تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب والمسلمين، وتحاول كل دول الأطراف الذكية بالمنطقة والطامحة لأدوار إقليمية ودولية أن يكون لها دور فعال ومؤثر في المسارات المتعددة لهذه القضية.. من هنا، كانت قطر تاريخياً مع القضية الفلسطينية، فمنذ أواخر الخمسينيات كانت الدوحة مع الكويت هي الحاضنة للكثير من اللقاءات الأولى لعددٍ من الشخصيات الفلسطينية المقيمة في دول الخليج، والتي أدت التفاهمات بينها إلى تشكيل مجموعات نضالية باسم حركة فتح، انخرطت فيما بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كان يترأسها المرحوم أحمد الشقيري، ثم في عام 1969م تولت حركة فتح قيادتها برئاسة الأخ ياسر عرفات (رحمه الله).
إن قطر ومنذ حصولها على الاستقلال في سبتمبر 1971م، كانت من الدول التي تمَّ فيها افتتاح مكتب لمنظمة التحرير، والذي تحول إلى سفارة بعد إعلان قيام دولة فلسطين في مؤتمر الجزائر 1988م.
وعندما عادت قيادة منظمة التحرير إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاقية أوسلو بالعاصمة الأمريكية واشنطن في سبتمبر 1993م، وإنشاء السلطة الوطنية في عام 1994م، قام أمير قطر الشيخ حمد بزيارة الأراضي الفلسطينية في عام 1999م، والتقى في غزة بالرئيس ياسر عرفات.
في ضوء ذلك، ونظراً لحملات التشهير والتشويه والتحريض التي تتعرض لها علاقات حماس بدولة قطر، وجدت أنه من اللازم كمتابع لمسارات هذه العلاقة وكشاهد على الكثير من وقائعها أن أُلقي بقلمي لتظهير بعض تلك المشاهدات، والتي كنت بحكم منصبي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء ثم وكيل لوزارة الخارجية مطلعاً على الكثير من تفاصيلها.
في الحقيقة، إن هناك داخل منطقتنا العربية والإسلامية من يعمل على الإساءة لقطر وشخص أميرها ووزير خارجيتها، ويقوم بتوجيه الاتهامات والتشكيك بكل دوافعها، ويتعمد تفريغ مواقفها - بما فيها من نبل وشهامة - من عناصر الخير التي تحملها، والطعن بكل ما تقدمه من مساعدات إغاثية وإنسانية لشعبنا الفلسطيني، وما تجود به دبلوماسيتها النشطة من تحركات فاعلة ومواقف سياسية داعمة لقضيتنا بصورة لا تُنكرها إلا عين حاسد وحقود.
هذه الصفحات التي تضع نقاط الحقيقة على حروف الواقع هي اعتراف منَّا بما لقطر وأميرها من فضل على شعبنا وقضيتنا، وأننا لن ننسى لذوي الفضل فضلهم.. وللذين يتعمدون التشكيك بدوافع المساعدات القطرية لغزة، ويحاولون – دائماً - تصنيفها في دائرة العمل لاحتواء حماس؛ الحركة والحكومة، نرد عليهم بالقول: إن قطر قدَّمت نصف مليار دولار لجهود إعادة الإعمار في لبنان بعد الحرب العدوانية عليه في صيف 2006م، ولم نسمع بأن الهدف كان هو احتواء قطر لحزب الله والحكومة اللبنانية، وأيضاً قامت قطر بتقديم مساعدات وقروض بمليارات الدولارات لدول الربيع العربي، فلم تبخل على أحد، ولم نسمع بأنها قامت بفرض شروطٍ مقابل تلك الهبات والعطايا المالية السخية. لذلك، فليس أمامنا من ردٍّ على من يحاولون وضع علاقتنا بقطر في دائرة "التشكيك والاتهام" إلا أن نُذّكرهم بما تعلمناه من خُلق وأدب، وهو أن نشكر الناس وأن نقول لهم حُسنا.
