ككل نهايات الأساطير المحشوة بالتراجيديا والدم والدموع كان لا بد وأن يموت البطل، بطعنة سيف أو بضربة رمح وسط معاركه الطويلة التي خلدت سيرته الممتدة على مساحة تاريخ شعب، كبطل لم يتوقف خيله عن الصهيل على بوابات المدن التي حفظت أسماء معاركه في الطريق نحو الوطن، نحو مدينته التي كان يرسم ملامح معركتها وعلى مرمى النظر أو امتداد شعاع ... سقط البطل.
في غرفته الصغيرة هناك كان خريج الهندسة يرسم خارطة الرحيل عندما أصبح الموت خياره الوحيد ليصدمنا جميعا "شهيدا ..شهيدا.. شهيدا" فقد اختار شكل النهاية لتكتمل الأسطورة وينسج حولها من حكايات البطولة وتلك ضرورة لتشبع غرائز الشعوب التي تستمد قوتها من قصص أبطالها الذين عبدوا لها طريق الحرية مع ما تضيفه الذاكرة الشفهية من بطولات وأحداث يصبح الرمز جزءا من المقدس وتستولي الذكرى على الذاكرة فتعود بنا الذاكرة إلى اكتمال الرمز المحمول على امتداد ثلاث قارات قطعها عائدا للوطن في موكبه الأكثر حزنا حين كانت تبكيه الحواري والشوارع وحجارة قطع لها وعدا أن يأخذها معه للقدس بعد حين.
يومها ألقى في وجوهنا لغز الرحيل المحير والذي لا زلنا نبحث عن إجابته وسط حضوره الطاغي على الغياب ولا زال يشعل الأسئلة ونشرات الأخبار والحكايات، يشاغلنا في موته كما حضوره وأكثر، تماما كما أبطال الأساطير الذين يصبح ماضيهم جزءا من حاضر شعوبهم، كيف تمكن منه الموت الذي تربص به طويلا واشتبك معه مرارا في كل المدن وفشل في الكرامة وعمان وبيروت حين احتفل شارون وهو يضع تعاويذه على القنبلة الفراغية لتسقط في حجر عرفات الذي كان ينام كما الرعاة تحت جسر الكولا ؟ ثم إلى تونس في حمامات الشط، لم يهزمه الموت في كل المعارك فكيف تمكن منه هذه المرة؟
هو السؤال الذي يقفز بين رام الله وتل أبيب وموسكو وزيوريخ هو السؤال الذي يؤرق تل أبيب من جديد، تخاف أن ترصد العدالة الدولية بصماتها في مكان الجريمة بعد أن اطمأنت وهي تطوي الصفحة الأخيرة في كتابه، لكنه ياسر عرفات الذي يصحو من جديد ويخوض معركته بعد الموت يظل مصرا على الاشتباك معهم في كل شيء، يصحو ليقاتل.
في الذكرى التي تلسع القلب بمرارتها نستعيد شريط الأحداث ونتذكر كل شيء في سيرته: مكتبه البسيط، بيته المتواضع، قميصه المرتق يدويا، ضحكته التي تشبه الأطفال وغضبه الذي يشبه الزلزال،.. كان عصيا على الفهم والتفسير، مجموعة من الألغاز التي أكملها بغيابه ونحن نبحث عن إجابة قدمها مع أول إغماءة تعرض لها فقال بأسى، "يبدو أنهم وصلوني هذه المرة" كان يعرف قاتليه، ويعرف من صوب بندقيته طويلا ضده هو من سلط إشعاع البولونيوم هذه المرة.
أتذكرون حين كانت وسائل الإعلام تنقل الخبر الأهم بأن "جنود الاحتلال يعتلون سطح عمارة خلف مكتب الرئيس ويسلطون إشعاعا على شباك غرفته؟ لم يؤخذ الأمر على محمل الجد ولم يتم التمويه بنقل الرئيس إلى غرفة أخرى لا يمكن الجزم ولكن ينبغي العودة لكل شيء لأن تجريم إسرائيل بالقتل يعيد فتح ملف الصراع والمفاوضات في صالح الفلسطينيين حين يكتشف أنها قتلت الحائز على جائزة نوبل للسلام وتصرفت كما يفعل رجال العصابات والمافيا ضد زعيم شعب، مطلوب أن تشكل لجنة تحقيق دولية على غرار قتل الحريري هناك فرصة لضبط إسرائيل متلبسة بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد وإدانتها وتعريتها دوليا.
