النهاية التي تتسارع نحوها خطانا، نهرول، بل نجري نحوها بغباء غريب، نعرف أننا سنصطدم بها لا محالة، آتية آتية، نغير الموضوع أو نقولها بفجاجة و صراحة ( لا نحب الحديث حول هذا الموضوع).
كنت على ضفاف النيل في القاهرة، مع عائلتي، نتأهب للاحتفال بعيد ميلادي الأربعين..
القاهرة،هي بالنسبة لي قاموس حياة، و تلخيص للدنيا، أرى فيها المجهول على صخور المقطم و الخوف منحوت على جدران القلعة و محيطها و فرح الشباب و دلع الصبا في شوارع مصر الجديدة و جرأة الفتاة اللعوب و تمادي الشباب و تهوره في القاهرة الجديدة، و عظمة الله و الإحساس بالورع في المساجد و المآذن الشاهدة المكبرة بصوت غض حنون ، وفيها أرى أيضا زيف الدنيا و عهرها في فنادق النجوم الخمسة أو السبعة المتسكعة على ضفاف النيل العظيم، فبين النيل الداعي للتفكر في بديع خلق الله و الإحساس بطمأنينة النفس و فنادق الفتن الراقية و العهر المتثقف، أحس بمعني " النجدين " أيهما يسلك الإنسان؟ !!
في الأربعين ، يا سيدات ويا سادة ، وما بعد الأربعين ، تتفتح العيون و تكتمل زوايا الرؤية ، و لا يكتف الأربعيني الزاحف بهمة و نشاط نحو الخمسين ، بسطحيات الأمور ، وربما لذلك يقولون أن هذا السن هو سن ( إكتمال الرجولة ) ، أو ربما القصد إكتمال الصورة ..منذ تلك السنة ، بدأت أجير جزءا كبيرا من شغفي الفطري ، و قوتي البدنية و العقلية نحو التنقيب و البحث عن ما وراء الظاهر ، عن حقيقة الأشياء ، فسنوات الشك أتعبتني ، و أتعبت شبابي ، و التقلب بين الأمزجة ، و بين تحصيل المعرفة تارة ، و الذنوب تارة ، و الحسنات تارة ، و المال تارة ، و اللهث خلف الحياة الشاردة ، أتعبني أو هو تعب مني .. فكان لزاما علي ، أو هكذا هي طبيعة الأربعينات ، تلزم من تصيبه ، بأن يقف ، ليعيد النظر ، و يتأمل ، بالقطع كان الموت و الخوف منه أحد أهم ما بدأت أبحث عن تصريفاته ، و حقيقته ، لتبدأ رحلتي بين الشك .. و بين إنهيار الشك ، باليقين و الإيمان إن شاء الله .