إن ما يتوجب التنويه إليه هنا؛ هو أن الحديث عن قطر والاشادة بمواقفها تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة لا ينفِّ اعترافنا بدور الدول الشقيقة والصديقة في دعم القضية الفلسطينية وتعزيز صمود أهل غزة وبيت المقدس؛ فهناك من بذل الدماء، وهناك من قدَّم المال، وهناك من جاد بهما معاً.. لقد سجلت العديد من الدول مواقف أصيلة في دعم غزة والوقوف إلى جانبنا، تحدياً للاحتلال وكسراً للحصار، وليس أقلها تلك الدماء الزكية التي سالت بغزارة في عرض البحر على سطح سفينة مرمرة التركية في نهاية شهر يونيه 2010م، والتي تصدرت قافلة أسطول الحرية.. كما أننا لن ننسى الدماء الطاهرة لشهداء أمتنا العربية، والتي امتزجت بدماء شهدائنا عبر الحروب والمواجهات المتكررة مع العدو الصهيوني عام 1948م، وكذلك في العدوان الثلاثي عام 56، وفي عدوان 67.. غير أننا - هنا - نركز في مقالنا هذه على دولة قطر؛ لأننا نرى أنها تستحق تظهير خيرها العميم وزيادة، ولأن البعض يريد الإساءة إليها وطمس فضائلها، وأن هناك – للأسف - من يريد تشويه هذه العلاقة التاريخية بيننا، ويضعها في سياق المناورة والابتزاز والمصالح ليس إلا..!!
السياسة القطرية تجاه القضية الفلسطينية
لقد بقيت القضية الفلسطينية حاضرةً بقوة في السياسة القطرية، وقد يستغرب البعض مواقف قطر المؤيدة والمؤازرة للفلسطينيين، معتقداً فقط أنها وليدة السنوات الأخيرة، وقد جاءت بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في يناير 2006م.. وهذا إن سلمنا به يعتبر ظلماً تاريخياً لهذا البلد الكبير بمواقفه وأفعاله.
إن بإمكاننا إدراك عمق تلك العلاقة التاريخية بالعودة إلى ما تحدث به أمير قطر عام 1974م، حيث قال: "المهم هو القضية الفلسطينية، إنها قضيتنا مثلما هي قضية الفلسطينيين، إنها محور سياستنا وعلاقتنا مع الدول، ونحن عندما نضع ميزانية التنمية نحسب أولاً حساب التزاماتنا بشأن القضية الفلسطينية".. وحتى في آخر قمة عربية في شهر مارس 2013م، والتي ترأستها قطر، أعاد رئيس الوزراء ووزير الخارجية – آنذاك - الشيخ حمد بن جاسم التأكيد على سياسة بلاده الراسخة تجاه فلسطين، بالقول: "إن القضية الفلسطينية كانت وستبقى قضيتنا المركزية، حتى يتوفر لها الحل العادل والدائم والشامل الذي يحقق للشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة؛ وفي مقدمتها الحق في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف".
وإذا قمنا بجولة في السياسة القطرية ومواقف أميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على مدار أكثر من عشرة سنوات، فسنجد تطوراً في العلاقة وتميزاً في العطاء، وتظهيراً لمواقف لا يمكن أن تغيب عن عين المشاهد داخل ساحتنا الفلسطينية.
لنبدأ أولاً بالانتفاضة الفلسطينية عام 2000م، حيث وقفت قطر إلى جانب الشعب الفلسطيني خلال أحداثها، واستنكرت حكومتها الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، واعتبر الشيخ حمد بن جاسم وزير الخارجية – آنذاك - أن الأحداث الخطيرة في الأراضي الفلسطينية كشفت عن الوجه الحقيقي للحكومة الإسرائيلية ورفضها للسلام، واستخدامها كل أنواع القهر لفرض السلام الذي تراه، وأضاف بأن فشل مجلس الأمن في إصدار قرار لتوفير حماية دولية وإرسال مراقبين دوليين كان بمثابة رسالة خاطئة إلى إسرائيل للاستمرار في سياستها العدوانية.
وقد قامت قطر بتقديم دعم مالي للسلطة، كما أن وزير خارجيتها لعب دوراً مهماً وراء الكواليس في فك الحصار عن مقر الرئيس ياسر عرفات برام الله خلال عملية الدرع الواقي في ربيع 2002م، وأيضاً خلال حشد مواقف الدول لصالح دعم مطلب السلطة بالتوجه للأمم المتحدة في سبتمبر 2012م، وقد رحبت قطر بما وصفته القرار التاريخي الذي اتخذته الجمعية العامة برفع مكانة فلسطين بالأمم المتحدة إلى دولة بصفة مراقب غير عضو، باعتباره خطوة هامة على طريق استعادة الحقوق الفلسطينية.
