بتغير الفصول يتغير نوع النباتات, وتبقي الأرض هي الأصل , بعض الأنواع منه تندثر , وبعضه يضرب جذوره عميقا, يستطيع تغيير شكله وصفاته ليتلائم مع المتغيرات المناخية الطبيعية , والتأثيرات المصطنعة من قبل الانسان , فهذه سنة الحياة وسيرورة التاريخ بالبقاء دائما للافضل .
فالنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني وحلمنا باقامة دولتنا العتيدة , مر ويمر بمراحل عديدة منذ ما يزيد عن السبعين عاما , ظهرت خلاله العديد من الحركات والتنظيمات والتجمعات , قادت دفة النضال بايدولوجيات مختلفة وطرق متعدده , منها من اختفي عن الساحة الفلسطنية , ومنها من تضاءل ولم يبقي منه غير الاسم والذكريات وبعض الجذور , ومنها من استطاع أن يغير من شكله وخصائصه ليواكب المتغيرات من حوله , ومنها من ظهر بايدولوجيات وطرق مختلفه ليظهر علي الساحة الفلسطنية وبقوة .
فالحركات الاسلامية كانت متجذرة في الشعب الفلسطيني باسماء مختلفه , ومنذ بداية النضال الفلسطيني مع الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونبة . فالشيخ عز الدين القسام الذي تعلم في الازهر الشريف وتتلمذ علي يد الشيخ محمد عبده , كان اول المجاهدين الذي لم يفصل بين الدين والسياسة , واعد المقاتلين اعدادا اسلاميا بالجوامع وجمعية الشبان المسلمين في حيفا, وبدا في في ثورته ضد الاحتلال الأنجليزي الى ان استشهد سنة 1935 في معركة يعبد مع اثنين من رفاقه , وحمل الراية من بعده الشيخ فرحان السعدي , الذي اعدم وهو في الثمانين من عمره , ومن ثم الشيخ عبد القادر الحسيني , والذي قاد حركة الجهاد في فلسطين ضد الاحتلال الأنجليزي واليهودي الى أن استشهد عام 1948.
وبعد النكسة وهزيمة حرب 48 وضياع معظم الاراضي الفلسطنية تراجعت التنظيمات والحركات الفلسطنية لصالح فكرة تحرير فلسطين علي يد الجيوش العربية , ومن منطلق ان فلسطين هي قضية الامة العربية والاسلامية , وأن الخطر الصهيوني سيمتد من النيل الي الفرات , الى أن خسرنا باقي الاراضي الفلسطنية وانهزام الجيوش العربية في حرب 67 .
وعلي اثر الهزيمة تشكلت العديد من التنظيمات الفلسطنية اليسارية والقومية , وكان سبقها الاعلان عن حركة فتح وانطلاق شرارة الثورة الفلسطنية من جديد لتواكب متغيرات الاحداث , ولقناعة الفلسطنيين ان تحرير ارضهم لن يكون الا علي ايديهم. وأستمرت الثورة متأثرة بالعديد من المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية , والتي أدت بدورها الي بروز احدي التنظيمات احيانا واضعافها أحيانا أخري , الى أن ظهرت الحركات الاسلامية وعلي رأسها حماس , مستفيدة من هذه المتغيرات والتي نسردها بالاتي
• انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي لصالح الاولي , وبذلك فقد الفلسطنيون أهم حليف لهم , مما أدي لتراجع دور التنظيمات الفلسطبنية وعلي الخصوص منها اليسارية والتي كانت مرتبطة بموسكو وحلفائها ارتباط أيدولوجي ومعنوي ومادي .
• اتفاقية كامب ديفد والموقعة بين مصر وأسرائيل والتي علي اثرها وقع الانقسام والتفكك بين الدول العربية, مما أضعف التنظيمات الفلسطنية .
• خروج المقاتلين الفلسطنيين من لبنان علي اثر حرب 82 وتشتتهم في الدول العربية , مما أضعف من هذه الحركات , لحساب أطراف فلسطبنية أخرى , وعلي رأسها الحركات الاسلامية لتغير مراكز القوي في لبنان , لصالح حزب الله المستفيد من نجاح الثورة الايرانية عام 79 , والدعم السوري له.
• خسارة الدعم الخليجي بعد تأييد الراحل ابو عمار لغزو العراق للكويت عام 1990 .
• الطموح الايراني بامتلاك الاسلحة النووية والسيطرة علي الشرق الاوسط , أدي الي الدعم السياسي والعسكري والمادي والمعنوي اللا محدود للحركات الاسلامية الفلسطينية , وعلي رأسها حماس , ولكسب التعاطف الاسلامي والعربي علي قضية محل اجماع من قبل الامة العربية والاسلامية أجمع .
• صعود حزب العدالة التركي بقيادة أردوغان لسدة الحكم بتركيا ونجاحه بتحقيق العديد من الانجازات الاقتصادية والسياسية , وتقديم الاسلام السياسي المعتدل كنموذج مقبول للغرب, وحظي باحترام باعجاب الشعوب العربية, والهام للحركات الاسلامية وعلي رأسها حماس.
• التغيير في المزاج العام في أغلب الدول العربية نحو الاسلام السياسي والمتمثل في حركة الاخوان المسلمين , بعد فقدان الامل بالخلاص من الديكتاتوريات , والتجارب الفاشلة مع الاشتراكية تارة , ومع القومية تارة أخري.
