كالعادة، عندما يعتلي رئيس حكومة إسرائيل منصة الأمم المتحدة ليلقي خطابه في المناسبة السنوية لانعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، يعتقد أنه جزء مهم من الأسرة الدولية، وأن بلاده تحظى بمكانة مرموقة في المجتمع الدولي وأن بمقدوره أن يقنع الآخرين، بأن سياسة بلاده تتمتع بالحكمة والحصافة والمسؤولية.
مرة بعد اخرى يكتشف المسؤول الإسرائيلي الرفيع، أن دولته معزولة وتزداد عزلة عاماً بعد الآخر، وأن خطاباته ممجوجة، ورسائله ليست محل احترام وأن متانة وتاريخية علاقات بلاده مع الولايات المتحدة، وحدها، لا تكفي لتخفيف عزلتها الدولية المتزايدة، بل أحياناً تكون هذه العلاقة أحد أسباب العزلة، خصوصاً حين يكون معيار حسن أو سوء مكانة إسرائيل مرتبطا بفلسطين وقضيتها.
منذ بداية ولايته الأولى، أبدى الرئيس الأميركي باراك أوباما، اهتماماً بالعملية السلمية وبالمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، لكنه وجد أبواب الإسرائيليين مغلقة، فلقد أصر نتنياهو وحكومته المتطرفة، كما يفعل الآن، على أولوية الملف النووي الإيراني، محاولاً إقناع أصدقائه الأميركيين، بأن هذا الملف ينطوي على خطر استراتيجي وجودي بالنسبة لإسرائيل. لم يكتف نتنياهو بذلك بل وجه لحليفه الأميركي عدداً من الإهانات، وتعمد إفشال مساعي المبعوث الأميركي لعملية السلام جورج ميتشيل. ربما كان على حق كل من حذر نتنياهو بأن أوباما في حال فوزه بدورة رئاسية ثانية، فإنه لن يخضع للابتزاز الإسرائيلي كما حصل خلال الولاية الأولى، وأنه قد يعاقب نتنياهو.
الآن هذا لا يعني أن أوباما وإداراته، سيخرجان عن محددات الموقف الأميركي تجاه أي تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي لا تزيد كثيراً عن الرؤية الإسرائيلية، فلقد بينت التجربة أن الولايات المتحدة تضغط على الفلسطينيين كل الوقت، لحساب إسرائيل، قبل ذهابه إلى الولايات المتحدة حددت مصادر رسمية إسرائيلية المخاطر التي تنتظر إسرائيل خلال المرحلة القادمة، وأشارت إلى أن أهمها على الاطلاق خطر المشروع النووي الإيراني، ثم خطر الجماعات الارهابية، في ضوء استبعاد خطر شن حروب كلاسيكية من قبل جيوش عربية. وحسب المصادر فإن نتنياهو يملك من المعطيات ما يؤكد أن إيران ماضية في برنامجها النووي العسكري، وأنها تملك أكثر من مئتي كيلو من اليورانيوم المخصب، بما يكفي لإنتاج قنبلة نووية ـ يعتقد نتنياهو أنه قادر على إقناع الأميركيين وغيرهم، بضرورة التخلي عن الحلول الدبلوماسية، والحوار مع طهران، وقبول اقتراحاته بشأن تدمير المفاعلات النووية الإيرانية، ـ سحب كميات اليورانيوم المخصب منها، ومنعها من التخصيب، والاكتفاء بشراء اليورانيوم المخصب بنسب متدنية لا تصلح للإنتاج العسكري. إسرائيل ومنذ اليوم الأول لانتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني وهي تحذر من أنه "ذئب بجلد حمل" وأن خطابه المنفتح والعقلاني، ينطوي على خداع كبير للمجتمع الإقليمي والدولي، الأمر الذي فشل في إقناع الأميركيين والأوروبيين في قبوله. ثمة إهانة أخرى يوجهها نتنياهو حين يشكك في قدرة المؤسسات الاستخبارية الأميركية والأوروبية، بشأن المدى الذي وصلت إليه إيران في برنامجها النووي، لكنه بالمقابل كان عليه أن يتجرّع الإهانة من قبل الأميركيين والأوروبيين، الذين رحبوا بخطاب روحاني وأبدوا استعداداً إيجابياً للانفتاح على إيران، والعودة إلى المفاوضات ونحو تنشيط الحل الدبلوماسي، ولكن بدون أن يتنازل هؤلاء عن رفضهم لعسكرة البرنامج النووي الإيراني.