وقد لعبت قطر دوراً هاماً في وقف الحرب على غزة، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء إسماعيل هنية، بقوله: نشهد أن قطر وتركيا بجانب مصر وفروا حماية عربية إسلامية لغزة أثناء حرب "حجارة السجيل"، وقاموا بجهود ضخمة جداً لمنع أن تمتد يد إسرائيل لحرب برية من خلال الاتصالات مع قادة الدول من أجل وقف العدوان على غزة.
وإذا تابعنا المواقف القطرية كلها من حيث تقديم المساعدات المباشرة للقضية أو عبر صناديق الدعم العربية في الجامعة، فإننا سنجد بأن قطر كانت تتقدم دائماً خطوة على كل الصف العربي.
شكراً لقطر.. وتحية إكبار لأميرها
في أكتوبر 2012م، جاءت المنحة القطرية للشعب الفلسطيني تعبيراً عن أول توجه عربي حقيقي لكسر الحصار عن حكومة الأخ إسماعيل هنية، وهي كانت تحمل الكثير من المعاني والمؤشرات الإيجابية، ولعل أوضحها هو أن عمقنا العربي والإسلامي ما يزال يختزن الكثير من الخير، وأن فلسطين ومعاناة أهلها جراء الحصار وأفعال الاحتلال الإسرائيلي لم تغب عن ضمير أمتنا، وهي التي لم تبخل طوال مراحل الصراع عن تقديم كل الدعم والعون للمقاومة الفلسطينية والمؤسسات التعليمية والصحية، وكانت اللجان الخيرية في العديد من البلدان العربية وخاصة الخليجية منها تعطي بلا حدود لتعزيز صمود أهلنا، والحفاظ على الكيانية الفلسطينية التي كانت إسرائيل تحاول العمل على طمسها منذ اليوم الأول لاحتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة.
مهما قلنا عن هذه النخوة والمروءة القطرية فلن نفي أميرها السابق الشيخ حمد حقه من الشكر والثناء، لقد أكدت قطر المرة تلو الأخرى أن مقامات الدول وقامات زعمائها ليس بكبر حجمها ولا بتعداد سكانها أو ضخامة ثرواتها، ولكن بمواقفها وسرعة تحركاتها ونخوة عطاياها تجاه مواجع وحاجات شعوب أمتها.. من هنا، فإن المشهد القطري في الحضور الفلسطيني أوسع بكثير من منحة الأمس القريب.. إن قطر بأهلها ومؤسساتها الخيرية وأميرها كانوا أول من تقدم بإرسال قرابة خمسين مليون دولار منذ الشهور الأولى لتسلم حكومة إسماعيل هنية مقاليد الأمور، ثم أعقبوها بخمسين أخرى، عندما خاطب رئيس الوزراء الأخ أبو العبد سمو الأمير هاتفياً في مناشدة إنسانية للتخفيف عن معاناة قطاعي التعليم والصحة، وجاءت استجابة الأمير بأسرع من لمح البصر، ثم انهمر الغيث بمجموعة من المنح والعطايا والالتزامات، حيث تعهد سمو الأمير القطري بتقديم ثلاثين مليون دولار شهرياً مع مكرمات أخرى على رأسها بناء إستاد رياضي في قطاع غزة، كل ذلك قبل زيارته التاريخية لقطاع غزة والتي حملت معها الخير الكثير للتخفيف من معاناة أهلنا في غزة.
فضائية الجزيرة: واجب النُصرة في أبهى تجلياته
إننا لن ننسى لقطر ولفضائية الجزيرة - بشقيها العربي والانجليزي - فضل التسجيل اليومي للحدث الفلسطيني، والنقل المباشر والمكثف للمعاناة الفلسطينية، والتي جعلت قضية فلسطين هي القضية المركزية في دائرة الاهتمام العربي والإسلامي، وكذلك في تصدر قائمة الأحداث الأكثر مأساوية في المتابعة الإعلامية بالدول الغربية، وخاصة في أوساط الجاليات العربية والإسلامية هناك.
