شاركت شخصياً في معية الدكتور نبيل شعث عصر ذلك اليوم، بعد إنشاء السلطة الفلسطينية في المراسيم الاحتفالية المتواضعة والبسيطة، إيذاناً بالبدء في افتتاح معبر رفح وفق البروتوكول الخاص بعمل المعبر، والذي استغرق أشهراً من التفاوض عليه بين مجموعة من الخبراء الفلسطينيين والإسرائيليين، وكانت لحظة مثيرة للانفعال في ذروة هذه المراسيم حينما رُفع العلم الفلسطيني على سارية في فناء المعبر، بينما كان العاملون في الفريق الفلسطيني والإسرائيلي يثرثرون بأصوات صاخبة قريباً من صالة المعبر زرقاء اللون، وكأنهم يمضون إجازة في رحلة مدرسية، أكثر من كونهم يستعدون للقيام بمهمة معقدة لا سابق لها، فقد كان السلام في ذلك الوقت يبدو فعلا او حقيقة هو العمل السهل، كما سيردد نفس العبارة باراك اوباما على مسامع الرئيس أبو مازن قبل أيام في البيت الأبيض. هيا إذن يا نظمي مهنا هكذا، ويا مناشيه وقد عرفتم ما يتوجب عمله، أديرا العمل.
كان الإسرائيليان في ذلك الوقت اسحق رابين وشمعون بيريز، لا يزالان يعتدان وربما يفاخران بينهما وبين نفسيهما بهذا الشعور بتفوق اليهودي الباطني على محور الذكاء على الأغيار والعرب بشكل خاص، ولذلك فقد حرصا على إرضاء الفلسطيني في الشكل بالتنازل او التساهل على جبهة الرموز، بينما يحتفظان بالسيادة والسيطرة الفعلية في الواقع او الجوهر، وكان هذا هو مغزى تلك السيادة الشكلية او المنقوصة التي لم يغير من حقيقتها رفع العلم. فالاحتلال هنا لم يحمل عصاه ويرحل ولكن الفلسطيني الذي كان لا يزال يحارب حتى هذا الوقت على جبهة الرموز، فقد رأى ذلك بمثابة النقلة النوعية التي تسبق او تمهد للتحول العظيم، وهو التحول الذي سوف يحدث بعد عشر سنوات في السنة الخامسة لانتفاضة عرفات وبعد سنة من مقتله، حينما سترحل إسرائيل عن غزة وعن المعبر ممر فيلادلفيا، في مشهد اقرب الى الهروب.
لكن الفلسطينيين الذين وقع انتصارهم بين ايديهم كمفاجأة ربما لم يتوقعوها، بدا وكانهم لم يكونوا مستعدين للتعامل مع هذا التحول الدراماتيكي، وكان ارتباكهم الفكري كما السياسي على المستوى التنظيمي قد انعكس في انقسامهم المبكر على المستوى الفكري، في تقييم ما حدث. هل هو تحرر غزة أم أن غزة لا تزال محتلة ؟ وكان أصحاب وجهة النظرة الأولى يرون إلى الجانب المعنوي، أما أصحاب وجهة النظرة الثانية المتشككين، فقد رأوا إلى ذلك نوعاً من الخداع الإسرائيلي الانسحاب المادي عن الأرض، ولكن مواصلة الاحتلال من البحر والسماء والحصار البري على المعابر والحدود.
وهكذا بينما كانت حركة حماس تنظم العروض العسكرية احتفالا بالانتصار الذي سوف تعزوه لكتائبها المسلحة، كانت السلطة تبرم اتفاقية جديدة تنظم إدارة المعبر على الحدود مع مصر بإشراف مراقبين من الاتحاد الأوروبي، وتحت سيطرة قوات الأمن الوطني وهي اتفاقية حظيت بموافقة مصر وإسرائيل معا والمجتمع الدولي. وبينما غيرت حماس في العام التالي 2006 من رفضها السابق العام 1996 المشاركة في الانتخابات التشريعية كنتيجة مباشرة لما حدث، فقد كانت مسألة وقت فقط لكي تقوم حماس بترجمة ما اعتبرته انتصارها هي الى واقع سياسي جديد، جاءت نتائج الانتخابات المفاجئة لها هي أولا كما للجميع، لتسرع بما سيمثل فيما بعد أول صدام مسلح واحتراب أهلي فلسطيني داخلي، لحسم ازدواجية السلطة وتطبيق مقولة نابليون من أن من ينظمون النصر هم من يحكمون البلاد.
هنا من رحم انتصارها المزدوج على إسرائيل والسلطة، سوف يولد او ينشأ مأزق حماس في غزة، اذا كان الرئيس المصري المخلوع فيما بعد بثورة شعبية حسني مبارك، هو من سيأخذ المبادرة هذه المرة لتشديد الحصار على حماس في غزة، بالتنسيق او التناغم المباشر مع إسرائيل باعتبار حماس امتدادا للإخوان المسلمين. واذ انقلبت حماس على اتفاقية المعبر لعام 2005 واعتبرتها كأنها لم تكن، فإنه لن يطول الوقت حتى تقوم إسرائيل بحربها الموسعة الأولى نهاية العام 2008 على حماس، بمشاركة من نظام حسني مبارك بعد ان بلغ الحصار على غزة مداه، واضطر الغزيون إلى استبدال السولار والبنزين بزيت الطهي، أو أوشكوا ان يأكلوا التراب ولم يشفع لهم سوى سفك دمائهم، في واحدة من ابشع المجازر بل المذابح الإنسانية، لكيما تحدث صحوة عارمة في الضمير الإنساني لوقف هذا الاستهتار بحياة مليون ونصف يتم حصارهم، أشبه بسجن كبير. وتبدأ محاولات من تركيا وأوروبا وكل دول العالم في محاولة لكسر الحصار من البحر والبر.
لكن هذا الحصار الفعلي وللأسف سوف ينتظر لسنتين حتى خروج المصريين الى ميدان التحرير والإطاحة بحكم الرئيس المصري حسني مبارك، لينفتح المعبر في رفح وتشهد حركة تبادل البضائع تحت الأرض عبر الأنفاق، فترة من الازدهار التجاري وجدت انعكاسها لمدة محدودة من الانتعاش الاقتصادي في غزة، والتضخم السلطوي لأجهزة حماس الحاكمة. تعيد التذكير بسنوات الازدهار الاقتصادي والعمراني الذي شهدته غزة من العام 1995 حتى اندلاع الانتفاضة في العام 2000 في زمن عرفات.
ان حماس في غزة تقف اليوم عند نهاية هذه الفترة المحدودة من السنوات الذهبية في حكمها، ودق الجرس إيذانا بالوصول الى يوم 28 من أيلول العام 2000. "العودة الى ما قبل 28 أيلول العام 2000 " ظل هذا المطلب شرط عرفات التفاوضي للتوصل الى حل سياسي لوقف القتال. ولكن إسرائيل التي لم تقل " لا يمكن إرجاع عقارب الساعة الى الوراء "، لم تعد الى الوضع الذي كان قبل الثامن والعشرين من أيلول، فيما حماس تراهن على ان هذه العودة ممكنة في عقارب الساعة والزمن الى ما قبل الثالث من تموز، الانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس الإخواني محمد مرسي في مصر.
لا تعود الأزمان في هذه الدراما التي نحاول إعادة تركيب سياقها التاريخي، هنا خطوة واحدة الى الوراء لا الى ما قبل الأوضاع التي كانت قبل يوم الثامن والعشرين من أيلول، ولا الى الوضع الذي كان قائما في مصر المحروسة قبل الثالث من تموز. ثلاثة عشر عاما على الانتفاضة الثانية والأخيرة، كان حصار عرفات خلالها قد تحول الى ما يشبه السجن ثم الإعدام قتلا بالسم، ولكن منذ ذلك الحين لا يبدو ان الحرب والقتال كان سهلا ولا السلام والتفاوض كان سهلا. واليوم تعاود غزة قصتها مع الحصار وسلطة حماس أيضا إلى الأسر السياسي تحت سوط التهديد من على الحدود مع مصر، في الحملات الإعلامية كما التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية المصري نبيل فهمي. فإن السؤال المطروح اليوم هو عن مخرج او حل لإنقاذ غزة او فك الحصار عنها.