إسرائيل التي لاحظت التغيير في مكانة ودور الولايات المتحدة، على المستوى الدولي، إثر ترددها في توجيه ضربة عسكرية لسورية، وقبولها المبادرة الروسية، للنزول عن أعلى الشجرة، بما يؤكد تغير المعطيات الدولية، حيث لم تعد الولايات المتحدة، قادرة على شن المزيد من الحروب، أو تحمّل أعباء تفردها في المسؤولية عن الأزمات الدولية، إسرائيل هذه بدأت تتخوف، أيضاً، من المرونة التي تبديها الإدارة الأميركية تجاه البرنامج النووي الإيراني.
وتعتقد الدوائر الإسرائيلية أن الولايات المتحدة، تسعى للضغط بقوة على إسرائيل فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، لإرغامها على التعامل بجدية وبشكل مختلف مع عملية التسوية بينها وبين الفلسطينيين.
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ربط الرئيس باراك أوباما بين مجابهة البرنامج النووي الإيراني، وبين ملف تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مشيراً على "أن الموضوعين اللذين سيركز عليهما الجهد الدبلوماسي الأميركي قريباً، هما إيران ومشروعها النووي، والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي".
يفهم الإسرائيليون على نحو واضح، بأن الرئيس أوباما، لا يضع هاتين القضيتين على رأس أولويات السياسة الخارجية الأميركية فقط، وإنما يربط بينهما وان حل المسألة الأولى مرهون بحل المسألة الثانية، على حد تعبير المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.
إنها عودة إلى الأصول، ذلك أن الرئيس أوباما ربط بين الملفين في بداية ولايته الأولى عام 2008، لكنه فشل في إقناع الإسرائيليين بذلك، والذين وضعوا معالجة الملف النووي الإيراني على رأس سلم أولوياتهم، وتجاهلوا تماماً ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
إسرائيل تهدد بالقيام بعمل عسكري منفرد ضد إيران في حال فشلت في إقناع حلفائها الأميركيين والأوروبيين، بالتخلي عن التعامل الدبلوماسي واللطيف مع إيران في ظل السياسة المرنة التي أعلنها الرئيس حسن روحاني، الذي يتمتع بذكاء حاد، وخبرة سياسية، ستؤدي الى عزل إسرائيل، والإيقاع بينها وبين حلفائها. روحاني بخلاف سلفه أحمدي نجاد، اعترف بالمحرقة اليهودية، لكنه رفض أن يكون الشعب الفلسطيني ضحية رد الفعل، والذي عليه أن يدفع الثمن، كما أن خطاب الرجل، تجاه إسرائيل يخلو من التهديدات القوية التي كان يطلقها نجاد، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بأولوية تحسين العلاقة مع جيرانه الخليجيين، في مقدمتهم السعوديون، خطاب روحاني يستهدف فكفكة الأجواء من حول بلاده، والامتناع عن خوض معارك دونكيشوتية، وحتى لو كانت حقيقية ولكن لم يحن وقتها، ولكنه ليس بالضرورة ذاهبا نحو التخلي عن برنامج إيران النووي، وربما أراد كسب المزيد من الوقت لبلوغ الأهداف التي سعت إليها إيران خلال حكم نجاد، ولكن عبر لغة وتطمينات لا ضرر من ورائها.