يجب أن تعود القضية لصدارة الأحداث لأنه الرجل الذي تقدم الصفوف متكئا على جسده النحيل كجسر لعودة شعبه ليصبح زعيمهم بلا منازع ورمزهم الذي جسد رمزيته بتفاصيل الوطن حتى صار هويته الأولى وهو يعيد ترتيب كوفيته كما خارطة فلسطين الذي يتوجها بما يشبه الأقصى حتى أصبحت تلك شهادتنا جميعا وجواز سفرنا إلى قلوب العالم وعقولهم، كان يمارس الرمزية بكل شيء ليجسد واقعا على درجة من القسوة وكأن كان عليه وحده أن يواجه مؤامرة التاريخ الأكثر بشاعة التي اختطفت وطنه وشردت شعبه وألقت به إلى صحراء التيه ولكنه رفض أن يطأ اليأس عتبة جبهته ولم يسمح للصولجان أن يسقط من يد الذين سقطوا في ثورة 36 فيرتدي كوفية زعيمهم.
في يوم الذكرى السابقة في الحادي عشر من تشرين الثاني الماضي كانت الطائرة عائدة بي من واشنطن إلى باريس كان جاري في المقعد شابا هنديا يدرس الدكتوراه في الولايات المتحدة، يبدو في النصف الثاني من العشرينيات وكعادة المسافرين في الرحلات الطويلة لكسر الملل كنا نفتح حوارا يبدأ بالتعارف وبعد أن قدم نفسه قلت له أنا من فلسطين اعتذر الشاب بأنه لم يسمع عنها، قلت، نحن بجانب مصر وهو يكرر اعتذاره، ثم نحن الذين نخوض صراعا ضد إسرائيل ففاجأني بأنه لم يسمع عن إسرائيل حتى، وأنا استدعي التاريخ والجغرافيا حتى لا ينقطع الحديث قائلا الأرض المقدسة ومدينة القدس وهو يعتذر، ثم نحن الذين كان رئيسنا منذ شهر ونصف الشهر هنا في نيويورك وحصلنا على عضوية مراقب في الأمم المتحدة والرجل يكرر اعتذاره بخجل وبعد أن وصلت إلى مرحلة الإحباط قلتها بعفوية يائسة، أتعرف ياسر عرفات؟ قفز الرجل وكأنه تحرر من حرج الموقف قائلا، نعم الذي يرتدي الكوفية؟ نعم تعرفه كل الهند هل أنتم شعبه؟ وكان سؤاله الأخير يعكس عظمة الرجل بنظره لم يكن عرفات رئيس الشعب بل كان لعرفات شعب.
أسئلة الرحيل المؤرقة تعود مع كل ذكرى تبدو متوهجة كحدث عصي على النسيان لتبقى الأسئلة معلقة وحائرة تجوب العواصم باحثة عن إجاباتها وأولها هل يمكن أن نصدق أن فرنسا التي أخذت ما يكفي من العينات لم تعرف كيف قتل الزعيم؟ فهي دولة كبرى والمسألة تصبح أمنا قوميا فرنسيا وليس مرضا صحيا عابرا حيث عليها اكتشاف ذلك لإنتاج الترياق هذا إذ لم يكن البولونيوم وترياقه جزأين من الأسلحة البيولوجية الفرنسية وإذا ما سرنا بهذا الافتراض المنطقي هل تواطأت باريس بالصمت وتآمرت مع إسرائيل؟ نحن بحاجة لإجابات من تلك الدولة حتى تبرئ نفسها من تهمة التواطؤ، أم أنها أبلغت السلطة بذلك؟ ويتدحرج السؤال عن مدى معرفة السلطة وإذا كانت تعرف هل صمتت طوال سنوات حتى يتم فتح الموضوع من قبل فضائية الجزيرة ومحققيها؟.
لكنه ياسر عرفات يخوض بعد موته معركة نيابة عنا حين هدأت معاركنا ويدلنا من جديد على الطريق نحو محاكمة إسرائيل وعزلها، يحشرها من قبره فمن يسمع ردود فعل إسرائيل على نتائج فحص الجريمة يرى مأزقها ويشعر بارتباكها كجان يدافع عن نفسه أمام رجل يصر على الاشتباك بعد موته ....هو الرمز الذي احترت وأنا ابحث عن عنوان كبير للمقال يليق بالمقام ومهابة الذكرى فكان "ياسر عرفات" عنواننا الأكبر دوما.
Atallah.akram@hotmail.com


