لعل في توقيعه باللون الأحمر ما يشي بقدره. خطان متعامدان ممتدان يتجاوزان الحدود وحتى القواعد المسموحة، لن يخطئ المرء في قراءتها الرمزية، الإشارة الى العدد الرقم أحد عشر. يا أبتِ إني أرى أحدَ عشرَ كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. وربما إذا تلاقى الخطان المتعامدان بانحراف بسيط من الأسفل، فإن الشكل الرمزي والذي يعكس ما يجول في الخافية الباطنية، يرسم عندئذ علامةً لا يخطئها التأويل عن إصبعَي شارة النصر، 11 او الرقم 7 التي طالما لوح بها أمام شعبه، هازئاً من عدوه وليؤكد لشعبه على يقين بالنصر.
لم يمل طوال حياته في التعبير عنه شاء من شاء وأبى من أبى، كقائد ملهم.
ذاك الرقم أحد عشر المكرر في قدره، وذاك هو التحوير في تلاقي الخطين مشكلا الرقم سبعة في قصة رجل كان متعلقا برمزية الأرقام، حتى لكأنه من طول ترداده عبارة "الرقم الصعب" اختزل كل قصته صراعاته وحروبه كما قصة شعبه بهذه الدلالة الرمزية، "نحن الرقم الصعب".
لرجل مسكون بالرمزية بدءاً من طريقة ارتداء كوفيته الى مسدسه وبدلته العسكرية وانتهاءً بتوقيعه. خطان متعامدان ممتدان امتداد الزمن، لا يقيمان وزناً للقيود الموضوعة او المفروضة كما الحواجز والعوائق المحتملة، في تجاوزهما الحدود. وبخط يفصح عن وضوح الحروف والكلمات دون زخرفة او تكلف، بالحرص على وضع النقاط فوق الحروف، تلكم هي وضوح الرؤية واتساق الفكر مع الشعور، الانفعال العميق.
في توازن يفصح عن قوة النظام لرجل كان هو النظام، حتى في غابة السلاح او انقسام الجغرافيا. الواحد في الكل والكل في الواحد، وكان هو في نظر شعبه ولا زال الواحد الكل.
هكذا في حياته وبعد تسع سنوات من مماته على نفس درجة التوتر الضغط العالي، تبقى يا عرفات. تهدأ درجة التوتر العالي او تنخفض قليلا، لكن فقط لتعود مجددا عاليا على درجة مئة حد الغليان، تتحكم بهذا الخفقان المتواتر وتصعده في كل مرة، وكأنك تهزأ من جميع الذين اعتقدوا أخيرا انهم دفنوك، ليصعد الغليان في دماء شعبك ويرد الشعب كله بصوت واحد نريد القصاص والثأر من القاتل. حتى لو كان قاتلك الحقيقي تحول الى جثة هامدة، فالشعب يريد الاقتصاص من العصابة كلها مجموعة المتآمرين الذين اشتركوا في تنفيذ الجريمة، جريمة قتلك يا عرفات التي لم تُطو تحت القبر، ولم تستطع الرمال التي تغطي مثواك ان تسدل الستارة عليها.
واليوم كما كنت تفعل في حياتك تمارس يا عرفات لعبتك التي طالما اجدتها، ولم يتقنها غيرك بإلقاء جثتك على الطاولة، متحديا هذا العالم ومحرجا له تحشره في الزاوية. ميتا يا عرفات تقوم من القبر مثل قيامة المسيح المُخلص ابن شعبك، المسيح قام ليهزأ من قاتليه وصالبيه وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. ولتبصق في وجه أعدائك ونفاق المجتمع الدولي الذي سمح بقتل أول رئيس انتخبه الشعب الفلسطيني، والرجل الذي استحق "نوبل"، لأنه كان صانعا للسلام. فماذا تبقى للعالم ان يقوله؟ فهذا هو المقتول، هذه هي جثته وهذه هي نتائج التحاليل، وهذه هي زوجة المقتول وشعبه اللذان يتمسكان بقضيته، يريدان معرفة القاتل وذاك هو القاتل. وما تبقى هو البناء على الشيء بمقتضاه.
