كثرة الحديث عن انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، ينطوي على إدانات من مواقع مختلفة لأطراف كثيرة في الساحة الفلسطينية. فثمة من يدعو إلى اندلاعها، وثمة من يصلي فقط لاندلاعها، أو يحرض عليها، أو يهدد باندلاعها، فيما تخشى إسرائيل أن ينفجر الخزان في وجها، ولكن ثمة، أيضاً من يعمل على استبعادها، ومواجهة أية إرهاصات قد تفتح الطريق أمامها.
والحال أن لكل من الانتفاضات الشعبية السابقة، أسبابها القوية ودوافعها وأهدافها التي فاجأت الجميع من حيث التوقيت ومن حيث العمق، ولكن النتائج لم تكن دائماً مضمونة.
العام 1987، فاجأت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى كل قيادات الفصائل، وكل المراقبين في الخارج، إذ لم يكن كافياً لاندلاعها أن يستشهد أربعة عمال فلسطينيين من منطقة جباليا، فلو كان الأمر على هذا النحو لكان على الشعب الفلسطيني أن لا يغادر الشوارع طيلة الحياة.
أوضاع الفلسطينيين المعيشية لم تكن آنذاك سيئة أكثر مما هي عليه هذه الأيام، وخلال سنوات سابقة، وكان شارون قد أمر بإزالة الحواجز، بين الأراضي المحتلة العام 1967، ومناطق العام 1948، لكن العامل الوطني كان السبب الذي يقف وراء اندلاع الانتفاضة.
كانت منظمة التحرير وفصائل العمل الوطني قد تعرضت لاجتياح إسرائيل للبنان، الذي أدى إلى خروج المقاتلين، ثم دخلت المنظمة في أزمة وطنية، بضمنها أزمة كبرى في حركة فتح، وما أن وصلت العام 1987، حتى كادت المنظمة تشطب من قمة عمّان.
كانت الانتفاضة الشعبية الكبرى هي المنقذ الذي أعاد للمنظمة مكانتها ووهجها ودورها، وأعاد للنضال الوطني الفلسطيني أهميته وفاعليته، ولكن كانت الفصائل الوطنية موحدة.
بعد ذلك، اندلعت هبة النفق العام 1996، وكانت رداً على الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى، ولأنها جاءت في ظروف تتصل ببدايات تنفيذ اتفاقيات أوسلو، ولأن سبب اندلاعها جزئي، فقد استمرت بضعة أيام فقط، وأيضاً كانت الوحدة الوطنية موجودة رغم الخلافات العميقة حول أوسلو وما نجم عنه.
انتفاضة الأقصى، التي استمرت لسنوات نعرف أنها بدأت في أيلول العام 2000 ولا نعرف بالضبط متى توقفت، اندلعت لأسباب سياسية وطنية عامة.
فلقد انتهت المرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو، دون تحقيق هدف الدولة، ثم فشلت مفاوضات كامب ديفيد لإنقاذ المسيرة السلمية، واتضح أن الإسرائيليين غير ملتزمين بتحقيق سلام يؤدي إلى حصول الفلسطينيين على حقوقهم.
كانت الوحدة الوطنية، متوفرة، أيضاً، خلال انتفاضة الأقصى.
وكانت القيادة الفلسطينية، منسجمة مع الفصائل ومع الحالة الشعبية، ودفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً بسبب تقصد إسرائيل عسكرتها، حين استخدمت العنف بشكل مفرط جداً.
الانتفاضة التي ينتظرها الكثيرون، أو يتوقعون اندلاعها، أو يخشون من اندلاعها، تأتي في ظروف مختلفة تماماً ويغيب عنها واحد من أهم شروطها.
موضوعياً يعرف الجميع أن الظروف ناضجة لاندلاع مثل هذه الانتفاضة لأسباب كثيرة.
أول هذه الأسباب أن المخططات الإسرائيلية الرامية لسرقة الأرض الفلسطينية، مستمرة بقوة وتحرز المزيد من التقدم وتلحق الكثير من الضرر للمواطن الفلسطيني.
