علاقة العرب بالحكم هي علاقة إشكالية تماما أنتجت حالة من الممارسة المشوهة بين الحاكم والمحكوم تركت وراءها تاريخا استدعى أنهارا من الدماء التي سالت وما زالت من أجل الوصول للسلطة منذ قرون، وما حدث في الإقليم من اهتزاز في السنوات القليلة ليس سوى أحد أوجه الصراع على السلطة والذي عاشه الفلسطينيون قبل أكثر من ست سنوات وانتهى بتقسيم الوطن الذي ما زال تحت الاحتلال بين "فتح" التي تحكم الضفة الغربية و"حماس" التي انتزعت حصتها من الحكم بقوة السلاح في قطاع غزة.
لكن الأولويات الفلسطينية لم تصل إلى هذه المرحلة التي بلغها الكثير من ثورات العالم ولكن بعد التحرير، حيث اختلف كثير من الثوار حلفاء الأمس بعد أن طردوا الاحتلال وحرروا أوطانهم حين لاحت شهوة السلطة، وإذ ما استثنينا التاريخ القديم من الدسائس والمؤامرات والذي بدأ بقتل الخلفاء الراشدين واستمر بصراعات الحكم التي ميزت تاريخ العرب، لكن ثورات التحرر والانقلابات في الدول العربية في نصف القرن الأخير أدت إلى استقرار خلال العقود الماضية بسبب سيطرة أنظمة حكم ذات الحزب الواحد.
والمثير أن تستمر تلك الأحزاب بعد التحرير أو بعد نجاح انقلابها بالإصرار على الحفاظ على تسمية الثورة حتى بعد أن تصبح سلطة ودولة فنسمع عن مجلس قيادة الثورة حتى بعد نجاح الثورة بعقود، مثلا في العراق حتى سقوط الرئيس صدام حسين كان هناك مجلس قيادة للثورة وفي سورية كان ما يشبه ذلك، واستمر معمر القذافي بتسمية نفسه زعيم الثورة وليس قائد الدولة وأفرط مشتقا من مصطلحها كل مؤسسات الدولة من اللجان الثورية ومؤتمر الثورة وما إلى ذلك.
هم لم يكونوا أغبياء بل أدركوا أن في كلمة الثورة ما يشبه السحر في نظر الشعوب فاستمروا في ارتداء ثوبها حتى بعد نهايتها بأربعين عاما وفيها ما يبرر قمع الشعوب، فالمعارض للثورة إما عميل أو خائن وبالتالي فإن في كلمة الثورة والثوار ما يبرر الدكتاتورية وحكم الحزب والفرد وقمع المعارضة والتغطية على كل الأخطاء التي يرتكبونها تجاه شعوبهم فهرب معظم المعارضين وأطلقت عليهم أدوات إعلام "الثورات" بالخونة والعملاء ومن لم يهرب قتل أو اعتقل وعذب وباسم الثورة.
الوضع الفلسطيني لم يصل إلى هذه المرحلة وهو في مرحلة التحرير فلا زال الاحتلال يتحكم بكل تفاصيل حياته وحركته واقتصاده ومعابره وسمائه لكن أصبح لديهم سلطة فنشأ نوع من التشوه في النظام السياسي الفلسطيني مستندا لإرث أكثر تشوها في العلاقة بين العرب والحكم فلا هي سلطة صاحبة سيادة على وطنها وإمكانياتها ولا هي ثورة قادرة على الاستمرار بفعل الاتفاقيات.
والأمر لدى حركة حماس أكثر إشكاليا حيث السلطة والمقاومة وإن فشلت كل تجارب التاريخ في المزاوجة بين السلطة والمقاومة، فالسلطة دائما هي جزء من مجتمع دولي وعلاقات سياسية ودبلوماسية ومنظومة ترفض العنف، أما المقاومة فهي حالة عنف متمردة على النظام الدولي، حيث تحاول حركة حماس أن تزاوج بين الاثنين ولم تجن سوى الحصار وانحسار التأييد الشعبي لها ليس بسبب الحصار فحسب بل بسبب فشلها في تعريف نفسها وعلاقتها بمن تحكمهم وفق هذا التعريف حيث تقدم نفسها باعتبارها سلطة مقاومة أي خليطا بين السلطة والمقاومة ولكن هناك فرقا بين هذه وتلك في إطار العلاقة بالشعب سواء من حيث الحقوق أو من حيث الواجبات على كل منهما.