وانها لحظة الحقيقة محك الحقيقة للعالم كله، اما ان يقف العالم أمام ممارسة الدولة المارقة للاغتيال والإرهاب، او هي العلامة اللحظة الفاصلة التي تشي بانكشاف زيف ادعاء العالم، سقوط الحضارة العالمية في مفاصلها الثلاثة: الديمقراطية وصنع السلام وحق الشعوب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
لكن مهلا وعلى رسلك حذار من هذا الاسترسال، وكأننا قريبون من إنصافنا. فالخبرة التاريخية تعلمنا ان لعبة الأمم الشيطانية سوف تجد في كل مرة وسيلتها المبتكرة للتحايل والالتفاف على مظلمة الفلسطينيين، وإسرائيل لن تعدم هي الأُخرى الوسيلة.
اذا كان ما يحدث في كل مرة هو ان المشكلة عندنا نحن الذين لا نقف مع انفسنا، نحن الذين ليس لنا. وهكذا فإن كل الفلسطينيين والعالم يعرفون بمن في ذلك الأطفال ان إسرائيل هي التي قتلت ياسر عرفات، لكن الفلسطينيين جميعهم يريدون ان يعرفوا من هو الفلسطيني الخائن هنا، الذي قام بدور الأداة. وكل الفلسطينيين لا يريدون ان تتكرر مأساة النهاية، التي انتهى إليها رأي المحكمة الدولية العليا الاستشاري، فيما يخص الجدار العنصري، وتقرير المحقق الدولي غولدستون فيما خص المذبحة في غزة عامي 2008 و2009، وما يثير غضبهم وحيرتهم ان يروا الى حقيقة ان قناة الجزيرة وهي مشكورة هنا، هي من حركت السماوات والأرض في إعادة بعث قضية اغتيال عرفات، بعد تسع سنوات من إدامة الصمت. فيما المسؤولون لدينا يتحدثون بالعموميات.
واليوم سوف يجد الإسرائيليون طرقهم الالتفافية وهاكم بعض طرائق وأساليب التحايل:
الضغط على الرئيس أبو مازن بطرح معادلة قوامها الذهاب الى محكمة الجنايات الدولية او التقاضي الدولي، مقابل إفشال المفاوضات ومع ما يعنيه ذلك من ابتزاز الرجل بالإفراج عن باقي الأسرى ما قبل أوسلو.
اثارة الارتباك والبلبلة للعب على ثغرات مفتعلة بين التقارير وكذا أولوية التقاضي المحلي ام التقاضي الدولي فرنسا على سبيل المثال.
لكن من حسن الحظ هذه المرة أن الرأي العام الفلسطيني والعالمي بات معبأً ضد مثل هذه الفضائح الدولية المشينة، كما هو حاصل على خلفية فضائح التجسس الأميركي حول العالم، وبات الفلسطينيون كما العالم يبدون اكثر حساسية تجاه هذه الأفعال المشينة، التي يقوم بها أناس يتصفون بالغرور والغباء في غياب من يردعهم او يقول لهم لا تفعلوا. ولذا فإن الرهان اليوم هو على هذا الوعي المتزايد الذي يملكه الفلسطينيون، بحيث لا يمكن ان يقبلوا بأي تخاذل تبديه السلطة في عدم الذهاب الى محاكمة دولية، على غرار قضية اغتيال رفيق الحريري. او عدم الكشف عن حجم الاختراق الأمني الإسرائيلي للدائرة التي كانت تحيط بعرفات، إذا كانت القضية تطرح سؤالا أو احتمالا من هذا القبيل يجب فحصه. وذلك من اجل إنجاح مفاوضات جدية، بالعمل على خطين متوازيين خطي عرفات المتعامدين، والذي يغذي ويدعم واحدهما الآخر، غصن الزيتون والبندقية، التفاوض والقتال معاً. والقتال قد لا يكون بندقية، انه أيضا استعمال ذكي لعناصر تأثير نملكها، يمكن ان يكون تأثيرها أكثر، من قبيل المحكمة الجنائية الدولية لكي يمكن إيقاف شعر رأسهم حقاً.


