يبدو أنه من المبكر تقييم تجربة الانتقال نحو الديمقراطية في بلدان الربيع العربي، حيث أنها في سيرورتها التاريخية لم تكتمل بعد، على الرغم مما يشي به المشهد من تعثرات وتدخلات خارجية غير مسبوقة لم تشهدها على هذا النحو أي من تجارب الانتقال نحو الديمقراطية في أي من تلك البلدان التي شهدت التجربة في مناطق مختلفة من هذا الكون سواء في اوربا الشرقية أو في امريكا اللاتينية. حيث تركت تلك التجارب لتكتمل وفقا لمفاعيلها دون تدخل يشبه ذلك التدخل السافر الذي تشهده بلدان الربيع العربي أو بتدخل مقبول لم يشكل سببا لعدم اكتمال التجربة او وصولها لنهايتها. ويبدو أن هناك شعور آخذ بالتعزيز بأن المنطقة العربية لن يسمح لها باكتمال مشروعها الحضاري وبالتصالح مع حاضرها ومستقبلها وبالانتقال نحو الديمقراطية. إن ذلك قد يفسر حدة التدخل الخارجي والذي يظهر بأنه لاخطوط حمر لحدود ذلك التدخل حتى لو وصل الأمر إلى تفتيت وحدة التراب الوطني وتشظية الهوية الوطنية الجامعة لهويات مصطنعة، يجري البحث عنها وتعظيمها أو حتى لخلقها في عملية اعادة اكتشاف مريعة "للذوات". ما قام به مواطنو دول الربيع العربي وأعني، على وجه الخصوص مصر وتونس، يرتقي بدلالاته إلى مستوى الفعل الكوني من تغيير سلمي لأنظمة مستبدة وفاسدة تعاملت مع الحيز العام كما لوكان ملكا خاصا أو عزبة عائلية.
لا شك ان كل حالة هي استثنائية وفريدة بذاتها ولايمكن لتجربة أن تعمم أو تستنسخ أو تصدر، ولكن كل التجارب التي شهدتها المجتمعات هي تجارب انسانية قد تتشابه أو قد يستفاد منها نجاحات أو اخطاء، ومن بينها التجرية الاسبانية في الانتقال نحو الديمقراطية. وقبل تناول التجربة نفسها أرى بأنها تستوجب التأمل العميق فيها لسببين أساسيين:
اولا: ان عملية الانتقال قد اخذت بعدا مهما وممكنا بوفاة ديكتاتورها فرانكو الذي حكمها بالدم والنار حوالي 37 سنة والتي بدأت بانتهاء الحرب الأهلية (1936-1939) حتى وفاته في العام 1975.
ثانيا: أن الانتقال لم يتم بانقلاب او ثورة بل بتغيير النظام السياسي ومؤسساته من خلال الاشتباك السلمي مع النظام نفسه في ظروف معقدة، انتهت بالانتقال نفسه وبالتأسيس لشراكات سياسية، كانت غائبة لأربعة عقود، وهي الشراكات التي لم تكن قسرية او اقصائية، وهو مامكن المجتمع من التوافق على قواعد التغيير والانتقال وشكله.
أسس حكم الجنرال فرانكو في مراحله المختلفة نظاما دكتاتوريا عسكريا مستبدا ومتسلطا، تشكلت أعمدته أساسا من الجيش والحزب الاوحد (فلانخ اسبانيول) والكنيسة الكاثوليكية وقد ساهمت الظروف التي مرت فيها اسبانيا في إحكام قبضته على الدولة ومؤسساتها وباعادة انتاجها بالطريقة التي مكنته من الحكم لما يقرب الأربعة عقود مستحضرا كل ما هو فاشي، من شوفينية قومية وتعصب كاثوليكي وعداء فاجر للشيوعية ولليبرالية. وقد تسببت الحرب الاهلية وحدها والتي توجت بسقوط الجمهورية وانتصار الفاشية بقيادة فرانكو في سقوط 3 ملايين اسباني وتشريد حوالي 2 مليون خارج اسبانيا وتنفيذ احكام الاعدام في حوالي 100 الف اسباني واختفاء لعشرات الآلاف. وتميزت فترة حكمه بغياب للدستور ووبانتهاكات واسعة ومنظمة لحقوق الانسان الاساسية وللحريات العامة كما وقام بحظر العمل النقابي والأحزاب السياسية لما تقوم به من "زرع للانشقاق في المجتمع".