كانت في سهرتي تلك ، على النيل ، تسرقني من بين الحاضرين ، تجذبني إليها ، فأرمقها بنظرة بين لحظة و أختها ، رغم وجود زوجتي إلى جانبي .. كانت ساعة الرمل .. التي لاحظ إبني الصغير إنشغالي بها ، ليسألني عن الحكمة في أن الرمل يقل في ناحية ، ليزيد في الأخرى ، فأجبته بما يشبه المنوم مغناطيسيا ، بأنها الحياة والعمر ، بقدر ما تقل من ناحيتي ، تزيد ناحيتك .. ﻗﺎل ﺑﻌﺿﻬم: اﻟﻛون ﻛﻠﻪ ﯾﺣق ﻟﻧﺎ أن ﻧﺳﻣﯾﻪ ﻋﺎﻟم اﻟﻣﺗﻐﯾرات وﻛل ﺷﻲء ﻓﯾﻪ ﯾﺗﻐﯾر ﻓﻬﻧﺎك ﺗﻐﯾرات ﻣﺳﺗﻣرة ﻓﻲ اﻟﻣواد اﻟﻛﯾﻣﺎوﯾﺔ, وﻫﻧﺎك ﺗﻐﯾرات ﻣﺳﺗﻣرة ﻓﻲ اﻟﺻﻔﺎت اﻟﻔﯾزﯾﺎﺋﯾﺔ, وﻫﻧﺎك ﺗﻐﯾرات ﻣﺳﺗﻣرة ﻓﻲ اﻟﺑذور, واﻟﺑذور ﺗﺻﺑﺢ أﺷﺟﺎراً, واﻷﺷﺟﺎر ﺗﺻﺑﺢ ﻫﺷﯾﻣﺎً, واﻟﻬﺷﯾم ﯾﺗﺣﻠل إﻟﻰ ﻋﻧﺎﺻرﻩ اﻟﻛﯾﻣﯾﺎﺋﯾﺔ واﻟﻔﯾزﯾﺎﺋﯾﺔ, ﻓﻬﻧﺎك ﺣرﻛﺔ داﺋﺑﺔ ﻓﻲ اﻟﻛون, ﻛل ﺟرم ﻓﻲ اﻟﻔﺿﺎء ﯾﺗﻐﯾر ﻣن ﻣﻛﺎن إﻟﻰ ﻣﻛﺎن ﯾﺳﯾروﻓق ﻓﻠك, وﻫﻧﺎك ﺣرﻛﺔ ﻓﻲ اﻟذرات, و ﺣرﻛﺔ ﻓﻲ اﻟﻣﺟرات, و ﺣرﻛﺔ ﻓﻲ ﻋﺎﻟم اﻟﻔﯾزﯾﺎء, و ﺣرﻛﺔ ﻓﻲ ﻋﺎﻟم اﻟﻛﯾﻣﯾﺎء,وﻓﻲ ﻋﺎﻟم اﻟﻧﺑﺎت و اﻟﺣﯾوان, وﻓﻲ ﻋﺎﻟم اﻷرض, و ﺣرﻛﺔ داﺋﺑﺔ ﻓﻲ اﻟﺑﺣﺎر, و ﺣرﻛﺔ داﺋﺑﺔ ﻓﻲ اﻟرﯾﺎح, وﺣرﻛﺔ داﺋﺑﺔ ﻓﻲ اﻷﻣطﺎر و ﺗﻐﯾرات ﻣﺳﺗﻣرة ﻓﻲ ﻛل ﺷﻲء ﺧﻠﻘﻪ اﷲ ﺳﺑﺣﺎﻧﻪ وﺗﻌﺎﻟﻰ.
اﻟﺻوت ﯾﺗﻐﯾر وﯾﺻﺑﺢ ﻛﻬرﺑﺎء, واﻟﻛﻬرﺑﺎء ﺗﺻﺑﺢ أﻣواﺟﺎً ﻓﻲ اﻟﻔﺿﺎء اﻟﺧﺎرﺟﻲ, واﻷﻣواج ﺗﻧﻘﻠب إﻟﻰ ﺻوت و صورة تسﺗﻘﺑل ﻓﻲ ﺟﻬﺎز اﻟراﺋﻲ, واﻟﻣﺎء ﯾﺗﺑﺧر, واﻟﺻورة ﺗﺻﺑﺢ ﻛﻬرﺑﺎء, واﻟﻛﻬرﺑﺎء ﺗﺻﺑﺢ ﻣوﺟﺎت ﺛم ﺗﻌﺻر ﻓﯾﻧﻘﻠب إﻟﻰ ﻣﺎء, ﻛﺎن ﻣﻠﺣﺎً أﺟﺎﺟﺎً ﻓﺻﺎر ﻋذﺑﺎً ﻓراﺗﺎً. وﯾﺻﺑﺢ ﺳﺣﺎﺑﺎً, . اﻟطﻔل ﯾﻛون ﻧﻘطﺔ ﻣن ﻣﺎء ﻣﻬﯾن, ذرة, مركبات و جرامات و أعشار على أعشار من آلاف بل ملايين الأعشار من المركبات المقطرة و الممتصة مما أنتجته الأرض ، من فاكهة و خضرة و لحوم ، ليتحول إلى ﺣﯾوان ﻣﻧوي دﺧل ﻓﻲ ﺑوﯾﺿﺔ ﯾﺗﻐﯾر و ﯾﻧﻘﺳم إﻟﻰ آﻻف اﻟﻣرات وﻫو ﻓﻲ طرﯾﻘﻪ إﻟﻰ اﻟرﺣم, وﺑﺎﻟرﺣم ﺗظﻬر ورﯾﻘﺎت ورﯾﻘﺔ ﺑﺎطﻧﯾﺔ " اﻷﺣﺷﺎء ", وورﯾﻘﺔ ﺧﺎرﺟﯾﺔ " اﻟدﻣﺎغ ", ﺛم ﯾﺗﺷﻛل خلقا آخر ، و يولد طفلا إنسانا ، يصرخ ثم يمشي ثم يبطش ..