خبر : أربعون عاماً على حرب تشرين: وقفة الفريق القومي الأخيرة ...بقلم : حسين حجازي

السبت 05 أكتوبر 2013 10:04 ص / بتوقيت القدس +2GMT



كنت أقرأ رواية "السكرية" الجزء الأخير من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، حين أذاع الراديو خبر اندلاع الحرب بعيد ظهيرة يوم السادس من تشرين الأول قبل أربعين عاماً، وكمثل جميع الأحداث الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ، جاء الحدث مفاجئاً دون توقع في هذا التوقيت. ولكن شاباً من جيلي كانت هزيمة حزيران 1967 لا تزال تنزف كالجرح كصدمة عميقة في النفس، فقد كان هذا هو الرد الذي ليس دونه اي رد اقل من حجمه ووزنه يمكنه ان يشفي الجرح. ولقد هللنا لعمليات "فتح" والفدائيين عبر الحدود مع الأردن وللبطولة في الكرامة، وعمليات السيدة الصبية في ذلك الوقت ليلى خالد التي الهبت خيال الفلسطينيين في خطف الطائرات. لكن الرد على هزيمة 1967 ظل ينمو ويكبر كصديد في الجسد يعتمل كالدمل، ولم يكن غير رد في المكان ومن لدن الجيشين نفسيهما المصري والسوري، ولم يكن سوى رد الكتل الحديدية الكبيرة على الكتلة الحديدية المقابلة ما يسوي الحساب ويغلق الملف.

