عندما يلجأ المسؤول الى تعيين بطانة تزين له سوء عمله، وتجمل له قبح صنيعه، وتثني عليه أخطأ أم أصاب، فان هذا هو ما أعنيه بالتحسيس. ومسؤولونا يعجبهم التحسيس الى درجة تجعلنا لا نستبعد شذوذهم، أو على الأقل، احباطهم العاطفي، الأمر الذي يعبر عن نفسه في حاجتهم بالتالي الى من يحسس عليهم.
وفي المغرب العربي يطلق الناس على الجلسات الاستهلالية للمؤتمرات والمناسبات اسم "جلسة التحسيس"، وترجمتها في المشرق "الجلسة الافتتاحية". ولعل اختيار هذا الاسم نابع من ادراك ما يأتي بعد مرحلة التحسيس، من أمور هي بالتاكيد أكثر جدية واثارة وفاعلية!
ذات يوم بينما كنت طالباً في الجامعة بلغني أن البروفسور بول روجرز، أحد أهم الاستراتيجيين البريطانيين، وعميد الكلية، يريد مقابلتي. في مكتبه استقبلني بتواضع جم، وصنع لي القهوة بيده، واعطاني فصلاً من كتاب الفه ولم يرسله بعد الى الناشر، طالباً ملاحظاتي -وأنا الطالب العربي الآتي من مخيم للاجئين- على مضمون ما كتبه في ذلك الفصل من الكتاب. أدركت سر عظمة وتفوق ورقي ذلك الرجل، ورقي الثقافة التي يحملها ونشأ فيها وتربى عليها. بروفسور روجرز الف عشرات الكتب من أبرزها "الأمن العالمي في القرن الواحد والعشرين"
وقبله بعدة أعوام طلب مني أستاذي البروفسور أندرو ريجبي أن أبدي ملاحظاتي على كتابه Living the Intifada
هؤلاء ليسوا زعماء، وأنا لم أكن مستشاراً، لكن الحرص على الوصول الى الكمال والصواب يقتضي أن "تعطي خبزك للخباز" كما يقول المثل الشعبي.
ان تعمد الزعيم أو المسؤول تعيين مستشارين معروفين بأنهم لا يهشون ولا ينشون، كما هو الحال في وطني، هو تعبير عن رغبة مسبقة لديه مع سبق الاصرار في الحصول على استشارات وآراء تحسس عليه، وتثير اللذة في أنحاء جسمه وعقله، وتعيشه في عالم من الرضا عن النفس وعن السياسات والقرارات حتى لو كانت تلك القرارات في واقع الحال كارثية وفضائحية ومعيبة!
وحرص المستشارين على كتابة تقارير، تتوخى رضى الزعيم وتنشد رضاه وترسم صورة وردية للواقع، وتهون الأمر الجلل، وتضخم الانجاز المتواضع، وتختزل حال شعب بمثال ايجابي أو اثنين، وتحرص على الثناء المبطن على دور البطانة –وهم منها- في رسم وتطبيق سياسات لا تشوبها شائبة، هدفه أن يستمروا في مناصبهم وترتقي درجاتهم، وينالوا الرضا الذي يبقيهم في فلك معين بات بالنسبة لهم كالماء بالنسبة للسمك، اذا غادروه مكرهين او مختارين...ماتوا وفاحت روائحهم الكريهة!
ولم يكن تحذير الأديان والفلاسفة والحكماء والسياسيين والاداريين المعاصرين من بطانة السوء نابعاً من فراغ، أو لمجرد ترف أو تنظير، وانما للأثر الذي تلعبه البطانة على المسؤول في التوجيه وصناعة البيئة الحاضنة التي يتخذ استنادا اليها قراراته وينشيء بناء عليها وجهات نظره ويكون انطباعاته.
والمسؤول الفذ هو من يحيط نفسه بمستشارين لا يحسسون، ويتأكد من أن أحداً لم يحسس عليهم في طفولتهم كي لا ينطلقوا في تعاملهم معه من عقد نفسية مستعصية ومتأصلة في وعيهم ولا شعورهم. ونقصد بذلك أن تكون تربيتهم صغراً استندت الى الصرامة والجدية والانصاف الذي لا يتنافى ولا يتناقض مع الحنان والرحمة وعاطفة الأبوة والأمومة، وليس التدليس والمداراة والكذب والسكوت عن الخطأ.
التحسيس يؤدي الى الشعور بنشوة خادعة، ولم ولن يؤدي الى تغيير او الى حلول لأزمات مستعصية متفاقمة.
في وطني لا بد من مستشارين يصدمون المسؤول بمواجهته بالواقع، ويدحضون ما هو شائع من انطباعات بالحقائق والأرقام، ويزودون المسؤول بالمعلومة الدقيقة في مواجهة الشائعة والانطباع الخاطيء.
في وطني لا بد من مستشارين على قدر من العلم والمعرفة والتخصص. في وطني لا سبيل امام المسؤول سوى الاصغاء الى مستشارين لا يحسسون، بل مستشارين يقولون الحق ويشهدون بالصدق ولا يتفيهقون، متواضعون لا يخدعون أنفسهم وليسوا جهلة يتظاهرون بالمعرفة، محيطون بتخصصهم ولا يتوانون عن الاستزادة في العلم وتطوير أنفسهم والأخذ عمن هم أعلم وأكثر فهماً منهم. أو على الأقل يبحثون عن المعلومة عند من يملكها، وعن التجربة عند من عاشها، كما فعل أستاذي العظيم بول روجرز، وأستاذي العظيم أندرو ريجبي. فتشبهوا ان لم تكونوا مثلهم ان التشبه بالرجال حلال.