و يفكر ، و يعول و يأكل من التراب ، ترابا متحولا ، ليعيد الكره مرة تلو المرة في دائرة مستمرة من الخلق و الموت و البعث ، يحدث هذا كل يوم أمام أعيننا ، كل ثانية أمام أعيننا .. فحين يموت الانسان يتحلل جسده ويعود الى عناصره الاوليه التراب ثم يعود ويحيى يوم البعث ( والله الذي ارسل الرياح فتثير سحابا فسقناه الى بلد ميت فاحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور ) فالنشور للنبات يحدث كل عام او اقل من عام وللانسان يحدث لمرة واحدة فقط .
و أكثر من ذلك ، بل و يتعداه ، أن النشور و إعادة الخلق لا يشبه بدايته من حيث ( التزويج ) الذي يحدث في النشور ، بخلاف الخلق الأول أو الإنشاء الأول ، فالتزويج ، ظل لفترات كبيرة ، بل و إلى الآن ، يقتصر في ما رأيت من قراءاتي في التفاسير ، أنه تلك العملية الجنسية ، و العرس العادي بين الذكر و الأنثى ، بل إن الراي إستقر على أن الحور العين هن فتيات المتعة و المرح في الجنة ، و في قراءتي أنها مخلوقات في الجنة التزاوج بمعنى الإمتزاج بها يحقق الخلود و المتعة الأبدية اللامنتهية .. ليس فقط المتعة الجسدية الجنسية المنقطعة ، بل إن بعض التفسيرات الغريبة أشارت إلى " النشوة و القذف .. و هذا مما لم أجد له أصلا قرآنيا في إطلاعي و دراستي .. فقد رايت أن الحور العين مكونة من كلمتين ( الحور ) و في رؤيتي هي تعني الخلايا الإبتدائية و العين ( من العون ) .. فهي إذن مخلوقات ( خليوية البناء تعين أهل الجنة على التجدد الدائم و الخلود الممتع و الهانئ ) .. أنا عملية الإتصال بها ، أو الإمتزاج معها ، فإنها متروكة لأن أحداً لا يعرف طبيعتها إلا وفق التوصيف التقريبي الذي أراده الله لعقولنا التي تحكم وفق قانون المادة بأنه إتصال ذكر بأنثى .. و الله أعلم .. وفي غمار هذا لم أجد أفضل و أقرب مما أذهب إليه من ما راى المهندس عدنان الرفاعي فتح الله عليه في قوله :
إنّ عملية التزويج هي أساس البقاء و الإرتقاء في كوننا سواء كانت تفاعلا في العالم الميت أو تناسلا في العام الحي و الآية تشير أنّ أساس بقاءنا و خلودنا في دار الخلد هو هذا التزويج بـ ( حورعين ).
