خبر : البحث عن الوطن ....محمد يوسف الوحيدي

الثلاثاء 08 أكتوبر 2013 11:20 ص / بتوقيت القدس +2GMT
البحث عن الوطن ....محمد يوسف الوحيدي



في ساعة عصاري كما يقولون ، و أثناء إستلقائه للراحة ، جاءت زوجته لتساله بدلال عن حصاد آخر رحلاته .. فتبسم وهو يشترط أن تعد له كوبا من الشاي اللذيذ بالنعناع ..
كان الزوج يعرف هذا الدلال و السؤال ، لا يهدف إلى معرفة يوميات شيقة ، ولا التعرف على جغرافية أو ثقافة .. بل هو أسلوب تحقيق هادئ .. غالبا ما تسببه شكوك تثار عندما تجد الزوجة ، أي شئ قد يفهم منه ، من رائحته أو لونه ، أي علاقة بأنثى غيرها .. إنها الغريزة ..
وصل الشاي المنعنع ، بل و معه أنواع من الكعك و المعجنات ، زيادة في الدلال و إبراز " حسن النوايا " من الزوجة .. فتبسم الزوج و هو يتحسس بيده دُرجُه و يقلب بين الأوراق و الأقلام ليستل مفكرته التي لا تفارقه خاصة في أسفاره .. و يقول لزوجته .. و أنا في نيويورك كتبت بعض الملاحظات و الخواطر ، ربما تعطيك فكرة ؟
رغم ميل الزوجة إلى الكلام المرسل وسيلة للوصول إلى أهدافها .. و رغم إحساسه بأن السؤال الوحيد ، يكاد ينطلق من عينيها : هل قابلت إمرأة ؟من هي ؟و كيف تبدو ؟ إلا أن الزوجة كظمت ما تفكر فيه ، و بإبتسامة ديبلوماسية فائقة الأداء و الرقة قالت :
- طبعا طبعا .. أنا أستمع ..
فبدأ الزوج القراءة ، بصوت متهدج ، فما زالت آثار نومة القيلولة ، تؤثر في نغمة صوته ..
- نيويورك، التفاحة الكبيرة كما يسميها البعض، أو (جوو يورك(Jew York كما يسميها بعض الأمريكان المعارضين لسيطرة اليهود الإقتصادية الواضحة عليها، تكاد لا ترى السماء من شدة ارتفاع المباني و الأبراج فيها، جميلة هي و بقدر ما فيها من جمال و حيوية بقدر ما تثير لدى الإنسان رعب و إشفاق من سطوة الحياة المادية و تحكمها في تفاصيل عيش بني أدم، و ضراوة حكم الأشياء على سير الأمور.. في وسط هذا الزحام،كنت أمشي حتى شعرت بشد عضلي في ساقي من كثرة التجول في رحلة استكشاف هذه الولاية العجيبة التي تضم في أحشائها أكبر تجمع أممي في المعمورة تُسطر فيه مصائر الشعوب و يقلب فيه الحق باطلا و العكس ..
التعب و العطش دفعاني للتفكير في البحث عن مكان، أي مكان أستريح فيه، حتى اهتديت إلى "كوفي شوب" صغير، وقد شجعني و أنا العربي الوسيم على الدخول إلى هذه القهوة رؤيتي لحسناء بيضاء شقراء نحيفة تجلس وحيدة في إحدى أركان المكان و بطبيعة العربي الشهم الذي يعتبر أن إغاثة الملهوف، و تأمين الوحيد و حماية المرأة من أهم شمائله، تقدمت واثق الخطوة أمشي ملكا تجاه الحسناء الوحيدة و القيت عليها التحية.. فردت بأحسن منها.. ثم سألتها :
- هل شربت شيئا ؟
- نعم أنا بخير..
- ربما تسمحين لي بأن أشتري لك مزيدا من الشراب أو القهوة أو أي شئ آخر؟
- لا أنا بخير..
ذهبت لأشتري لنفسي قهوة أمريكية و فطيرة، و عدت للحسناء ثانية في إصرار و إلحاح كاد أن يزعج رواد القهوة الآخرين ، و ربما يتهموني بالتحرش بسبب فضولي ، و إلحاحي ..
تعلق الزوجة مقاطعة : ولماذا كل هذا ؟؟ عيب عليك يا رجل ..
هل جننت أم هي المراهقة المتأخرة ؟
الزوج : هل ستبدأين الآن بالتعليق ؟ هل أنهي القراءة أم أكمل ؟
الزوجة : أكمل لنرى آخرتها ..
- هل تسمحين لي بالجلوس معك؟
- " مبتسمة " إنها دولة حرة، طبعا..
- شكرا ( جلست و أخذت بالتهام الفطيرة، ثم نظرت إليها قائلا :
- أنا اسمي محمد..
- أنا هيذر، سعيدة بلقائك، من أين أنت يا محمد ؟
