ما زالت المصالحة تدور في دائرة مفرغة، رغم المقترحات والخطابات والبيانات والمبادرات ، فقد أعلن أحد قيادي حركة فتح في غزة أن السيد عزام الأحمد مستعد للذهاب إلى غزة للتوقيع ولتنفيذ اتفاق المصالحة وذلك قبل يوم واحد من خطاب السيد / إسماعيل هنية، حيث أن الخطاب رغم ما به من بعض المقترحات الايجابية والتي تتركز بدعوة الرئيس أبو مازن لتشكيل حكومة الوفاق الوطني فوراً وتحديد موعد زمني لإجراء الانتخابات إلا أن هذه الدعوة لم ترفق بدعوة الرئيس أبو مازن للحضور إلى غزة واعتبار جميع الحكومات بما في ذلك حكومة غزة كحكومات تسيير أعمال حتى يتم تشكيل حكومة الوفاق الوطني لتصبح مبادرة متكاملة مما أعاد الأمور إلى المربع الأول ، خاصة بعد ردود الفعل الرسمية من كل من حركتي فتح وحماس والتي استمرت باتهام الآخر و التخندق في محور ما ومحاولة استقطاب قوى المجتمع السياسية والمدنية باتجاهه على حساب المحور الآخر.
واضح ان الرئيس أبو مازن ما زال يراهن على مسار المفاوضات برعاية الولايات المتحدة ،ومن غير المنطقي وفق رؤيته ان يقدم على خطوة المصالحة مع حماس في ظل أجواء المفاوضات التي تمر في أوجها الآن ، خاصة إذا أدركنا محدودية مدة التفاوض المخصص لها تسعة اشهر فقط لاستكمال كافة الملفات العالقة وتحديداً تجاه قضايا الحل النهائي، حيث ان المصالحة مع حماس تعنى اغضاب كل من الولايات المتحدة واسرائيل وبعض المحاور الاقليمية التي اصبحت تصطف في مواجهة حركات الاسلام السياسي ، كما يتضح ايضاً أن حركة حماس ما زالت تراهن على عدم استقرار الوضع بالاقليم الذي ربما سيستقر لصالحها في نهاية الامر وفق اجتهادات البعض منها في ظل حالة الاضطراب الكبير الذي يشهده وتبدل المواقف الدولية وتذبذبها، بما يشير بإمكانية اصطفاف العديد من العواصم العالمية والإقليمية ذات التأثير الكبير بالإقليم لإسنادها إذا ما أدركت انها أي حركات الإسلام السياسي وحدها هي التي ستحقق الاستقرار المطلوب بعد فترة من الفوضى على قاعدة تضمن المصالح والاستقرار لكل بلدان المنطقة بمعنى العمل على تحقيق استقرار هش يحافظ على الحكم والسلطة في اطار من التشظي الطائفي والجهوي أي في إطار تفكيك الدول وإبقائها هيكلاً غير قادر على التحكم بمصيره الداخلي وبموارده وسياساته.
ويشير كل من أداء الحركتين انه لم يتم الاستفادة من التحولات والمتغيرات العربية ، التي تكمن أحد دروسها الهامة في عدم الرهان على العنصر الخارجي والاهتمام بأولوية التوافق الوطني، فالاستقطاب الحاد محلياً و الاستقواء بحلفاء الاقليم أو الخارج أديا إلى مزيداً من التفتت والتشرذم والصراع الذي تحول في بعض البلدان إلى صراع دموي حاد هدد بتحويل تلك البلدان إلى دول فاشلة غير قادرة على الاحتفاظ بمكوناتها الداخلية عبر الاستنزاف البشري والمادي بها بحيث اصبح من الصعوبة بمكان استعادة وحدة نسيجها الاجتماعي والمستند إلى مبدأ سيادة القانون وتحقيق الدستور التوافقي عبر المؤسسة الديمقراطية كقاعدة رئيسية له.
إن الاتفاق على عقد اجتماعي داخلي ينظم العلاقات ويضبط الخلافات ويحلها بطرق سلمية وقانونية هو الدرس الأهم في البلدان العربية التي تمر بمرحلة انتقالية من الشمولية إلى الديمقراطية والتعددية والمواطنة .
إن تجنب الإقصاء وتحقيق الشراكة المبنية على فكرة المواطنة والتعددية والتسامح ضمن آليات ديمقراطية ودستورية ناظمة هو المخرج الذي سيشكل الحل للمأزق الذي يمر به العمل الوطني الفلسطيني، وخاصة مأزق الاستقطاب الذي أدى إلى تعميق حالة الانقسام السياسي والجغرافي .