وإذا كان لنا أن نعدد بعض فضائل فضائية الجزيرة والتي كان لها كبير الأثر في انتعاش الوضع الفلسطيني المقاوم، ونهوض وعي الأمة السياسي والحركي، فلن ننسى التغطيات الميدانية للحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان في أغسطس 2006م، حيث كانت فضائية الجزيرة هي بمثابة وزارة الدفاع التي استنفرت الوجدان العربي والإسلامي كله ليعيش حدث العدوان الإسرائيلي بالطيران الحربي على بيروت وكذلك اجتياح الجيش للقرى والبلدات في الجنوب اللبناني، كما حركت معظم الرسميات العربية والشعبية لتتخذ مواقفاً منددة بالعدوان، وليقف الجميع صفاً واحداً خلف المقاومة والشعب اللبناني، وأحرجت كل من تجرأ على لمز المقاومة أو الإساءة إليها.. لقد كانت مشاهد البطولة والصمود والمقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني التي نقلتها فضائية الجزيرة محركاً لنا في استمرار مقاومتنا للاحتلال، وباعثاً قوياً للارتقاء بسقف مطالبنا وحقوقنا الوطنية.
وخلال العدوان الإسرائيلي الموسع على قطاع غزة في 27 ديسمبر 2008م كانت فضائية الجزيرة تتقدم الإعلام العربي والغربي في تغطياتها للعملية العسكرية المسماة "الرصاص المصبوب" أو ما أطلق عليها الفلسطينيون بـ"حرب الفرقان"، وقد نجحت فضائية الجزيرة بإمكانياتها المهنية وأطقمها الفنية وبسعة انتشارها الاقليمي والدولي في فضح ادعاءات وأكاذيب ماكينة الدعاية الصهيونية، وسجلت بالصوت والصورة مشاهد المجازر التي ارتكبها الطيران الإسرائيلي وجيش الاحتلال ضد المدنيين، والتي كانت أدلة دامغة اعتمدت على الكثير منها لجان تقصي الحقائق الدولية، ومنها "تقرير جولدستون" الذي أدان إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وكذلك باقتراف جرائم بحق الإنسانية وبانتهاك القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة.
حماس وسياسة الحياد الإيجابي
بالرغم من أن سياسة حركة حماس كانت واضحة طوال الوقت بأنها ترغب أن تحتفظ بمسافة واحدة من الجميع في عالمنا العربي والإسلامي؛ باعتبار أن فلسطين هي قضية الأمة المركزية, وأن هذا يفرض علينا أن نمنح الفرصة للجميع كي يبادروا بأخذ مكانتهم في دعم القضية ونُصرتها بالشكل الذي يُمليه عليهم واجبهم الديني وانتماؤهم العروبي وأمنهم القومي وتعهداتهم السياسية.
لقد كنا نعلم أن هناك حساسية شديدة في ساحتنا العربية وحتى الإسلامية تجاه أية مواقف أو خطوات قد نتخذها باتجاه التقارب أو التباعد مع هذا البلد أو ذاك, لذلك كانت سياسة حماس واضحة منذ البداية، وهي أن قلوبنا مفتوحة للجميع, كما أن آذاننا صاغيةٌ لمن يرغب في التشاور وإبداء النصيحة, ولن نكون بأي حالٍ طرفاً في أية خلافات بين الأشقاء في المنطقة, ولن نحشر أنفسنا في الشئون الداخلية لأي بلد عربي أو اسلامي, وسنحرص على أن نحافظ على علاقات أخوية مع الجميع، وأن نسعى للتقريب بين كيانات أمتنا إذا استدعت الضرورة ذلك، ووسعتنا القدرة للقيام بمثل هذا الدور.
للأسف, ففي ظل الانقسام الذي ساد الأوساط السياسية الرسمية, دخلنا في نفق ومتاهة التصنيف، وما كان عليه العرب من خلافات واصطفافات؛ أي معسكر الممانعة ومعسكر الاعتدال..!!
بيت القصيد، أن كل ما حرصنا عليه من مواقف متوازنة وإيجابية تجاه الجميع تم التنكر له؛ لأن السياسية في عالمنا العربي – للأسف - لا تخرج عن المفهوم التالي: إما أن تكون معنا أو علينا..!!
قطر في عين العاصفة.!!