فالمقاومة أو الثورة هي طليعة من النخبة التي تتقدم الصفوف ولديها استعداد للتضحية بنفسها من أجل وطنها وشعبها وفي كل التجارب الإنسانية انشغلت الثورة بمقارعة المحتل من الجبال والخنادق أو من بين القرى والمدن بعيدا عن التدخل في إدارة الحياة وتعتمد على مساعدات الشعب بما يفيض عن حاجته من تبرعات دون أن تطلب أو تفرض عليه ضرائب أو ما شابه وفي سبيل ما يقدمه الثوار من تضحيات تفرض الثورة احترامها على شعبها فيتحمل راضيا ما يتعرض له من حصار أو خسائر في سبيل مساندة ثواره ومقاوميه وهذا فقط هو الواجب الذي تدفعه الشعوب لحماية مقاوميها.
أما السلطة أو الحكم فالعلاقة بينها وبين الشعب تقوم على التبادلية من حيث الحقوق والواجبات، فالسلطة نظام حكم قائم على القانون وتكامل الحقوق والواجبات وإذ تقدم السلطة مجموعة من الخدمات كواجبات مترتبة عليها مقابل حقها في احترام القانون وجباية بالضرائب والجمارك.
وفي حالة التباس السلطة بالمقاومة فإن المقاومة تحول دون تقديم السلطة لخدماتها، وبالتالي يصبح هناك مس بحقوق المواطنين وفي هذه اللحظة يختل أحد أهم أركان علاقة السلطة مع المواطن ويصبح من العبث الحديث عن واجبات المواطن حين تعجز السلطة عن تقديم خدماتها وهنا الخلل الذي لم يستوقف حركة حماس حتى اللحظة والذي في ظني أنه السبب الرئيسي في انحسار تأييدها في قطاع غزة وأظن أن الحركة لديها استطلاعات خاصة تؤكد ذلك.
وهذا يحتاج لنقاش حقيقي ففي حالة حركة حماس كسلطة مقاومة يدفع المواطن واجباته مضاعفة وهذا عبء لم يحدث في التاريخ ومن الصعب أن يستمر، إذ يدفع ما يفرضه عليه واجبه تجاه المقاومة من تضحيات حين تندلع المعارك وحدوث حصار ونقص في احتياجاته الأساسية والكهرباء والغاز وغير ذلك، ثم يدفع أيضا واجباته تجاه السلطة كنظام حكم من ضرائب وجمارك وتراخيص بناء ومركبات وغير ذلك.
ولأننا على ما يبدو أمام سنوات طويلة من حكم حركة حماس كما تقول بعض الآراء الإسرائيلية التي تعتبر "أن احتمالية عودة (فتح) لقطاع غزة تبدو صفرية "وقد بات يتأكد عاما بعد عام أن احتمالية المصالحة تباعدت تماما، وعلينا أن نبحث عن معادلة مختلفة نطلب من خلالها تعريف حركة حماس لنفسها إذا كانت سلطة أم مقاومة غير مقتنعين بنموذج سلطة المقاومة لأنها تفرض أثمانا مضاعفة على المواطن في حين تسمح لها بالتهرب من دفع التزاماتها فحين نطلب خدمات من السلطة كالكهرباء وغيرها نتلقى إجابة باسم المقاومة ومبرر عجز السلطة عن الإيفاء بالتزاماتها، وعندما نطلب إعفاء جمارك ووقف الجباية كما يجب أن تفعل المقاومة نتلقى إجابة باسم السلطة ودولة القانون وواجبات المواطن.
هذا النموذج يعطي لحركة حماس الاستفادة من إيجابيات النموذجين "السلطة والمقاومة" ويفرض على المواطن واجبات النموذجين "السلطة والمقاومة" من انقطاع الكهرباء والحصار وكذلك الضرائب والجمارك وفي هذا معادلة غير عادلة جعلت الحياة في قطاع غزة تزحف بمشقة ومن الصعب أن تستمر.
حين عاد ياسر عرفات أقام سلطة في إطار علاقة تبادلية من الحقوق والواجبات مع الشعب ومع اندلاع الانتفاضة الثانية أعطى تعليماته للشرطة بوقف ملاحقة السائقين ووقف إلزامهم بدفع تراخيص السير للحكومة، وكذلك توقفت جباية تراخيص البناء لأن ما يدفعه الناس من تضحيات في سبيل الثورة والمقاومة يجب أن يخفف عليهم من التزامات تجاه السلطة، فما بالنا حين تعجز السلطة عن الالتزام بواجباتها وأقلها الكهرباء؟
Atallah.akram@hotmail.com