شهدت السنوات الأخيرة من حكم فرانكو تطورات هامة شكلت حالة ضاغطة على النظام فرضتها أولا، المقاومة، من خلال العمل السري في التعبئة والتحشيد التي كان عمودها الفقري الحزب الشيوعي وثانيا، التطورات الحاصلة في دول الجوار في سياق انجاز الوحدة الاوربية (السوق الاوربية المشتركة) وثالثا، التغير الحاصل في موقف الكنيسة التي شكلت دعما معنويا للنظام على مدى عقود. ساهم ذلك في تخفيف نسبي لقبضة النظام الأمنية. تلا ذلك تعيينه للملك خوان كارلوس في تطور ذو دلالة واهمية خاصة بعد تزايد الضغوط عليه للقيام بعملية للاصلاح الداخلي، وقد كان للملك كما سيظهر لاحقا دورا مهما ساعد في الانتقال نحو الديمقراطية. وبوفاة فرانكو الذي بدا واضحا أنه مؤمن بالاصلاح السياسي بالافراج عن المعتقلين السياسيين وكلف الشخصية الليبرالية اودولفو سواريس ليرأس الحكومة الانتقالية الاولى من ممثلي المعارضة ومن رموز النظام القديم من الاصلاحيين، وكان من أبرز ما انجزته الحكومة هو وضع قانون جديد للانتخابات والاستفتاء على برنامج للاصلاح السياسي في العام 1976، وهو العام الذي اجريت فيه الانتخابات لأول مرة، وهو ما أتاح لمختلف الأحزاب ان تمثل في البرلمان المنتخب.
وتشير تطورات الأحداث وعملية الانتقال لحقيقة ان معارضي فرانكو كان موجودين ويعملون في الخفاء وبموته فإن جاهزيتها النسبية كانت متوفرة إلى حد مقبول حيث أن العملية لم تبدأ من اللاشيء، فالجاهزية وإن لم تكن كتملة فإنها كانت معقولة بالدرجة التي سهلت ذلك الانتقال لاسيما ما يتعلق بوضوحها الفكري ووضوح مطالبها.
يفصح التأمل العميق لعملية الانتقال عن حالة متميزة من التوافق بين الفاعلين والفرقاء السياسيين، قوى النظام ومؤسساته الديكتاتورية الحاكمة من جهة ومختلف قوى المعارضة السياسية من ليبراليين وشيوعيين واشتراكيين وممثلين للنقابات والاتحادات المختلفة والكنيسة من جهة اخرى. إن التوافق لم يكن له أن يتم لولا التنازلات الكبيرة التي قدمها كل طرف والتي بدونها لم يكن ممكنا له أن يتحقق. وفي دلالة بالغة الأهمية شهدت عملية الانتقال نحول الديمقراطية تحولا آخر طال القوى والأحزاب السياسية نفسها، مكنت من ذلك التوافق، فلم يعد أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ولم يعد لا ممثلي النظام ولا الحزب الشيوعي ما كانا عليه قبل ذلك بسنوات. إن الأحزاب التي تنطلق من امتلاك الصواب المطلق وما تدعيه من الدفاع عن مصالح الجمهور او تمثيله دون القيام بمراجعة هذه الفرضيات والقيام باصلاحات بنيوية داخلية لخلق حالة من التوازن والتوافق كشرط أساسي للاتفاق لا يعدو عن كونه خرف ايديولوجي وتضليل سياسي لايمكن أن يحقق أي انتقال فعلي نحو الديمقراطية بل انه سوف يكون حتما منتجا للاستبداد. إن التوافق لايمكن ان يتم الا في حالة من التسامح مع الفرقاء، فهناك من قدر لهم ان يبقوا أحياء لأن خصمهم على نفس طاولة التوافق لم يظفر بهم لقتلهم. فلا النظام استطاع التخلص من المعارضة ولا المعارضة استطاعت الانقلاب على النظام وهو ما أسس حالة موعى بها من التوازن بين مختلف الفرقاء.
ظهر ذلك التحول بشكل ملحوظ في المراجعات التي قامت بها مختلف الاحزاب، كالحزب الشيوعي الذي مثل عصب المقاومة الاسبانية من جهة والحزب الشعبي الداعم للدكتاتورية من جهة أخرى، حيث توجت تلك المراجعات في تحول الحزب الشيوعي من تبني ديكتاتورية البروليتاريا إلى تبني الديمقراطية الآوربية لاحقا ركب الأحزاب الشيوعية الاوربية، وبالمقابل شهد الحزب الشعبي تحولا جوهريا نحو الديمقراطية وافتراقا عن الديكتاتورية والفاشية، كان لتلك المراجعات سببا في طمأنة الخصوم السياسيين وأسس لممكنات حقيقية للشراكة السياسية وهو ما ساعد على التوافق بين الأحزاب الثلاثة الأساسية الشيوعي والاشتراكي والشعبي وجعل من اليسير الاتفاق حول كثير من الاجراءات والتشريعات وعلى وجه الخصوص الدستور الجديد في العام 1978 التي لم يكن له أن يتحقق الا بموجب تلك المقدمات الضرورية والممرات الاجبارية من التوافق.
وقد أخذ التوافق أيضا بعدا مهما وملفتا في ذلك المتعلق بتوافق قوي المعارضة نفسها، حيث شكلت التحركات والضغوطات الشعبية عاملا دفعها نحو توحيد صفوفها وتعزيز التنسيق فيما بينها وهو ما نتج عنه تأسيس ما عرف باسم "لجنة التسعة" والتي ضمت شخصيات اختارتها المعارضة بمختلف الوانها أوكلت اليها مهمة التفاوض مع السلطة حول مختلف القضايا.