من الملاحظ أن هناك حساسيات سياسية واضحة في المنطقة تجاه دولة قطر, حيث إن معظم دول الخليج تنهج سياسات تتطابق مواقفها – بشكل عام - مع المملكة العربية السعودية، والتي تشهد علاقاتها مع قطر في كثير من الأحيان حالة من التنافسية وتناقض الأدوار.
من هنا، فإن العلاقة المتميزة التي جمعت بين الأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وسمو الشيخ حمد؛ أمير دولة قطر، ربما كانت وراء وضع الحركة في دائرة الاستهداف لدي بعض الدول الخليجية.
لم يكن أحد في حركة حماس أو الحكومة في غزة يتمنى أن يسود التوتر علاقاتها مع أي من دول المنطقة وخاصة الخليجية منها، أو حتى أن تظهر وكأن ميولها تتجه نحو هذا الطرف أكثر من الأطراف الأخرى، ولكن مواقف سمو الأمير القطري المتميزة، من حيث دعمه الكبير لاحتياجات الساحة الفلسطينية، ومواقفه السياسية الحريصة على جمع الكلمة ووحدة الصف الفلسطيني، وكذلك التحركات النشطة للخارجية القطرية لرفع الحصار عن قطاع غزة, وسعيها الدؤوب لرفع الفيتو الأمريكي عن حكومة الوحدة الوطنية, ثم المبادرة الكريمة التي قام بها سمو الأمير الشيخ حمد لتحقيق المصالحة الوطنية، وذلك بدعوة كل من الرئيس أبو مازن والأخ خالد مشعل للدوحة، واقناع الطرفين بتوقيع اتفاق تفاهم لتشكيل حكومة انتقالية برئاسة الأخ أبو مازن، على أن يعقبها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تنهي الانقسام، وتؤدي الي قيام حكومة شراكة سياسية بين جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي.
في ظل الصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط, فإن مثل هذه التحركات الكبيرة التي تقوم بها قطر تثير حفيظة بعض جيرانها الخليجيين أو بعض الدول المركزية في المنطقة، من هنا تصبح حماس في دائرة الاتهام وتوجه لها السهام؛ أحياناً بأنها تدور في فلك السياسة القطرية, وفي أحيان أخرى بأنها تتحرك في مربع التحالفات التي تشكل قطر أحد محاورها.
بالطبع، مهما حاولت حماس أن ترد عن نفسها عادية ما يلاحقها من اتهامات فلن تسعفها تصريحات قياداتها، والتي أظهرت في أكثر من لقاء متلفز أو عبر تصريحات رسمية أنها لا تخضع لأحد, وأن سياستها واضحة؛ وهي الحفاظ على منظومتها القيمية، بأن المصالح لديها تحكمها المبادئ، وأن الشواهد على ذلك كثيرة، وأبرزها هو الموقف من الرئيس بشار الأسد والنظام في سوريا, حيث قررت قيادة الحركة مغادرة دمشق كتعبير عن رفضها لممارسات النظام ضد الشعب السوري، وتحمل كل ما يترتب على ذلك من تبعات على علاقاتها الاستراتيجية مع إيران وحزب الله.
في 20 يوليو 2013م, أجرت قناة روتانا الخليجية – "برنامج في الصميم" – لقاءً مع الأخ خالد مشعل بالدوحة، أوضح فيه الأخ أبو الوليد بأن قطر لم تمارس عليه يوماً ضغطاً ولم تعرض عليه موقفاً, وكما قال: "عمرهم ما قالوا لنا أفعلوا أو لا تفعلوا.."، وأضاف: صحيحٌ؛ إن لسمو الأمير الشيخ حمد ولدولة قطر علينا "أيادٍ بيضاء"، ولكن نحن لم نلمس أن هناك من يطلب منا مقابل لذلك.. وقد سبق للأخ أبو الوليد في مقابلة أجرتها معه صحيفة الراية القطرية في 11 ديسمبر 2012م أن أوضح بشكل قطعي في ردِّه على من يظنون أن حماس تأخذ قرارها من قطر أو أن قياداتها توجها قطر نحو أجندة معين، وبهدف تحقيق مصالح خاصة، قائلاً: "هذا الظن قُصر نظر، وأن الذي يقف مع الخير وينصر الحق هو صاحب مصلحة محترمة في الدنيا والآخرة.." ثم أقسم، قائلاً: "والله ما ساومتنا قطر في شيء، ولا ضغطت علينا لأمر معين".