• أتفاق اوسلو وبعد أن تم التوقيع عليه عام 1993 وعاد بموجبه أغلب المقاتلين الفلسطنيين وكوادرهم السياسية الي ارض الوطن , وعقدت عليه الكثير من الامال والاحلام بتحقيق حلم الدولة المستقلة, وبعد اعوام قليلة ادرك الجميع ان هذا الاتفاق يحتاج الي مزيد من التضحيات واستكمال النضال بكافة اشكاله , مع عدو لا يعرف غير لغة القوة , وهذا ما عزز افكار حركة حماس وأكسبها العديد من المناصرين , بعد ان اصاب معظم الكوادر العائده الوهن , وحمي جمع المال والمتاجرة بالوطن لأغراض شخصية , فهذه طبيعة النضال عندما يمر بمراحل طويلة ,ولا يستطيع التأقلم والتكيف مع التغيرات, فالثورة الفلسطنية هي اطول ثورة عرفها التاريخ الحديث , وطبيعي ان يمل البعض النضال ويجلس بيته مستنكفا , والبعض الاخر يريد قطف الثمار مبكرا فيتحول من مناضل الي تاجر بالقضية وقوت الناس .
كل ذلك الي جانب الاسباب التي ذكرناها سابقا أدى الى تراجع حركة فتح ومعها كافة فصائل منظمة التحرير , وتقدم الحركات الاسلامية الفلسطنية وفي مقدمتها حركة حماس , وتجلي هذا التراجع بموت الزعيم ابو عمار وغياب القيادات الشابة وعدم التجديد والتغيير لمواكبة التغيرات من حولنا , مما ساعد الحركة الفتية صاحبة الايدولوجية الصلبة حماس , والتي استفادت من كافة هذه المتغيرات , لتفرض نفسها علي الساحة الفلسطنية وبقوة السلاح وتثبيت حكمها لقطاع غزة من خلال اققتال داخلي دامي كسرت من خلاله حرمة الدم الفلسطني , وكان ذلك أول سقطات الحركة.
فعاشت الحركة بعدها في حصار مطبق ساهمت به معظم الدول الاقليمية والعالمية , اما خوفا من هذة التجربة , او ارضاءا لاسرائيل , ونجحت الحركة في التعايش مع الحصار وتعزيز قوتها دون التخلي عن ايدولوجيتها , ودعمها بذلك صمود الشعب الفلسطيني, والذي وبرهن عل ذلك بحربين ضروس تعرض لهما من قبل الة البطش الصهيونية, استطاع أن يقدم الغزيين فيهما أروع صور التحدي والصمود.
وعلي الارض تعزز الانقسام مما ترك اثاره السلبية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا , ناهيك عن حجم المشاكل الكبري التي يعاني منها قطاع غزة من كثافة سكانية هائلة , وتفشي البطالة واحتياجات الناس للماء والتعليم والسكن وغيره ,وتقييد حريته بالسفر وبعض ممارسات قمع الحريات , ومحاولة أسلمة المجتمع الغزي ,من قبل الحركة , كل ذلك أدى الى حالة من الاحباط والتململ والتشكك والتوهان في عيون يحدوها الامل بمستقبل افضل وتحقيق حلم الدولة المستقلة .
الى أن جاء الربيع العربي وحمل معه الامل بالتغيير لصالح القضية الفلسطنية , وكان اكثر المتفائلين حركة حماس خاصة بعد فوز الاسلاميين بالانتخابات في اغلب دول الربيع العربي وعلي رأسها مصر , فسكبت الحركة ماء جرارها أملا بالغيث القادم , فغيرت تحالفاتها , وانقلبت علي أصدقاء الامس , وكانت هنا السقطة الثانية لها بالتسرع وعدم قراءة الواقع والتمسك بايدولوجيتها علي حساب المشروع الوطني وحساسية التواجد الفلسطيني بدول الشتات , وارتباط القضية الفلسطنية بتغير المناخ الاقليمي والدولي .
والسؤال المهم هنا وبعد سقطات الحركه , والتغيرات في الاسباب التي أوردناها سابقا في بروز التنظيمات الاسلامية والتي أدت الى أعادة الحصار لقطاع غزه , وفقدان الحلفاء ومعاداة أصدقاء الامس , وانحسار التعاطف والتأييد المحلي والعربي للحركة سيقودها للتجديد ومراجعة مواقفها من القضايا المهمه والملحه وعلي رأسها ملف المصالحه , وترميم العلاقة مع النظام الجديد في مصر , وأعادة اصدقاء الامس ,والتخفيف عن الشعب المحاصر , والعمل علي حل مشكلاته اليومية من كهرباء وماء وبطالة وسكن , والاهم اعادة روح النضال واستنهاض الهمم لمواصلة معركته الطويلة ضد الاحتلال , بدلا من اشغاله بمعارك توفير متطلبات الحياة اليومية , دون التخلي عن أيدولوجيتها .
الاجابة سيحملها المستقبل القريب, فالمؤشرات تدل علي ان الحركة تحاول التكيف مع المتغيرات دون ان تقدم المستحقات المطلوبة , معتمدة علي ضعف البدائل للتنظيمات الفلسطنية وعلي رأسها حركة فتح , وفشل المفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطنية والاحتلال , وأملا في عودة الاخوان المسلمين للمشهد السياسي في مصر , ومن منطلق ان لا فراغ مطلق في الكون , لن تجد الحركة أمامها قريبا غير أن تدفع فاتورة المتغيرات وعلي حساب أيدولوجيتها , أو الانحسار تدريجيا , وترك فراغ لا يعرف أحد كيف سيتم ملؤه مما سيفتح الابواب علي كافة الاحتمالات.
Ashraf_alghoul@hotmail.com