من الهام وأمام حالة الاستعصاء والتخندق والمراوحة بالمكان وفشل العديد من المقترحات والمبادرات الرسمية الصادرة عن القوتين الرئيسيتين المتخاصمتين بالساحة الفلسطينية أن يتم تفعيل دور قوى المجتمع الحية باتجاه الضغط والمناصرة من اجل انهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، فإذا كانت الشعوب العربية انتفضت تحت شعارات الحرية والديمقراطية والكرامة وإسقاط أنظمة الفساد والاستبداد فإننا بحاجة إلى حراك شعبي مجتمعي يعمل على انهاء الانقسام ويشكل نظام سياسي فلسطيني مبنى على المشاركة والديمقراطية والتعددية ، يستطيع ان يعيد بناء الهوية الوطنية وفق برنامج سياسي كفاحي قادر على مواصلة النضال ومن اجل تحقيق حقوق شعبنا بالحرية والاستقلال والعودة .
لا يمكن التصدي لحالة الانقسام أمام حالة الاستعصاء والاعتماد على الرهانات الذاتية والتي تدعمها الامتيازات الناتجة عن التحكم بالسلطة لهذا الطرف أو ذاك إلا باستخدام وسائل الضغط والتأثير المختلفة القادرة على إلزام القطبين المتخاصمين من الاستماع إلى رأي المواطنين وسوادهم الأعظم المتضرر من هذه الحالة بمجتمعنا.
ولكن من الواضح ان قوى المجتمع السياسية والمجتمعية منحازة أو مستقطبة هي الأخرى بين هذا القطب أو ذاك وتدور في فلك إحدى القطبين " فتح وحماس " وذلك بتفاوت نسبي بين هذه القوة او تلك .
ما يحدث ان هناك حالة من التكيف مع الانقسام والانزياح بما يضمن عدم تضرر هذه القوة أو تلك سواءً كانت سياسية أو مجتمعية ، علماً بأن أحد أسباب الانزياح يتجسد بالمصالح الاقتصادية والإدارية والمالية المرتبطة بهذا القطب أو ذاك ، كما يعود السبب الآخر إلى عدم الرغبة بالتصادم وتأمين المصالح مع القوة التي تبسط وجودها في هذه المنطقة أو تلك .
إننا نتحدث عن نخبة ارتبطت بنظام سياسي أسسه اتفاق أوسلو مبنى على فكرة الزبائنية والمصالح وذلك باستبدال مسار التحرر والمقاومة بمسار المفاوضات والسلطة ، حيث ساهم هذا النظام بدمج مصالح النخبة في بنية النظام وذلك في اطار البحث عن الامتيازات والمكتسبات الأمر الذي أبعدها تدريجياً عن معاناة الجماهير الفقيرة والمسحوقة وأبعدها كذلك عن مبررات وجود تلك القوى التي تكمن بالنضال من اجل التحرر ومن أجل حرية وكرامة وحقوق المواطنين ومن اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
إن ما تقدم يعكس أزمة القوى السياسية والاجتماعية الغير قادرة على التأثير بالحيز العام بسبب الخلل البنيوي الذي يعتريها، الامر الذي اضعف من آليات الضغط والتأثير والحشد حيث ان تلك الآليات بحاجة إلى قوى مستقلة ومتضررة حقيقية من الانقسام وذات مصلحة بتحقيق الوحدة الوطنية على اسس كفاحية وديمقراطية .
وعليه فمن الصعوبة بمكان تحقيق مبادرات الحشد والضغط من اجل انهاء الانقسام من نخبة ذات مصالح ومتكيفة مع الحالة الراهنة، الأمر الذي يتطلب التركيز على القوى الاجتماعية المتضررة وبالمقدمة منها الشباب والعمال المتعطلين عن العمل والمزارعين علماً بأن الشباب كقوة اجتماعية صاعدة يعتبروا عماد التغيير وقد ساهموا في مراحل النضال الوطني الفلسطيني بتحقيق الجديد سواءً على المستوى الوطني أو الديمقراطي ، كما ساهموا بتحقيق التحركات الشعبية العربية من اجل مجتمع واعد .
إن الشباب وقوى المجتمع غير المنحازة سياسياً واقتصادياً هم المؤهلين بلعب الدور الرئيس من اجل المساهمة بالضغط كوسيلة رئيسية لانهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية .


