إلى سنوات خلت كنت أعتقد (اتضح فيما بعد أن اعتقادي لم يكن في محله) ان ما بين الشعب الفلسطيني من جهة وما بين هذه القناة من جهة أخرى هو مجرد سوء طالع، او حتى اختلاف في الآراء والتوجهات، او الهوامش التي تلجأ إليها بعض وسائل الإعلام بهدف الإثارة (الهمبكة على حد تعبير الدكتور ناصر القدوة) أحياناً الى ان تيقنت أن المسألة أبعد من هذا واخطر مما كنت اعتقد.
في السنوات الأخيرة ومنذ مقدمات اختطاف قطاع غزة من قبل ميليشيات حركة حماس وانقلابها على الشرعية الوطنية اصبح شق وحدة الصف الفلسطيني هو الهمّ الشاغل لهذه القناة.
عندما سرقت الجزيرة "الوثائق" التي أعادت "صياغتها" وبتزوير مفضوح وحاولت الإساءة المباشرة للدكتور صائب عريقات، ثم الإيحاء بأن القيادة الفلسطينية "متورطة" في المفاوضات بتنازلات - فبركتها الجزيرة - لم يعد ممكنا النظر الى هذه الدرجة من "المهنية" و"شرف الرسالة الإعلامية" على انها مجرد سوء طالع أو اختلاف سياسي او إثارة إعلامية، وبات مطلوبا من كل كاتب او محلل سياسي او إعلامي لديه الحد الكافي من الانتماء الوطني والمهني ان يقف أمام أهداف هذه القناة.
لا شك ان نخبة فلسطينية مسؤولة قد تنبهت الى هذا الامر مبكرا وحذرت من "الشرف المهني لقناة الجزيرة" ومن "حرص" الجزيرة على الاوضاع الفلسطينية أو تحارص هذه القناة في لحظات سياسية حساسة.
وعندما انبرت الجزيرة، دفعة واحدة "للدفاع" عن الزعيم الراحل وتأبطت كامل الحملة "للكشف" عن "خفايا وأسرار" رحيل القائد المؤسس تنبهت تلك النخبة الفلسطينية الى الهدف المباشر والأهداف البعيدة التي تقف وراء تلك الحملة.
وفي اطار "المعالجات" التي قدمتها الجزيرة لموضوع المصالحة ابلت هذه القناة "بلاء حسنا" في تشويه صورة الشرعية الفلسطينية وتصوير حركة حماس على أنها حمل وديع "يكافح ويكابد" لإنجاز المصالحة، واستعانت بالرئيس الفعلي لمجلس إدارة القناة الشيخ الثوري وصاحب اليد الطولى في "ثورات" الربيع العربي حمد بن جاسم لإتمام هذه المهمة "الجليلة"، وذلك قبل ان نكتشف ان هذا الأمير الثوري عندما تهاتف مع سيادة الرئيس ابو مازن كان يتحدث من تل أبيب، وقبل ان نكتشف أيضا ان أمير البلاد وسيد هذا الأمير كان قد استقبل السيدة ليفني في الدوحة في "عز" العدوان على غزة قبل افتضاح الأمر على شبكات التواصل الاجتماعي.
اعتقدت الجزيرة فيما يخص ظروف استشهاد سيد روح الشعب الفلسطيني، سيد الثورة وسيد الجمرة - على حد تعبير رمزنا الثقافي الاول محمود درويش ان الفرصة قد باتت سانحة بعد ان فشل انقلاب حماس في اقتسام الشرعية الوطنية او تهديدها، وبعد ان تبين ان تمسك القيادة الفلسطينية بالأهداف الوطنية كاملة وغير منقوصة هو اصلب من حجارة فلسطين، واعتقد كل أهل الجزيرة انه لم يعد أمامهم من فرصة غير فرصة استشهاد الرئيس المؤسس مسموما وخصوصا بعد ان تبين ما تبين من مواقف الفرنسيين وغموض سلوكهم.