- باليستاين – فلسطين
- باكستان ؟!!
- لا لا، أنا من ( باليستاين)
- تنظر إلي كأنها تنظر إلى شئ مبهم، و تقلب شفتها في إيماءة إلى عدم فهمها..
- ألا تعرفين أين تقع فلسطين..العالم العربي .. البحر المتوسط.. الحرب و السلام..
- " مبتسمة" أخشى أنني لا أعرف..
- ياسر عرفات.
- آه... نعم نعم.. فلسطيني تقصد !!
- هو كذلك بالضبط ..
- ماذا تفعل في أمريكا بالمناسبة ؟
- ماذا أفعل هنا، هذا سؤال جيد.. ماذا لو قلت لك أنني ربما أبحث عن وطني ؟
- هنا، في أمريكا ؟؟ و لكنك فلسطينيا..
- حالي مثل حال كل الأمريكان، لقد جاءوا إلى هنا قبل أكثر من مائتي عام يفتشون عن وطن..
- أفهمك، ولكن الحال معك يختلف، أنت لك وطن فلماذا تفتش هنا عن وطن ؟
- سألت مرة صديق يهودي من أصل روسي نفس السؤال فاتهمني بأني لا سامي، معاد للسامية رغم أنني من سلالة إبراهيم ..
- وكيف تبحث عن وطنك هنا في نيويورك ؟
- أنظري إلى ذلك المبنى الضخم هناك..
- أعرفه، هذا مبنى الأمم المتحدة..
- بالضبط، هناك ضاع وطني، و من هناك استطاع اليهودي الروسي استخراج بطاقة هوية تقول أن وطني و طنه و روسيا وطنه، وأمريكا وطنه، و أوروبا وطنه، و الأهرام من بناء أجداده الروس المصريين الفراعنة الأفارقة الهكسوس لا يهم، أعتقد أن عليك أن تسرعي في احتساء قهوتك، الوقت ضيق، لتأتي معي تفتشي عن وطنك في دهاليز الأمم المتحدة..
كانت تلك بداية صداقة مع تلك الفتاة ، و التي عرفت فيما بعد أنها سيدة متزوجة و أم لطفل في عامة الثالث .. و تكررت اللقاءات ، كانت هيذر موظفة في شركة تأمين ، بالطبع يمكلها يهودي أمريكي .. كنت ألتقيها أحيانا و معها بعض أصدقائها ، و أحيانا مع زوجها الشاب المكافح المولع بالرياضة ، كانت هيذر و زوجها و أصدقائها ، يعقدون حولي الجلسة على شكل حلقة كأنهم ينظرون و يستمعون إلى كائن زائر من الفضاء .. يحدثهم عن أشياء لم تخطر يوما في بالهم ، عن العرب و الإسلام و فلسطين و القدس و غزة .. و الإسرائيليين و اليهود و الصهيونية ..
أثارتني و أسرتني فكرة أني رسول وطني إلى قوم لا يعرفون حقيقة أن الرب أرسل مسيحا في وطني ، و فتح بوابة السماء فوق عاصمة بلادي ، حاجتهم للمعرفة ، و حاجتي للبوح حرضت ثورة مكبوتة في داخلي .. و أشعرتني بحب ، بل بعشق هائل لوطني ، لا أراه لا أحسه لا أتنفسه إلا و أنا أسبح في فضاء غربة غريبة عن بلادي ..
قالت ، أنت تتحدث في السياسة بمنطق شاعر ، أو ربما هذه رومانسية العرب ، ثقافتكم يبدو أنها غير واقعية أو منطقية ، لماذا لا تقبلون سياسة الخطوة ، و الإختبار قبل الخطوة التالية في المشروع .. لماذا لا تقتسمون الحق مع الإسرائيليين ؟
ضحكَت في داخلي أفكاري و قلت لها :
- فإما أن أكون شاعرا و إما أن أكون مجنونا .. إن كلمة مشروع ، أو نصف ، لا تقبل القسمة على طبيعتنا في فلسطين ، فنحن إما أن نكون أو لا نكون على الطريقة الشيكسبيرية ، نولد شعراء ، أو نموت مغفلين ، لا نقبل أن نكون مشروعا ينمو أو يتطور ، فالنمو أو التطور سمة الأشياء و المخلوقات ، ولكن الكلمة كانت في البدء قبل أن تكون الكائنات ، و الكلمة نحن ، في وطن المسيح و إبراهيم و محمد ، شعبي شعب فلسطين لازال يعيش و يؤمن بالقول سلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا ، نحن يا سيدتي لسنا بمشروع، و الأنصاف لا تجد لها في حقيقتنا معنى ، أقتبس إليك من بعض ما قال جبران خليل جبران فإقرأي بعيوني :
بداية الإقنباس : " نصفُ حياة

لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتّ.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت.

إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك، النصف هو أن تصل وأن لاتصل، أن تعمل وأن لا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت. النصف هو أن لا تعرف من أنت .. ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه!!..

نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة.. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان.. وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة!! " نهاية الإقتباس.
يرفع الزوج رأسه عن الوسادة، ويسأل زوجته :
- مالك مندهشة من قصصي ؟
-الزوجة : هل كل حياتك نساء ؟ لماذا ترى العالم من خلال النساء ؟ أتمنى أن تتذكر حادثة ليس فيها نساء..
- (ضاحكاً ) هل تنكري دور المرأة في المجتمع ؟
- أنا لا ألغي دور المرأة.. ولكن يا عزيزي يبدو أن تاريخك ينضح بالتجارب.. النسائية... وهذا أمر مقلق و بصراحة.. مغيظ !!
- حبيبتي، عندما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، ما لبث أن خلق حواء لتكتمل الحياة، و هبطا إلى الأرض معا، و قضية قابيل و هابيل كانت (إمرأة) ، وقضيتنا قضية بلدنا ، و بلدنا حضن و دفء و حب و ثمار، المرأة بلدنا ووطننا.
- تفلسف الأمور حتى تتهرب من التهمة..
- وهل أنا متهم ؟
- نعم، أنت عابث، متهور.
- أنا عاشق
- و تدعي الوطنية.
- أنا وطني.. إذن أنا عاشق..
- دائما تتحدث عن آلام البعد عن الوطن، فلماذا تهاجر إذن ؟
- لأبحث عن وطني.
- ولكنك تعيش فيه، فلماذا تسافر ؟
- هو يعيش في، الوطن ليس قطعة أرض فقط، الوطن بشر أيضا، أنظري حولك، هل من حولنا أهلنا ؟ و إن كانوا يعيشون معنا على ذات أرض الوطن!!
- يا سبحان الله، و هل تريد مواطنين حسب الطلب ؟
- لا، أنا لا أتكلم عن الأفراد، أنا أتكلم عن المجتمع، و روابطه و أهدافه و أحلامه و إحساسه بالأرض و التاريخ و الثقافة و المستقبل..
- ( دوي انفجارات متزامنة !) تهرع الزوجة إلى النافذة لترى ما حدث، ثم تعود مرتعشة...
- ماذا حدث ؟
- جماعة موالين قصفت منزلا لجماعة معارضين ، بينما طائرات المحتل تقصف بيوت اللاجئين..
- افتحي الراديو من فضلك لنعرف التفاصيل..
- ( الإذاعة تسارع باتهام جهة ثالثة غير الموالين والمعارضين في حادث تفجير المنزل، و اختطاف الفتيات و الصحفيين و إغلاق المسارح و إحراق السينمات و غسل عقول الأطفال في المدارس و منع الثقافة و الرياضة.)
- هذه إذاعة منحازة، ليس معقولا أننا نعيش في غابة..
- ( إذاعة أخرى ) تتحدث عن إضراب الموظفين للمرة المليون و الجوع و شح الأدوية و استمرار التفاوض حول المناصب.
- ( يضحك الزوج ) – ما أجمل الوطن من بعيد.. ألم أقل لك.. تعالي معي نبحث عن وطننا..