لا شك أن المقابلة التي منحها وزير الخارجية الأميركي جون كيري للقناة الثانية الإسرائيلية وقناة تلفزيونية فلسطينية كانت أشبه بصفعة أميركية قوية تلقاها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عندما سمع لأول مرة تهديدا أميركيا بانتفاضة فلسطينية ثالثة وبعدم قدرة الولايات المتحدة على حماية إسرائيل من محكمة الجنايات الدولية التي سيلجأ لها الفلسطينيون في حال فشلت جولة المفاوضات الحالية في التوصل إلى التسوية السياسية المنشودة.
والصفعة الأكبر كانت عندما سمع الإسرائيليون عن بلورة اتفاق مع إيران (لم يوقع حتى الآن بسبب اختلاف الدول الغربية) مخالف تماماً للموقف الإسرائيلي. وهذا قاد إلى هستيريا إسرائيلية عبرت عن نفسها بخطابات نتنياهو النارية التي أكد فيها عدم التزام إسرائيل بأي اتفاق مع الفلسطينيين أو الإيرانيين ما لم يلب مصالح إسرائيل الأمنية. وما زاد الطين بلة هي محادثة الفيديو بين الرئيس باراك أوباما ونتنياهو في يوم الخميس الماضي التي أثبتت أن الإدارة الأميركية لن تغير موقفها من ضرورة التوصل إلى اتفاق مع إيران على قاعدة اتفاق غير كامل أفضل من عدم الاتفاق.
على ما يبدو أن الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو شخصياً لا يستوعبان المتغيرات التي تحدث في الساحتين الإقليمية والدولية. فالاتفاق مع إيران بات مصلحة لدول عربية وغربية تضررت من العقوبات مثل الإمارات العربية التي انخفض حجم تبادلها التجاري مع إيران من 23 مليار دولار إلى أربعة مليارات، وللولايات المتحدة مصلحة على ما يبدو في إعادة التجارة مع إيران خصوصاً وأن رفع العقوبات سيسمح باستغلال مليارات كثيرة في تطوير الاقتصاد الإيراني. وبالنسبة لدول غربية عديدة فإن موافقة إيران على الوقف التام لتخصيب اليورانيوم إلى درجة 20% واستبدال بعض ما تخصب منه إلى هذه النسبة، وعدم تشغيل أجهزة الطرد المركزي الحديثة وتفكيكها في المستقبل وعدم تشغيل مفاعل أراك للمياه الثقيلة، والسماح برقابة دولية فاعلة على منشآتها النووية، تعتبر تطورا نوعيا ومرونة كبيرة في الموقف الإيراني. وهناك موافقة بريطانية وألمانية وأميركية على اتفاق على هذه الأسس والذي عطل الاتفاق هو الموقف الفرنسي الذي يقال إنه عمل فقط لمصلحة فرنسا باتفاق مع السعودية التي وعدت باريس بعقود دسمة تنقذ الاقتصاد الفرنسي المتعثر للتشدد في الشروط تجاه إيران.
الآن، باتت الخارطة الإقليمية في طور التغير الذي قد يحمل تطورات سلبية نحو إسرائيل، وأبرز المتغيرات ما حصل في مصر وخاصة سقوط نظام الرئيس محمد مرسي وحدوث تغير مهم في الاستراتيجية المصرية وخاصة تجاه العلاقات مع القوى العظمى وخاصة روسيا ومحاولة خلق توازن في هذه العلاقات لصالح عدم الخضوع لإملاءات سياسة الولايات المتحدة، وهناك توجه حتى لتنويع مصادر التسليح علماً أن روسيا تعرض على مصر أسلحة متطورة أكثر، ويدور الحديث عن صفقة قادمة بمبلغ 40 مليار دولار، ومصر ستكون لاعباً إقليمياً مؤثراً. كما أن ما جرى في سورية وفشل محاولات ضرب سورية من قبل الولايات المتحدة الأميركية وقوة الموقف الروسي الذي فرض معادلة سياسية جديدة أعادت الملف السوري إلى البحث مجدداً في مؤتمر جنيف 2 الذي يجري التحضير له والذي دعيت إليه إيران باعتبارها قوة مقررة في هذا الملف، خلط الأوراق وأظهر ضعف الولايات المتحدة وحلفائها مقابل تعاظم قوة الدب الروسي الآخذة في الازدياد. ولقد أضحى واضحاً أن صورة اللعبة الدولية تتغير لغير صالح الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا يفسر الواقعية الأميركية الجديدة في التعاطي مع المتغيرات ومحاولة إفهام إسرائيل بأن الساحة لم تعد كما كانت. فالقوى المؤثرة اليوم هي التي تملك المال والنفوذ وروسيا أحد أهمها ويضاف إليها دول مثل الصين والهند وإيران والبرازيل وغيرها. أما الولايات المتحدة فهي تعاني أزمة اقتصادية وخسرت كثيراً في حروبها الكونية.
إسرائيل نتنياهو لا تريد استيعاب الدرس وتصر على إملاء شروطها على البيت الأبيض وعندما لا تجد الاتصال والحوار المباشر مجدياً تلجأ إلى حلفائها في الكونغرس واللوبي اليهودي المؤثر، وهذا ما يفعله الآن نتنياهو الذي بعدما فشل في إقناع كيري وأوباما اتجه نحو أصدقاء إسرائيل، الأمر الذي جعله يتعرض لانتقاد شديد من وسائل الإعلام الأميركية التي ترفض تدخل إسرائيل في السياسة الأميركية. وتصر على أن مصالح الولايات المتحدة هي التي تحدد سياستها وليست نزوات إسرائيل.
مشكلة نتنياهو الذي بات في مواجهة مع الإدارة الأميركية، بعض الإسرائيليين يشبهها بأيام الرئيس جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر الذي أعطى رقم هاتف الخارجية للإسرائيليين للاتصال به بعدما يغيرون موقفهم، هي أنه بنى سياسته على موضوع إيران، بل هناك من يقول إنه بذر الكثير من المال في طريق التحضير لشن عدوان على إيران باعتبارها العدو الوجودي لدولة إسرائيل، فماذا يفعل إذا تم التوصل إلى اتفاق بين إيران ومجموعة الدول الكبرى التي تضم الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا، هل سيهاجم إيران كما يهدد ويعتبر الاتفاق غير ملزم لإسرائيل أم يضطر لبلع المر ويحاول تبرير فشل سياسته بمؤامرة أميركية عليه.
من الواضح أن نتنياهو لن يجرؤ على مهاجمة إيران بعد اتفاق الدول العظمى معها، وسيضطر لمواجهة الملف الفلسطيني - الإسرائيلي الذي سيصبح الملف الوحيد على الأجندة الإسرائيلية بعد انتهاء الخطر الإيراني المزعوم بطريقة من الطرق، على اعتبار أن الصفقة مع الولايات المتحدة تقوم على ضغط واشنطن على إيران وإنهاء ملفها النووي مقابل التقدم على جبهة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، فلا الحل للمسألة الإيرانية مرض ولا يوجد استعداد لدفع الثمن في المفاوضات فماذا يمكنه أن يفعل غير دفع الأمور نحو مزيد من التدهور والتصعيد؟!