قد يخفى عن البعض ان هناك تزويج لنفوس الناس جميعا صالحا وطالحهم قبل دخول الجنه والنار (وَإِذَا النُّفُوسُ زوّجت ) ، و لا شك أنّ الأمور المصورة في آيات التكوير لا تصف عرسا و تزويجا بالمعنى المشاع بل أنّ كل نفس يلحق بها زوجها الدنيوي الذي يمثل ذاكراتها المخزنة لأعمالها ، وبناءا على هذا التزويج يتم تحديد مصير الناس في عملية الانتقاء الصارمه للصالحين منهم لدخول الجنه ليتم تزويجهم بالحور العين الذي هو تعبير عن موجود في الجنه نجهل كينونته هو المسؤول عن بقاءنا الخالد بان يعيننا ( عين ) على تجديد طاقتنا وخلايانا ( حور ) بشكل دائم ومستمر نكون فيه متجددين بلا نهايه وهو ما اشار له القرءان بتعبير خالدين ، وكذلك ايضا ثمار الجنه فهي متجدده لحظيا ولا تنضب ، فتمازج شجرة او بتعبير القران تزويج شجره رمان في هذه الحياة الدنيا بهذا الحور العين سيجعل من هذه الشجرة كافيه لإطعام اهل الارض جميعا ولا ينقص من ثمارها شيء. إذن فإعادة الخلق لا تتوقف عند تكوين أسايات التخليق كما في المرة الأولى ،لأن المرة الأولى مآلها إلى موت محقق ، أنا الثانية فإلى خلود سرمدي ، سواء في الجنة أو جهنم و العياذ بالله ، لذلك الخلق الثاني هو بحاجة إلى تجديد مستمر و خلايا متفاعلة في عملية تزويج و مزاوجة و إنتاج دائم ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيمًا) [النساء: 56]
فالخلق الأول ( خلق الحياة المنتهية بموت) ، يأخذ دورة كاملة من التربة بما فيها ، من غذاء وما ينتج عنها من غذاء حيوان ، ليتحول إلى تركيب حيوان منوي جديد ، ليصبح إنسانا .. و عملية " البعث " تختصر هذه الدورة لتصبح إعادة بناء و تركيب مكونات الإنسان مباشرة من التراب ، ليقوم إنسانا كاملا يحمل نفس ( شيفرة ) التركيب ، و معادلة التكوين لكل واحد .. شكلا وموضوعا .. إعادة الخلق إذن أو عملية ( البعث) هي أهون من الخلق الأول ، أو على الأقل ، هي أسرع و أكثر مباشرة ، { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} صدق الله العظيم .
وما بعد هذا هي عملية الخلود المرتكزة على أن كل نفس قد زوجت ، و أضيفت لها إمكانات البقاء و التجدد و الخلود. مثل هذا البحث ، و التنقيب ، كان لا يخطر ببالي و أنا شاب متهور ، منطلق في هذه الحياة ، لأنني لم أكن أرى إنحناءات نهاية الطريق ، و نهاية المشوار ، كما بدأت تشخص لعيني في الأربعينات وما بعدها ، بدأ هذا النوع من التفكير يجتاحني ، و بدأ الشك يتسرب من كل ثقب في جدار الإيمان الواقي لنفسي ، يتسلل منه الشيطان بسلاسة و يسر ، و يثير في وجداني التساؤلات ، و يحببني في مقاومة الحقيقة ، و إدراك التغيير الحتمي ، عندما تتحول لحظة ما ، يوم ما ، زمن ما ، إلى شخص ، نفتقده ، نحن إليه ، نتذكره ، و نشعر بجنوح رافض لأن يتحول إلى ذكرى ، بل نريده واقعا معاشا سرمديا ، لا ينتهي ، عندما تتحدث إلى شخص ما ، في زمن ما ، في موقع ما ، و أنت تعيش الزمن السرمدي الذي تعتقده ، عندما تقود سيارتك و لاترى الشارع ، عندما تشعل السيجارة و ترغب في تدخين أخرى ، عندما تنسى الساعات و تفيق فجرا و تنام عصرا و تتعشى ظهرا ، عندما تؤذن للصلاة في روما و تحترم نصارى مكة ، عندما تؤمن بضرورة إعدام أفكارك حتى لا تأكلك ، و أنت تدافع عنها حتى تعيش ، عندما لا تؤمن بمبادئك ، عندما يصبح العدم هو ذاتك و كيانك ، عندما تشعر أنك تتحول إلى خيال يطاردك ، و تشعر بعظامك تحت لحمك و جلدك ، عندما يختلط الحابل بالنابل ، و القاصي بالداني ، فإنك رجل يخوض الأربعين و يزحف نحو الخمسين .