تشير التجربة الاسبانية إلى أهمية التدرج في عملية الانتقال حيث تم التوافق أولا على قانون للانتخابات وآخر للاصلاح السياسي قبل أن يتم اقرار الدستور بعد ذلك بسنتين وبعد ثلاث سنوات من وفاة فرانكو. لقد أحسن الاسبان صنعا في عدم الاقتراب من إعداد دستور جديد في المرحلة الأولى لسقوط النظام على الرغم من الحاجة الضرورية والموضوعية له، ذلك في ظني، مكن المجتمع من الانتقال خطوة بخطوة نحو التوافق على الدستور وصياغة عقد اجتماعي جديد، وهو مالم يكن ممكنا الاقتراب منه دون تهيئة المجتمع لذلك واشراك مختلف مكوناته وتعبيراته السياسية والاجتماعية والثقافية في اعداده والمشاركة في صياغته. ولولا التوافق ما كان بالامكان اعداد الدستور الذي وان لم يكن مثاليا، فإنه كان محصلة للتسويات المقبولة والممكنة والمتوازنة بين مختلف الفرقاء.
إن الشروع في صياغة الدستور فور سقوط نظام الاستبداد وفي ظل أوضاع بالغة الهشاشة وعدم تحرير العمل الحزبي والسياسي وتمكين المواطنين من مباشرة فعلهم، كان سوف يتسبب في انتكاسة مؤكدة كانت سوف تصيب حتما عملية الانتقال نحو الديمقراطية في مقتل.
ذلك كله لم يكن ليعني أبدا ان عملية الانتقال للديمقراطية كانت سهلة وتسير بيسر، فكما قامت القوى الديمقراطية بتجميع قواها فإن بقايا الفاشية العسكرية حشدت قواها وقاومت تلك العملية ، وحاولت اجهاضها في غير مرة، حيث قام الحرس الوطني في فبراير من العام 1981 بمحاولة انقلاب فاشلة باحتلال البرلمان واحتجاز عدد من الوزراء والنواب وفي نفس الوقت بتحريك عدد من القوات من عدد من المدن لمحاصرة مدريد، وقد كان لموقف الملك خوان كارلوس دورا حاسما في افشاله وفي نزع الشرعية عنه.
يمكن القول بأن أبرز عاملين شكلا نجاحا لعملية الانتقال ما أشرنا اليه من دور للملك ورئيس وزرائة سواريس في الالتزام بدعم الاصلاحات السياسية وتسهيل التوافق بين الفرقاء، والعامل الآخر متعلق بعملية الاصلاح الداخلي في الاحزاب نفسها والتي شكلت سببا اساسيا لنجاح التوافق كشرط أساسي لعملية الانتقال. إنه من غير الممكن ان يقوم غير الديمقراطي من الاحزاب بقيادة العملية الديمقراطية نفسها، كما في القول العربي المشهور "فاقد الشيء لايعطيه". إن عملية الانتقال العامة نحو الديمقراطية تشترط عملية الانتقال الخاصة بالديمقراطية أي تلك المتعلقة بالأحزاب نحو مزيد من الديمقراطية الداخلية والتحرر من جمود الايديولوجيا وصيغها كضمانة لطمانة مختلف مكونات المجتمع بأن مآسي الاستبداد والشمولية والانقلاب على الديمقراطية سوف لن تتكرر، إن الحزب السياسي هو عصب الانتقال نحو الديمقراطية واداته الأساسية بما يعني ان إصلاحه جزء من العملية نفسها ومن واجبها الاصيل تجاه المجتمع ومكوناته.
ويبقى الضعف الرئيسي في تجربة الانتقال الاسبانية في قضيتين اساسيتين لم يتم حتى الآن التصالح معهما الاولى، مشكلة اقليم الباسك حيث لم تفلح جهود المفاوضات في تسوية هذه القضية ولازال خيار العنف قائما كخيار لحركة ايتا المطالبة بالانفصال عن الوطن الأم، والثانية، أنه لم تتم خلال هذه العملية محاكمة من ارتكبوا الجرائم بحق المواطنين الاسبان في حقبة فرانكو ولاتقديم النصفة للضحايا وهو بحاجة إلى تصحيح للتصالح مع الماضي والانطلاق بثبات نحو المستقبل.
وأعيد ماقاله المحامي الاسباني نيكولاس سارتوريوس ملخصا الخبرة الاسبانية في التحول نحو الديمقراطية "إن السلطة لا تتغير عادة ولاتجنح نحو العقلانية إلا عندما يرغمها الناس على ذلك، وبدون تلك المقومات فإن السلطة لاتتغير" وبأنه "عندما تحصل الخسارة تصبح كل الوجوه قبيحة، وعلى العكس من ذلك فعندما يتحقق النصر تصبح تلك الوجوه وسيمة."