الاستيطان يلتهم الأرض وتزداد معدلاته، حتى تجاوز عدد المستوطنين الستمائة ألف، تعتبرهم إسرائيل مجتمعاً يهودياً وبعضهم يعتبر الفلسطينيين مستوطنين.
القدس تهود على قدم وساق، وقد وصل الخطر إلى تهديد المسجد الأقصى، ويشرد أهلها عن بيوتهم وممتلكاتهم.
المفاوضات السياسية متعثرة، حتى بعد أن تم استئنافها دون أن تلبي إسرائيل أياً من الشروط الفلسطينية المعروفة، ومن غير المتوقع أن ينجم عنها شيء يحقق مصالح الفلسطينيين أو حتى يخفف من وطأة المخططات الإسرائيلية على الناس.
ثمة حالة من الاحباط واليأس لدى الفلسطينيين بشأن إمكانية إقامة دولتهم على أرضهم المحتلة العام 1967، وغياب للخيارات والبدائل الواضحة والمقنعة.
الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس سيئة والسلطة الفلسطينية تعاني من عجز في الميزانية وشح في الموارد.
إسرائيل تسرق الثروات الفلسطينية والمياه، وتصادر أبسط الحقوق والحريات.
وأهل غزة يعانون من حصار خانق، وظروف محيطة ضاغطة، وبطالة متفاقمة وفقر متزايد، وتراجع في الخدمات التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين.
ومن حول الفلسطينيين ينشغل العرب شعوباً واحزاباً، ومنظمات مجتمع مدني وحكومات، بأوضاعهم الداخلية، ولا يملكون القدرة على تلبية نداءات الفلسطينيين التي تستغيث كل يوم.
الجماهير الفلسطينية في 1948، تعاني من أزمات وصعوبات متزايدة جراء السياسات التمييزية الإسرائيلية، ومخططاتها التهويدية للنقب (مشروع برافر) ومن استمرار وارتفاع معدلات الملاحقة وقمع الحريات والعنصرية.
هكذا تجتمع الأسباب السياسية، والوطنية العامة، والاقتصادية والاجتماعية والأسباب القومية، في ظروف نادرة توفر كل الأسباب لاندلاع انتفاضة شعبية ثالثة ولكن.
هذه الـ (لكن) الملعونة، تتصل بغياب شرط الوحدة الوطنية فلقد أدى الانقسام الكبير المستمر منذ سبع سنوات، إلى تفتيت الوحدة الاجتماعية والوطنية، وتفتيت الإرادات، وإشغال الفلسطينيين في مجابهة بعضهم البعض أكثر من انشغالهم في مجابهة الاحتلال والانتصار لقضاياهم الحياتية والوطنية.
إذا كانت سلطة حماس في قطاع غزة، تخشى من أي تحرك جماهيري تدعو له حركة فتح الكبيرة لأنها تتوجس منها المؤامرة، حتى لو كان شعارها وهدفها الاحتجاج على الاحتلال وسياساته، فإن فتح في الضفة تفعل الشيء ذاته حين تبادر حماس لأي تحرك جماهيري.
وفي الواقع فإن العمليات العسكرية المحدودة التي وقعت في الضفة مؤخراً، لا تخرج عن سياق الأعمال الاستثمارية، كل طرف لإضعاف الطرف الآخر.
طنجرة الضغط الشعبية الفلسطينية التي تصدر زفيراً قوياً قد تؤدي الى احتراق محتوياتها، دون أن تنفجر، فثمة من لا يسمح بوقف تدفق البخار منها.
غير أن غياب شرط الوحدة الفلسطينية ليس قدراً، أيضاً، فقد تنفجر طنجرة الضغط بالرغم من كل محاولات تنفيسها، إذ قد يفاجئ الشعب الفلسطيني قياداته وفصائله ويتحدى انقسامه، فينفجر دفعة واحدة في وجه الجميع، في وجه الاحتلال، وأيضاً في وجوه المنقسمين على ذاتهم.
أما إن وقع ذلك، فإن ضحايا مثل هذا الانفجار سيكون أكثرهم ممن يتحملون المسؤولية عن بؤس حال الشعب الفلسطيني وقضيته.