و يستمر شيطاني في الوسوسة و يسألني : تتجمل ؟ تكذب على من ؟ على الناس أم على نفسك ؟ وهل هي إلا كذبة كبيرة نعيشها و نتعايش معها ؟ نقبل إملاءاتها و نقر لها بالولاية علينا و نتذرع بالإيمان بالقدر و المكتوب و النصيب و ضرورة حكم الزمن و طبيعة الأشياء و غير ذلك من التصريفات و المسميات الهزائمية المنسحبة المتواطئة ، نتطلع إلى حقوقنا تنهب و نتعاطى مسكنات بل مغيبات الإرادة و الرجولة و الحرية و القرار ، نتعاطى إيمان و دجل سياسي و إجتماعي و خرافات أولين و نكتف أيدينا و نترك مالنا بيد غيرنا ، نتحسر عليه ، ثم نموت !!! وكأن الموت نهاية يفضي إلى عدم ..
ثم ما يلبث شيطاني أن يبدي نوعا من " التعاطف و الرثاء لحالي ليشعرني بضعفي أمام " المنطق الزائف الذي يدعوني إليه" فيوسوس: ملعونة أنت أيتها الغربة ، ملعونة أنت أيتها الوحدة ، ملعونة أنت أيتها المبادئ ، تأسر صاحبها ، تعشقه و تغرقه عشقا ، و أحلاما و فرحا ، ثم تغيب .. و أنجذب إلى وسوسات شيطاني ، فأراني وقد مال بي الهوى , ضعفت نفسي الأمارة بالسوء أردد :
كنت ، وكانت حياة ، و لحظات ، و هنيهات قصار ملاء عشتها ، و عاشتني و إنتهت ، ماتت و ماتت معها الصور و الأصوات ، ذابت أوراق الشجر تلك التي أراها يانعه... في الصور ، تخشبت الأصابع ، و ثقلت الأحمال ، و أصبحت بكلامي مثيرا للضجر ...
هذه صورة من صور بث " اليأس " و الذي بالضرورة سيحوله الشيطان بكل سهولة إلى حالة ( شك ) .. تعبد طريق الإثم .. و الدواء ليس في حبة المنوم ، و لا في فيلم السهرة ، ولا في البحث عن حب جديد يعيد العمر عشرين عاما للخلف .. الحل في قوله تعالى : { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ـ تأملت هذه الآيه ، فتبسمت ، ليس فقط بسبب الإحساس المفاجئ بالرضا و السكون ، بل لحكمته تعالى في أن يرسل لنا هذه الرسالة في سورة ( الحديد ) ، الرمز الخالد للقوة و البأس ... فمن هو رَاضَ عن نفسه يتذكر ربه في جميع حالاته : في سرائه وضرائه ، وفي شدته ورضائه ، وفي صحته وسقمه ، وفي طاعته ومعصيته ، يسند كل أمر إلى مصدره ويطمئن إلى حكمة الله فيما نزل به ، فيَسَكن قلبه ، ويستريح من الهم والحزن على ما فاته ، ومن الزَّهو والبطر بما جاءه ، ويأًمِن متاعب القلق والاضطراب . {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} – الزمر.
وفي هذا أمل متجدد ، و تجديد حياة ، والاطمئان عزاء وسلوان ، ورضا وراحة بال . قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] . و أخيرا ، في وقفتي التأملية الأربعينية هذه .. أقول لنفسي ولكل جيلي الذي تجتاحة همزات الشيطان ، لتصيبه بالشك و الخوف .. " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" صدق الله العظيم ، رغم الحكم المسبق و العلم بأن هذه الحياة الدنيا إلى زوال ، و أننا ميتون ، إلا أن الحياة الدنيا و سيلة يجب أن تعاش بكل تفاصيلها ولا يجب أن يعيش الإنسان الحياة خائفا من شبح الموت ، أقول لنفسي و لأبناء جيلي : لا تمت قبل الموت .