إن المراقب للمشهد العربي لن تغيب عنه مناقب سمو الأمير القطري، فهو رجل عربي أصيل، حافظ على سياسة ثابتة انتصر فيها لقضايا الأمة, وقد ظهرت مواقفه الرجولية والتي كانت تعكس رؤية حكيمة في أكثر من مكان تجاه التعاطي مع قضايا الأمة، وسعيه الدؤوب لتحقيق المصالحة والأمن والاستقرار في السودان ودار فور وفي لبنان وتشاد والصومال، وكذلك في دعم بلاده الواسع للحراك الشعبي وثورات الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، وأيضاً في زيارته التاريخية لقطاع غزة، وعطاءاته السخية لإعادة ما دمرته حروب إسرائيل العدوانية على القطاع، حيث تبرعت بلاده بأكثر من 450 مليون دولار لبناء مدينة حمد وأحياء سكنية أخرى للأسرى المحررين، وكذلك العديد من مشاريع الإعمار وترميم البنى التحتية.
تحركات سياسية لا تنسى
بعد تعثر كل المحاولات لفتح الطريق أمام الحكومة العاشرة التي كان يترأسها الأخ إسماعيل هنية، دخلت الحالة السياسية الفلسطينية في أزمة تسويق هذه الحكومة لدى الإدارة الأمريكية، حيث وضع الرئيس السابق جورج بوش الابن فيتو عليها، الأمر الذي يعني صعوبة إقلاعها لدى أي طرف أوروبي، كما أن إسرائيل وضعت كل العراقيل في طريقها، مما جعل من الصعب التمكين لها، وقلل بالتأكيد من فرص نجاحها.. وهذا هو ما أخبرنا به الرئيس أبو مازن في اللقاء الذي جمعه برئيس الوزراء إسماعيل هنية بعد جولته الأوروبية التي أعقبت تشكيل حكومة إسماعيل هنية في مارس 2006م، حيث أشار إلى أن أبواب الغرب ما تزال مؤصدة، والطريق غير مهيئة أمام الحكومة للإقلاع.
تحركت الدبلوماسية القطرية ممثلة بوزير خارجيتها الشيخ حمد بن جاسم مع الأمريكان، لإقناعهم بجدوى الانفتاح على الحكومة الجديدة، ومنح الفرصة للفلسطينيين لتفعيل ديمقراطيتهم الوليدة.
يبدو أن الشيخ حمد بن جاسم؛ مهندس السياسة القطرية، قد نجح في اقناع وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة كونداليزا رايس بأهمية مساعيه لجمع طرفي المعادلة الفلسطينية فتح وحماس على برنامج سياسي يمكن القبول به في المحافل الدولية، وكمبادرة حسن نية لدخول حماس ملعب السياسة والتواصل معها بما يخدم تحقيق السلام والأمن بالمنطقة.
وفي زيارة خاطفة خلال شهر رمضان (أكتوبر) 2006م، كان لقاء وزير الخارجية القطري برئيس الوزراء إسماعيل هنية، وقد جرى اللقاء بعد منتصف الليل تقريباً، ودار النقاش مطولاً حول رؤيتنا للحكومة وبرنامجها السياسي، وقد توصلنا معه إلى مجموعة من الصيغ والتفاهمات التي حملها معه إلى الجانب الفلسطيني الذي كان مجتمعاً بالمنتدى الرئاسي، والذي لا يبعد أكثر من عشرات الأمتار عن مكان قصر الحاكم الذي كنا نتواجد به.
كان من المفترض أن يعود إلينا سموه لوضعنا في صورة الرد، وذلك بعد عرض ما توصل إليه من تفاهمات معنا لدى كل من الطرف الفلسطيني والخارجية الأمريكية.. ولكن يبدو أن ما كان يطلبه الأمريكان كان أبعد مما يمكن أن تقبل به حماس، كما علمنا بأن ملاسنة تمت بينه وبين أحد أعضاء الوفد الرئاسي الفلسطيني دفعته لقطع رحلته، ومغادرة القطاع عائداً إلى قطر.. وفي إحدى زيارات رئيس الوزراء إسماعيل هنية لقطر، أشار له وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم معقباً على تحركه في تلك الجولة عام 2006م، وما سجله خلالها من انطباعات عن حرصنا الشديد على المصالحة، قائلاً: "وجهكم أبيض"، فأنتم قدَّمتم كل شيء والمشكلة لم تكن عندكم.
