طالب في الاعدادية يعرف بنفسه في حسابه على الـ “الفيس بوك” بأنه “مسلم سني” في بلد مشرقي يشكل السنة فيه اكثر من ٩٩ في المائة.
بنت عمرها ٥ سنوات في بلد خليجي تعود الى امها من روضة الاطفال تبكي وتشتكي بأن زملاءها في الروضة يقاطعونها ولا يلعبون معها لأنهم يقولون إنها “شيعية” وتسأل امها عن معنى ذلك! على مستوى اعلى يتنافس تكفيريون شوهوا الثورة السورية وحرفوها عن مسارها مع حزب الله في قتل آلاف من السوريين الاحياء دفاعا عن مرقد للأموات لا ترقد اساسا فيه السيدة زينب.
وخلفية المشهد المأساوي للتعبيرات التي لا يمكن حصرها هو التخندق في الهوية الطائفية إذ تصبح المميز الاهم في فرز تكتلات المجتمعات مذرية التعايش العفوي الذي ساد قرونا وعقودا طويلة.
في البلدان الخليطة طائفيا مثل العراق ولبنان وبعض دول الخليج يتحدث كبار السن بألم ممض عن سنوات وعقود عاشوها ولم يكونوا يعرفون من هو سني ومن هو شيعي، حيث يتزاوج الناس ويتعاملون في ما بينهم عفويا وطبيعيا من دون الفرز الهوياتي.
قبل ان يضرب المنطقة هوج التيارات الاسلامية (السنية والشيعية) وخطاباتها التي تزعم التعايش والتسامح وكل الكلام الفارغ، كان الناس يعيشون في تعايش وتسامح عاديين، وكان الدين بوجهه الاليف وتفسيراته المعتدلة يُمارس في المجتمعات من منطلق العلاقة الفردية مع الخالق والحب مع المخلوق.
في الحقبة “الاسلاموية” المظلمة صار الدين عنفاً ودما وسياسة قاتلة وجماعية.
وانتشرت التفسيرات الإقصائية والتكفيرية المُستبطنة في المناخ العام وسممته، بل تسربت إلى التعليم المدرسي والمساقات التي تُدرس للاجيال الجديدة.
صار مسيحيو الوطن “نصارى صليبيين” وصار شيعته “صفويين كفرة”، وانخرط الجميع في حفلة انتحار جماعي يكاد لا يُستثنى منها وطن او مجتمع.
في تحليل جذور ما وصلنا إليه نعرف انها تعود إلى التنافس والاقتتال المدمر بين السلفية المتطرفة والخمينية المتطرفة الذي استعر منذ قيام الثورة الايرانية في نهاية السبعينيات وردود الفعل السلفية التي استفزتها. انخرط الطرفان في حرب خطابات مدوية حول من يمثل الاسلام والمسلمين، ووظفت في تلك الحرب كل أساليب الدعاية والهجوم والاعلام، واستنفر كل الماضي البائس وثاراته ودمويته. تم ترحيل المجتمعات إلى قرون سحيقة وعوض ان نعيش في القرن الحادي والعشرين والعالم يصل إلى المريخ وصلنا بسرعة الضوء إلى معاوية وعلي وصفين وكربلاء، وأقمنا هناك.
ونبشنا كل الدماء التي جفت وأعدنا إليها بعبقرية بالغة ومحطمة لونها الاحمر وحرارتها فصارت كأنها سالت اليوم، وبعثنا فيها حياة دائمة، صارت دماء حارة لا تجف ابدا، وكل يوم تلطخ وجهنا، وتملأ افواهنا وتخنقنا.
وحيث لا يوجد هذا الانقسام السني ـ الشيعي تتحول الطاقة التدميرية إلى المسيحيين كما في مصر حيث في حقبة ما بعد سقوط مرسي وحدها تعرض اكثر من اربعين كنيسة للحرق والتدمير اضافة الى عشرات المحلات والصيدليات التي يملكها مسيحيون.