حملة "الجزيرة" لاستخدام ظروف استشهاد عرفات ليست لغاية في نفس يعقوب ذلك لأننا نعرف الآن ان الغاية هي البحث عن "وسيلة" مهما كانت وضيعة لإرباك القيادة الفلسطينية وتحويل ملف استشهاد عرفات من ملف خارجي الى ملف داخلي، عله يختلق ازمة كافية لشق تماسك الحالة الوطنية الفلسطينية.
كان لمتابعات لجنة التحقيق وشفافيتها وشجاعتها في طرح الحقائق والوقائع اثر بالغ في تعثر حملة الجزيرة وفي عرقلة اهدافها الخبيثة، وكان لتصريحات سيادة الرئيس والقيادة حول النية باللجوء الى القضاء الدولي اذا لزم الأمر وقع الضربة القاضية على تلك الأهداف.
الفشل والإحباط الذي تشعر به قناة الجزيرة بعد تتالي الإخفاقات في تحقيق هدف شق وحدة الشعب الفلسطيني وفي افتعال أزمات داخلية للحالة الوطنية ترافق مع انحدار مصداقية القناة على الصعيد الاقليمي والدولي العام.
فقد تحولت الجزيرة في السنة الاخيرة بصورة سافرة الى منبر رسمي لجماعات الإخوان وأعوانهم من جماعات التكفير والإرهاب، وأصبحت على المكشوف قناة تدمير المجتمعات العربية وتفتيت هذه المجتمعات بالعمل المباشر والمفضوح على "مذهبة" و"تطويق" وشرذمة الحالة الوطنية والقومية والبحث الدؤوب والمثابر (بصورة تبعث على الدهشة) عن كل وسيلة من شأنها تحطيم البنى الوطنية في المجتمعات العربية.
ان تعهير الكفاح الوطني لشعوب الأمة العربية الواحدة، وغير الموحدة و"اعلاء" شأن الإسلام السياسي واستماتة جماعة الإخوان وأعوانهم للظفر بالسلطة السياسية والإطباق عليها من خلال التحالف مع أميركا ومع الغرب قد افقد هذه القناة صوابها تماما حتى وصل الأمر بها في الحالة المصرية الى السقوط التام.
نحن طبعا نعرف اصل وفصل الجزيرة، ولدينا ما يكفي من المعلومات والوثائق عن كامل قصة هذه القناة، وعن كل السواتر التي استخدمتها في المراحل السابقة، ولدينا ما يكفي عن ما تعتقد الجزيرة انه مجهول وسري للغاية.
ان ارتباط هذه القناة بالدوائر الاستخبارية ليس مجرد ترضية سياسية او صحافية، وليست برامج الجزيرة مجرد انحياز سياسي (كما يعتقد بعض السذج من أصحاب المواقف "المحايدة" و"الموضوعية" بقدر ما أنها عملية منسقة ومنظمة تخطيطاً وإعداداً وتمويلاً بهدف تدمير الحالة الوطنية والقومية في المجتمعات العربية، وسلخ هوية الانتماء الوطني والقومي عن هذه المجتمعات واستبدالها بالهويات الطائفية والمذهبية والعرقية على طريق إعادة رسم الخريطة السياسية وفق المنظور الأميركي بصورة عامة ووفق المنظور الصهيوني على وجه التحديد.
ما تهدف إليه الجزيرة هو الوصول الى دويلات ما فوق الوطنية والقومية حتى تتحول إسرائيل الى دولة طبيعية في محيط هذه الدويلات، بل والى الدولة الأهم والأقوى في هذا المحيط، ولهذا فإن وصف الإعلامي المصري المرموق والشجاع الأستاذ إبراهيم عيسى لقناة الجزيرة بالقناة الصهيونية هو في الحقيقة وصف يسترعي الانتباه.