القمة الطارئة في الدوحة: تتويج الضرورة لقيادة حماس
فور بدء العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة في نهاية عام 2008م، دعت قطر الدول العربية لعقد قمة طارئة، وعرضت قطر استضافتها لتلك القمة، لكن مصر رفضت رسمياً دعوة قطر لعقد مثل هذه القمة، معللة ذلك بأنها تفضل المشاورات غير الرسمية بين القادة العرب المجتمعين في القمة الاقتصادية بالكويت، واتهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم بعض الدول العربية بـ"السمسرة" فيما يتعلق بغزة، وانتقد دولاً عربية لم يسمها، قائلاً: إنها شاركت في الحصار على قطاع غزة.
وما زال شعبنا يتذكر الكلمة المعبرة لسمو الأمير الشيخ حمد معلقاً على تردد بعض الدول في حضور القمة: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
وعندما قرر الرئيس محمود عباس مقاطعة القمة، وجهت قطر الدعوات لقادة المقاومة للمشاركة وإلقاء كلمة الشعب الفلسطيني، وقد حظي الأخ خالد مشعل بحفاوة كبيرة، وأخذ موقع الصدارة بالمكان المخصص للوفد الرسمي الفلسطيني.
وقد خرجت القمة بعدة توصيات كان من بينها التأكيد على ملاحقة إسرائيل قضائياً بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، كما دعت الدول العربية إلى تعليق المبادرة العربية للسلام، ووقف كافة أشكال التطبيع مع إسرائيل، وإنشاء صندوق لإعادة إعمار قطاع غزة.
زيارة هنية للدوحة: محطة تاريخية
في ديسمبر 2006م، قام رئيس الوزراء إسماعيل هنية بأول زيارة له خارج البلاد إلى دولة قطر، حيث افتتح وسمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني؛ مبنى وقفية القدس خلال زيارة مشتركة لموقع المبنى. وقال الأمير القطري: إن ريع المبنى سيخصص لدعم القدس ومواطنيها.. وأكد على أن قطر مهتمة بقوة بدعم المدينة المقدسة. ويذكر أن مبنى "وقفية القدس" سيتكون من نحو مائة طابق تحتوي على عدد من المكاتب والمحال التجارية. وقد وجه السيد هنية شكره للأمير القطري على هذه اللفتة الكريمة ذات الدلالة الكبيرة، وقال خلال حفل الافتتاح: "إن هذا المشروع يبرز مدى مكانة القدس في قلوب القطريين، وحرصهم على الوقوف الى جانب شعبنا الفلسطيني، وخصوصاً في مدينة القدس التي تتعرض للتهويد والاستيطان وتهجير المواطنين".
لا شك أن تلك الزيارة للدوحة قد مهدت الطريق للعلاقة الوثيقة التي ربطت بين الشعبين القطري والفلسطيني، وفتحت الباب أمام الزيارة التاريخية التي قام بها سمو الأمير القطري إلى غزة عام 2012م، وافتتاحه لعدة مشاريع تعد هي الأكبر في سياق إعادة إعمار قطاع غزة والذي تعرض لعملية تدمير كبيرة في العدوان الإسرائيلي على القطاع عام 2008م.
الوساطة القطرية وإنهاء القطيعة بين الأردن وحماس
في يناير 2012م، وصل الأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى عمان بصحبة ولي عهد قطر – آنذاك - الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وقد شكلت تلك الزيارة - وهي الأولى منذ استبعاد الأخ أبو الوليد في عام 1999م - نقطة تحول وعلامة فارقة في العلاقات المقطوعة بين حماس والأردن، والتي اعتبرتها الحركة الإسلامية في الأردن أنها "تاريخية"، لأنها طوت صفحة الخلافات والتوجس التي سادت علاقة الأردن بحركة حماس.