وهكذا عصر ذلك اليوم بدا وكان الأمة تقوم من جديد وتنفض عنها غبار عارها القومي. ومع "بسم الله، الله اكبر، بسم الله" تعود للمصالحة مع تاريخها ومع نفسها كأمة مجيدة.
ان خمسة رجال احدهم كان مغيباً بالموت وأربعة باقين على قيد الحياة، هم من قدر لهم ان يصنعوا هذا الحدث الأول من نوعه بمبادرة العرب الى الهجوم في الحرب، اما هؤلاء الرجال فهم أولا جمال عبد الناصر الذي أعاد ترميم بناء الجيش المصري وأعده لهذا اليوم، في غضون السنوات الثلاث التي أعقبت هزيمة حزيران 1967 في وقت قياسي. وأما الرجل الثاني فهو خليفته أنور السادات الذي ادار مناورة مضللة ومخادعة أدت الى تحقيق نجاح مذهل في عنصر المفاجأة الاستراتيجية، حتى عندما تسربت المعلومات عن موعد الضربة لم يقبض المستوى السياسي الإسرائيلي هذه المعلومات بجدية. والرجل الثالث هو الشريك السوري لمصر في الحرب حافظ الأسد وهو رجل سيظل يذكره التاريخ بغض النظر عن اي ملاحظات أخرى، باعتباره باني سورية الحديثة والذي حولها من دولة فاشلة يجري الصراع عليها الى دولة إقليمية يعتد بها ويحسب حسابها في تقرير مصير المنطقة.
ان السادات والأسد هما اللذان بادرا لاتخاذ القرار بالحرب، لكن رجلين آخرين لا يجمع بينهما أي حدود مشتركة هما الملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس الجزائري هواري بو مدين رحمه الله هما الحليفان في الخطوط الخلفية ما وراء الجبهة، من سيلعبان الدور الحاسم وربما القومي والعروبي النادر في تدعيم مصر وسورية.
هل لهذا السبب سوف يقتل الرجلان الأخيران بصورة غامضة في غضون سنوات قليلة، الملك فيصل في العام 1975 قتلا بالرصاص، وهواري بو مدين العام 1979 ولم يكمل عمره الخمسين مريضا بظروف مفاجئة ؟ وإذا عرفنا انهما من اتخذا قرار الحرب الاقتصادية بوقف تصدير النفط الى أميركا وأوروبا، بموازاة الحرب في سيناء والجولان، ولم ينس لهما هنري كيسنجر موقفهما وجرأتهما على استخدام سلاح النفط لأول مرة في الصراع العربي الإسرائيلي.
هل عرفنا الآن كيف قدر للأحداث ان تنحو هذا المنحى على عكس ما تشتهي السفن، الصبوات والمشاعر الغائرة في صدر امة بأكملها تعرضت للإهانة في العام1967 وقبل ذلك في العام 1948، وانه ما كاد عقد السبعينيات الذي يستعر بالغضب ان ينطوي، حتى كان المشهد العربي برمته يشهد تغيرا راديكاليا أشبه بالانقلاب، فقد تصدع الفريق القومي الذي خاض الحرب كأول مبادرة حربية تخترق بل وتحطم المربع الأمني، نظرية الأمن الإسرائيلية. وإذ تلقى العالم درسا لا ينسى عن قوة تكاتف العرب واستخدام سلاح النفط في المعركة، وتم وصم الصهيونية في الأمم المتحدة كأيديولوجيا عنصرية، وجرى إلحاق الهزيمة النكراء بأميركا في وقت متقارب في ضربتين متتاليتين : سقوط سايغون 1975 في حرب فيتنام والشرق الأوسط 1973، ثم سقوط شاه إيران العام 1979. إلا ان مسّاً غريبا كما لو انه سحر اسود من عمل الشيطان كان قد أطاح عند نهاية العقد بكل هذه السلسلة من الإنجازات، التي ظهرت في المجمل العام وكأنها علامة على انتصار الجنوب على الشمال، الشرق على الغرب الاستعماري القديم والجديد، الاتحاد السوفياتي والاشتراكية على الإمبريالية الرأسمالية والليبرالية، دول الهامش على دول المركز، وفي القلب من هذا الخفقان العظيم انتصار فلسطين على اسرائيل.
لكن واأسفاه لقد عرفوا كيف يبدؤون الحرب لكنهم لم يعرفوا كيف ينظمون انتصارهم، وإذ أوقف السادات فجأة تقدم الجيش المصري في سيناء، استدارت إسرائيل للانفراد بالجيش السوري في الجولان، واحتاج الأمر مساندة الجيش العراقي للدفاع عن دمشق ضد السقوط، وكان هذا الموقف يحسب لصدام حسين.
وبينما اختلف العرب والفلسطينيون على الموقف من مؤتمر جنيف للسلام، تفجرت الحرب الأهلية في لبنان العام 1975، لدفع السوريين والفلسطينيين واللبنانية الى الاقتتال الداخلي على جلد الشاة، بينما كانت الخطة الكبيرة هي صيد الحوت، الديك الرومي المصري. وهكذا ولدت اتفاقية السلام المنفردة بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد لإخراج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وعند بداية عقد الثمانينات وجد عرفات والفلسطينيون انفسهم في صراع غريب من نوعه، في خصومة مزدوجة مع سورية ومصر على حد سواء، ودون الملك فيصل وهواري بو مدين. وفي صراع عبثي مع صدام حسين والأسد على ملكية القرار الوطني الفلسطيني، وهو الصراع الذي اثقل على عرفات حتى دعاه لأن يطلق صرخته الشهيرة، من ان عمق الثورة الفلسطينية الاستراتيجي يمتد من خاراسان حتى بيروت، قافزا عن سورية والعراق معا.
لكن الشيطان الأكبر الأميركي الذي أذكى الحرب الأهلية في لبنان، نجح في إذكاء الحرب الموازية بين العراق وإيران هذه المرة، بعد ان اقنع مصر والعالم العربي ككل ان روسيا السوفيتية يمكن ان تقدم لكم السلاح والدبابات التي تحاربون بها، لكن اميركا فقط وحدها هي من تستطيع ان تعطيكم "الزبدة" اي الاقتصاد والسلام، ويمكنكم ان تختاروا. وما كاد عقد السبعينيات يلفظ أنفاسه حتى كان العرب جميعا قد اختاروا الزبدة الأميركية تحت أنين اقتتالاتهم الداخلية، وانتفاضة الفقراء في مصر.
بعد أربعين عاما على حرب تشرين لم تكن هذه آخر حروب العرب مع إسرائيل، وان كانت آخر الحروب التي خاضتها جيوش الدول العربية ضد إسرائيل. ورغم صمت المدافع على الجبهات بين مصر وسورية مع إسرائيل، لم يهدأ الشرق الأوسط اربعين عاما. حيث ورثت الجيوش الصغيرة الجيوش الكبيرة، وهكذا أمضت الأربعين عاما الماضية جيوش فتح وحزب الله وحماس سلسلة هذه الحروب المتصلة.
وبينما فضل العرب خيار السلام الاستراتيجي اي الزبدة الاميركية، فأنهم لم يحققوا لا السلام مع اسرائيل ولا سلامهم الداخلي، ومن منظار اليوم فإن حاضر العرب مختلف عن الامس يوم السادس من تشرين الاول العام 1973. حتى ليبدو هذا الحاضر منطويا على قدر من الفانتازيا السوداء.
إن الجيشين المصري والسوري يحارب اليوم كل منهما داخل حدودهما في سيناء وغوطة دمشق، ضد أعداء داخليين، ولم يعد هناك الجنرالات الذين صنعوا مجده الغابر، أمثال عبد المنعم رياض ومذكور ابو العلا وسعد الدين الشاذلي وعبد الغني الجمسي واحمد إسماعيل، في الوقت الذي يفاوض فيه الرئيس أبو مازن وحيدا إسرائيل ربما لعشرين عاما أخرى، دون اي دعم من العرب. وقد كانت حرب تشرين وقفة الفريق العربي القومي الأخيرة، لكن فقط ضوءا وحيدا يرى اليوم في نهاية هذا النفق، ان الزبدة الأميركية تذوب اليوم وتفسد في أميركا، ويهدد ذوبانها بانهيار اقتصاد العالم. فيما روسيا هي التي تستعيد للمرة الأولى قيادة دبلوماسية العالم بعد انهيار السلام الأميركي، وأفول عصر روما الجديدة نفسها وهذا هو المتغير الكبير الذي قد ينبئ بولادة عالم جديد.