بعض البلدان، كما هو الحال في سورية والعراق، وليبيا واليمن، وقد يتوفر بعض منها كما هو الحال في مصر وتونس، عندما تتوفر الظروف المحلية والإقليمية المساعدة على خلق الحاضنة الاجتماعية يصبح انتصار القوى الثورية على الأنظمة القائمة مهمة معقدة، وقد تكون مستحيلة، لأن الحرب قد تحولت من حالة ادعاء النظام بأنها "حرب على الإرهاب"، الى "حرب أهلية". خلالها إما أن تكون مع النظام المستبد، وإما ان تكون مع القوى التي تخوض الحرب على النظام، وهي في الأساس قوى لا تختلف كثيراً عن النظام، وقد تكون أسوأ منه بكثير. الاصطفاف إجباري لأن طبول الحرب أعلى بكثير من صوت القوى الثورية التي لا يمكنها أن تقف مع النظام الفاسد المستبد أو مع المجموعات الإرهابية المجرمة. المسألة هنا تتعلق بالإمكانيات المادية لأطراف الصراع التي لا طاقة للقوى الثورية على مجاراتها. الحالتان السورية والعراقية (وربما أيضاً، الليبية واليمنية)، حالات ميؤوس منها على المدى القريب، بمعنى أن محصلة الصراع في البلدين هو إما نجاح الأنظمة القائمة في البقاء في السلطة وسحق معارضيها، وإما نجاح القوى التكفيرية فيها وتدمير مجتمعاتها أكثر.
لكن في الحالتين المصرية والتونسية لا زالت الطريق مفتوحة للقوى الثورية لاستكمال مهامها. الحرب على الإرهاب في البلدين لم تدخل بعد دائرة الصراع الإقليمي والدولي المفتوح، لكن استمرار انقسام القوى الثورية والإسلامية في البلدين في ظل الصراع مع الأنظمة القائمة أو مع بقايا الأنظمة القديمة، يوفر حاضنة اجتماعية للجماعات الإرهابية تعطيها القدرة على الاستمرار في استنزاف الدولتين ومواردهما.
الصراع مع الإسلاميين في مصر وتونس يوفر هذه الحاضنة، لأن نفوذ الجماعات الإسلامية الشعبي كبير وممتد في البلدين. مصر مثلاً، لم تشهد أعمالاً إرهابية عندما كان الإسلاميون في السلطة، لكن بعد الانقلاب عليهم في تموز الماضي، شهدت مصر أكثر من مائة وثلاثين عملاً إرهابياً. صحيح أن "الإخوان المسلمون" استنكروا وأدانوا جميع هذه الأعمال، لكن هذا لا يعني قطعاً أن قواعدهم ليست مستعدة لتوفير الحاضنة الاجتماعية لهذه الجماعات، نكاية بالجيش بعد مذبحة "رابعة"، أو بسبب الشعور بأن الاحتجاجات السلمية التي يخوضونها يومياً لن توصلهم إلى استعادة الحكم.
الاعتقالات أيضاً لكوادر تنظيم الإخوان وقيادات الصف الأول منه تجعل مهمة السيطرة على تنظيم ممتد مستحيلة، وتوفر الشروط لانتقال المئات وربما الآلاف للجماعات الإرهابية، وتدريجياً تصبح مهمة القضاء على الإرهاب مستحيلة، وتدخل البلد في النفق السوري والعراقي، وتصبح بعدها مهمة القوى الثورية في مصر مستحيلة، وهو ما يعني أن على نشطائها إما اختيار الجلوس في بيوتهم، أو الاصطفاف مع السلطة القائمة أو معارضيها المسلحين، أو البقاء على هامش الحرب بين الطرفين.
المشكلة إذا، أمام القوى الثورية، تكمن في منع الوصول إلى مرحلة يكون معها من المستحيل أن تتمكن من أخذ زمام المبادرة. هذا يفرض عليها وعلى القوى الإسلامية المعتدلة التي لديها الاستعداد للقبول بالتداول السلمي للسلطة الاتفاق على أولويات المرحلة وآليات تحقيقها، الاتفاق بين الطرفين كفيل في مصر بإعادة العسكر الى ثكناته لأن الجيش المصري ليس على استعداد للتمسك بالسلطة في حالة فقدانه للدعم الشعبي، وكفيل بحرمان الجماعات التكفيرية من الحاضنة الاجتماعية لها، وهذا بدوره يمكن الجيش من القضاء على هذه الجماعات وبسط سيطرته على سيناء، حيث تتواجد الجماعات التكفيرية، ويمنعها من الانتقال للداخل المصري.
النافذة للاتفاق بين القوى الثورية والإسلامية في مصر وتونس ما زالت مفتوحة، لكنها لن تبق كذلك لفترة طويلة. بقايا الأنظمة القديمة تريد حربا مفتوحة على الإرهاب لحرمان شعبها من الحق في الثروة والسلطة، وإعادة الوضع القديم إلى ما كان عليه سابقا قبل الثورتين، والأعمال الإرهابية التي تجري في سيناء وفي جبل الشعانين في تونس تعطيهما الفرصة لذلك.
قطع الطريق على تحول الحرب المفتوحة على الإرهاب إلى حرب أهلية يكمن فقط بالتوافق بين فريق الثورة - الطرف المعني بها من جميع الاتجاهات الأيديولوجية.. هذا إن أرادوا حماية مكتسباتهم التي حصلوا على جزء قليل منها مقابل آلاف الشهداء والجرحى التي قدمت وما زالت تقدم لاستكمال ثوراتهم.


