لا يبدو التوتر الحالي في علاقة مصر بغزة حالة صحية وطبيعية في مسار العلاقات الصلبة التي ربطت مصر بفلسطين وقضية فلسطين وشعب فلسطين والتي كان جوهرها ومرتكزها الأساسي التزام مصر بالدفاع عن القضية الفلسطينية بوصفها قلب القضايا العربية.
فلسطين هي قضية العرب الأولى والدول العربية تتحمل مسؤولياتها الكبرى في الدفاع عن القضية الفلسطينية لأن فلسطين كانت دوماً في مقدمة الاشتباك مع المشروع الاستيطاني التوسعي الذي غرس في جسد الأمة العربية بغية تمزيقها ومنع قيام كيان عربي موحد بعد انهيار الامبراطورية العثمانية.
وعليه دفعت فلسطين هذا الثمن الكبير بوقوعها تحت مخالب الاستيطان الاحلالي والتشريد والاستعمار.
رغم ذلك فإن مصر ربما وحدها من بين الدول العربية ظلت وتظل الأكثر التزاماً تجاه القضية والدفاع عنها بعيداً عن البلاغة والخطاب.
فالجيش المصري أكثر الجيوش العربية اشتباكاً مع إسرائيل منذ وجود العصابات الصهيونية قبل تأسيس إسرائيل على انقاض الشعب الفلسطيني.
فهو خاص كل الحروب العربية الإسرائيلية منذ النكبة ومروراً بحرب 1956 وبعد ذلك 1967 والاستنزاف وبعد ذلك حرب 1973 كما شكل الدعم المصري لانطلاقة الثورة الفلسطينية عاملاً حاسماً في إكسابها المزيد من الزخم والعلاقات، وربما كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أكثر من وقف خلف حالة المد الثوري الفلسطيني عربياً. وسيظل يذكر ابناء الثورة الفلسطينية عبارته بأن "الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى".
وبنظرة سريعة على حالة الاشتباك العربي الإسرائيلي فإن آخر حروب الجيوش العربية مع إسرائيل كانت تلك الحرب التي قادها الجيش المصري قبل 40 عاماً العام 1973. صحيح انه بعد ذلك اندلعت حروب كثيرة في الشرق الأوسط خاصة حرب لبنان 1982 وحرب لبنان 2006، لكن هذه الحروب لم تكن مع الجيوش العربية بل مع الثورة الفلسطينية في الحالة الأولى ومع حزب الله في الحالة الثانية.
حتى في تلك الحالات التي كان الخطاب الرسمي السوري "يدعي" أنه في حالة اشتباك مع إسرائيل فإنه لم يقم بإطلاق رصاصة على الجيش الإسرائيلي الغازي.
كما أن تحليق الطيران الإسرائيلي أكثر من مرة فوق القصر الرئاسي بدمشق وقصف مصانع ومناطق داخل الحدود السورية لم يستدع حتى إطلاق المضادات.
ثمة مقولة تتردد كثيراً تقول إن لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سورية.
وهي مقولة تصف واقع الحال إذ إن اشتباك العرب مع الاسرائيليين بحاجة لقوة الجيش المصري ولعقيدة الجيش المصري التي حتى الآن ترى إسرائيل "العدو".
اما فيما يتعلق بغزة فإن علاقة مصر بغزة اخذت دائماً بعداً خاصاً نظراً للقرب الجغرافي.
بيد أن ثمة أشياء كثيرة يمكن أن تقال عن العلاقات التاريخية منذ العهود القديمة حتى التاريخ المعاصر.
من جهة فمصر قامت بإدارة قطاع غزة في الفترة الممتدة بين عامي 1948 و 1967 وهي لم تقم بضم غزة لها بل إنه في لحظة تاريخية بعد ضم الاردن للضفة الغربية لم يبق شيء في الواقع السياسي يسمى فلسطين إلا هذا الشريط الساحلي الصغير الذي تديره مصر والمسمى قطاع غزة.
فقد اختفت كلمة فلسطين كمفهوم ممارس إدارياً وكترجمة كيانية إلا من قطاع غزة.
ومصر هي من شجعت إقامة أول حكومة فلسطينية في التاريخ الحديث "حكومة عموم فلسطين".
وبالطبع يمكن للمرء أن يسرد عشرات الشواهد الاخرى التي تنتهي بالتدخلات المصرية الجديدة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة في كل مرة ورعاية اتفاقيات التهدئة بين حماس وإسرائيل.
لماذا مثل هذا الحديث؟
ببساطة لأن حالة العلاقة بين مصر وغزة لم تعد كما في سابق عهدها، ولأن ثمة توترا كبيرا في العلاقة ناجم بعد هبة الشعب المصري للتخلص من الرئيس مرسي بمساعدة الجيش.
ولأنه غير مسموح لأي طرف فلسطيني أن يتدخل أولاً في الشؤون العربية لأن مثل هذا الموقف بعدم التدخل كان ديدن السياسة الفلسطينية منذ اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة وبناء اطر ومؤسسات النظام السياسي الفلسطيني.
ولأنه ليس مسموحاً لأحد أن ينتقد أو يسب أفضل جيش عربي وأصدق جيش عربي في وقوفه مع الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى اليوم.
لأن في قوة وهيبة الجيش المصري قوة وهيبة لفلسطين. صحيح أن موازين القوى الآن لا تميل لصالح العرب مقابل إسرائيل، غير أن الشعوب التي تعمل على تحقيق أهدافها لا تحسب الصراع بالمواقف الآنية.
ولأن تفتيت الجيش المصري وإضعافه ليس عملاً وطنياً ولا قومياً ولا هو من الدين في شيء.
وعليه فإنه محظور فلسطينياً أن يتم المساس بمثل هذه المبادئ والمنطلقات في العلاقة مع مصر، حتى لو لم يعجب البعض منا هذا الموقف او ذاك، او كان له وجهة نظر في شأن من شؤون السياسة الخاصة بدولة ما.
فالمصريون أقدر على تحديد خيرهم العام وهم أدرى من أي جهة او حزب في التعرف الى مصلحتهم، وليس لنا إلا أن ندعم هذا الخير العام.
قد يكون لحماس وللحكومة المقالة وجهة نظر مما جري ويجري في مصر، ولكن وجهة النظر هذه يجب ألا تتحول إلى موقف أو خطاب، كما أن غالبية الشعب الفلسطيني تتبنى وجهة نظر مخالفة فيما جرى لأن ثمة قناعة فلسطينية بأن الجيش المصري الذي خاض كل حروب فلسطين هو حليف الشعب الفلسطيني وليس قوة سياسة معينة في الشارع المصري.
هل يتصور أحد أنه يندر أن تمر في شارع في القاهرة ولا تجد فيه بيتاً قاتل أحد أفراده في حروب فلسطين أو أصيب فيها أو أسر خلالها.
هذا لأن مصر كانت دوماً سنداً لفلسطين، أفلا تكون فلسطين سنداً لمصر في محنتها التي ستجتازها سواء قطعت اميركا المعونة أم لم تقطعها وسواء تكالبت كل قوى الشر عليها أو افترقت، لأن مصر هي دولة العرب.