سيقول قائل إن هناك شبهات كبيرة حول تلك الاعتداءات وحول تورط بعض اجهزة الامن فيها للتحريض على التيار الاسلامي وسوى ذلك، وبفرض وجود ذلك فإنه لا ينطبق على كل الحالات ولا ينفي كارثية التحريض الطائفي الكريه والتسمم الجماعي به، والذي لولا وجوده لما استطاعت اية اجهزة او اطراف “مشبوهة” القيام بتلك الاعتداءات ونسبها إلى غيرها.
نحن اليوم نقف على حافة هاوية إن تركنا انفسنا نهوي فيها فإننا سنحتاج عقودا طويلة كي نخرج منه، كما يقول لنا درس التاريخ المرير.
إنها هاوية الطائفية حيث يرقد في قاعها العفن والموت الجماعي وحيث لا احد ينتصر.
غول الطائفية انفلت في بلادنا بشكل لم يسبق له مثيل يأكل الاخضر واليابس، ويطارد الجميع ويدفعهم إلى تلك الهاوية، يحشدهم جماعات ومجتمعات ويقودهم منقادين ومنومين إلى حتفهم الكلي.
يجب أن ينتابنا رعب جماعي من هذا الغول ونصده بكل الجهد والعزيمة لأن المعركة معه معركة حياة او موت.
في الطائفية وحروبها ليس هناك منتصر، بل الكل يخسر والكل يُدمى بالهزيمة.
الطوائف والاديان كما القوميات منزرعة في تكوينات البشر وفي الارض والمجتمعات ولا يمكن خلعها.
لن تكون هناك طائفة او قومية غالبة ظافرة بالمطلق حتى لو ظنت انها هزمت الاخرين.
نار الطائفية تظل تغلي تحت الرماد، والحل الوحيد لإطفائها هو الإقرار الجماعي بالتعايش والاحترام المتبادل، وليس مواصلة الحرب والاتهام والرغبة البدائية بالإبادة والتطهير.
إطار التعايش الذي يمكن أن تتصالح فيه الطوائف والاديان والعصبيات المختلفة من دون اصطراع تبادلي التدمير هو إعلاء الاولوية للانتماء إلى الوطن على الانتماءات الاخرى وعلى قاعدة المواطنة والمساواة التامة. الافراد في كل وطن من الاوطان هم مواطنون اتباع للوطن اولا، ثم لأية انتماءات ثانوية ثانياً. هم مصريون اولا، ثم يأتي بعد ذلك اي ولاء آخر، اسلامي او قبطي.
وهم عراقيون ولبنانيون وبحرينيون قبل ان يكونوا سنة او شيعة، وهكذا. هذا ما يجب ان يتوافق عليه الجميع كفكرة مؤسسة للجماعة الوطنية التي ينتمون إليها، وتكون حجر الزاوية في الدستور والقوانين، وهي ما يجب ان يؤسس لكل ما يتعلمه طلاب المدارس وتمارسه المؤسسات الرسمية اولا ويتبناه المجتمع المدني والديني ثانيا.
عندما تترسخ فكرة المواطنة وفكرة المجتمع والدولة المدنية لا الدينية نواجه جماعيا غول الطائفية ونبدأ في الهجوم المعاكس.
من دون ذلك فإننا سننخرط في دوامات الصراعات الطائفية ونستدعي احقاد الماضي لتكون هي العتاد المسموم في حياتنا السياسة والاجتماعية والثقافية.
ومن دون ذلك نظل ضحايا طوعيين للغرائز البدائية وبكائيات القرون الخالية وتمتص الثارات التافهة لأموات قدامى كل ما هو اخضر وحي في حاضرنا.
من دون ذلك سوف نغلق بوابات المستقبل في وجه الاجيال القادمة، وندفعهم للعيش في الماضي، شباب في عمر الورد لكن كل الذي يفكرون فيه هو الرحيل بعيدا في ماضٍ سحيق للالتحاق بجيش خيالي لعلي او جيش خيالي لمعاوية، وإعلان الحرب الابدية التي لا تموت ضد الآخر، حيث نتيجة الحرب وللطرفين معا هي الموت المحقق والهزيمة المحققة.
Email: khaled.hroub@yahoo.com