لا شك أن هذه الزيارة التي وفرَّت فرص نجاحها دولة قطر كانت للحركة في علاقاتها العربية فتحاً مبيناً، وخاصة منذ أن اعتبر رئيس الوزراء الأردني – آنذاك - عون الخصاونة أن "اخراج قادة حماس من الأردن كان خطأً دستورياً وسياسياً"، وأكد أن بلاده تسعى لإيجاد "علاقات متوازنة" مع كل القوى الموجودة على الساحة الفلسطينية.
لقت تلقفت قطر تلك التصريحات، وباشرت التحرك بسرعة لتحقيق هذا الإنجاز الأخوي بين الأردن وحركة حماس.
ختاماً: الوفاء من مبادئنا
لقد لمسنا في قطر وفي أميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة حساً قومياً وشعوراً إنسانياً متميزاً تجاه فلسطين وأهلها، ولست مبالغاً إذا قلت أنه كان للفلسطينيين بمثابة "نخوة المعتصم"، حيث كان منذ الأيام الأولى - التي تمَّ فيه فرض الحصار الظالم على شعبنا - أول من بادر بتقديم الدعم المالي لإغاثة "عمورية" قطاع غزة، وكانت الجزيرة التي يعتبرها البعض بمثابة وزارة الدفاع القطرية من عجل بسقوط إسرائيل أخلاقياً أمام العالم، لأن عدسات الجزيرة لاحقت كل جرائمها وانتهاكاتها للقانون الدولي، وكشفت جرائم الحرب التي ارتكبتها بحق الإنسانية، وكانت أحد عوامل تقصير أمد العدوان، وتعزيز صمود أهل غزة ورفع راية المقاومة وثبات مقاتليها.
لقد كانت قطر وأميرها السابق الشيخ حمد ليس فقط هي أول قطرات الغيث في قائمة أصحاب المنح والعطاءات والمواقف الكريمة تجاه شعبنا الفلسطيني، بل ظلت أيضاً سيمفونية "ثم ينهمر" تتردد في ظل أميرها الجديد الشيخ تميم بن حمد؛ باعتبار أن هذا الشبل من ذاك الأسد، على رأي الأخ خالد مشعل، والذي هو على قناعة ويقين بأن السياسة القطرية في عهد الشيخ تميم تجاه القضية الفلسطينية لن تتغير، حيث إن كل المؤشرات تقول بأن الأبن ماضٍ على خطى أبيه.
لقد وصلت هذه التطمينات لحركة حماس أيضاً خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الأخ إسماعيل هنية لقطر ولقائه بسمو الأمير الأبن، حيث أكد له إنه لا تغيير في السياسة القطرية تجاه الإخوة الفلسطينيين، وأن القضية الفلسطينية تحتل مكانتها في قلوب كل القطريين، وقد أبدى استعداداً لاستمرار دعم بلاده وتطويره، حيث وعد الشيخ تميم الأخ إسماعيل هنية بالشروع في مشاريع جديدة للإعمار في غزة، وأيضاً لم تغب القدس عن هذا اللقاء، حيث ركز سموه على دعم القدس وأهلها، وقد تجلت مواقف الأمير الأبن في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة في ملف القضية الفلسطينية وحصار غزة.
إن قطر إضافة لمواقفها السياسية في دعم القضية الفلسطينية فقد أقامت الكثير من المشاريع التنموية لتطوير البنية التحتية، كما عملت من خلال مؤسساتها الإغاثية ومنحة الأمير الشيخ حمد بالإسهام في التخفيف عن معاناة الأسرى والمعتقلين من المحررين، وذلك ببناء وحدات سكنية لهم، كما أنها شرعت في بناء مركز صحي حديث لتأهيل من بترت أطرافهم وأيضاً لخدمة أصحاب الحاجات الخاصة، إضافة لإنشاء مدينة حمد لتعويض الكثير ممن تهدمت بيوتهم جراء العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة، وقدّمت أيضاً منحاً دراسية لمئات الطلاب.
لكل ذلك، فإن نظرتنا لقطر تحمل الكثير من معاني التقدير والاحترام، وأن علاقتنا معها ستظل استراتيجية، ولن يؤثر في أصالتها ومتانة عروتها الوثقي حملات الاتهام والتشكيك التي يروج لها البعض، لأنها وطيدة الأركان، وقائمة على التآخي والاحترام المتبادل، وتأتي في سياق مصالح أمتنا المشتركة.