لكن السؤال في غضون ذلك من يتحمل مسؤولية مصير 20 ألف عامل سوف يفقدون عملهم ورزقهم من هدم الأنفاق، وغيرهم 30 ألف عامل في البناء، وما يترتب على ذلك من أضرار تشمل قطاعات اقتصادية أخرى ومرافق صحية وبيئية، حين لن يجدوا السولار لتشغيل مولدات الكهرباء في مرافق الصرف الصحي، ويحولون مياه المجاري الى البحر، ولأجل ماذا كل هذا ؟
والواقع ان غزة نعمت بفترات زاهية من الهدوء والازدهار النسبي خلال فترة حكم جمال عبد الناصر لها، والمرة الثانية في غضون السنوات الخمس الأولى من إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، حين استبدل الغزيون الفيلات القديمة ولكن الجميلة بالأبراج، وفي السنتين الأخيرتين من انتعاش تجارة الأنفاق، والقاسم المشترك بين هذه العهود الثلاثة هو ان غزة كانت على وفاق أولا ومصالحة وسلام مع مصر وهذه هي المعادلة، وانه يبدو اليوم من منظار رؤية تاريخية انه فقط في ظل حكم ناصر الذي كان يحنو على الفلسطينيين ويعطف عليهم، عرفت غزة أزهى عصور نموها وازدهار حياتها الاقتصادية والثقافية على حدٍ سواء. فقد أعطى عبد الناصر للغزيين امتيازات في التجارة الحرة، الاستيراد والتصدير حولت غزة إلى سوق حرة، اشبه ببيروت اخرى في ذلك الوقت. وفيما نشطت حركة القطارات التي تنقل البضاعة والمسافرين كما المواصلات البرية والبواخر عبر البحر، فتح عبد الناصر الجامعات أمام الطلاب الغزيين دون رسوم تسجيل او أقساط، بل منحهم السكن الداخلي ومنحة مالية شهرية كمساعدة في المصاريف.
والى جانب تعبيد الطرق وإنشاء المدارس والمستشفيات وتوظيف الخريجين من الطلاب حتى من حملة الشهادة الثانوية، فإن يدا رقيقة وعطوفة كانت بالمجمل هي السمة الغالبة على إدارة حكم غزة من لدن رجل كان مهابا وذا سطوة، وان لم يخل حكمه من إظهار القسوة الجائرة والبطش الشديد ضد خصومه في حالات محدودة.
وقد كانت غزة مكتفية بالسلام مع مصر وتحت عطفها، بالرغم من أنها ومصر كانتا في حالة حرب مع إسرائيل.
وعرفت غزة مرة أخرى هذا الازدهار حينما كانت تحت حكم عرفات في وفاق تام مع مصر وفي ظل سلام يمشي مع إسرائيل، لكن المأزق الغزي اليوم أنها في عداء وخصام مع إسرائيل والنظام الحاكم في مصر على حدٍ سواء. وهو وضع ينطوي على الشقاء والمأساة والحل الوحيد الذي يلوح له كمخرج هو المصالحة الفلسطينية واستعادة الوحدة الوطنية بين فتح وحماس. ولكن لما كان رجاء الفلسطينيين في بلوغ هذه اللذة الكبرى منذ ست سنوات يشوبه إحباط وتشاؤم مكدر للنفس حتى في هذه الأيام أيضا، فإن أمل الفلسطينيين أو رجاءهم أو أمنيتهم أو ما يريدون فعلا أن يكون الجنرال عبد الفتاح السيسي هو نسخة او صورة أخرى في المرآة عن جمال عبد الناصر. ولكن أليست هذه هي رودس فلنقفز هنا ؟ او هنا الوردة فلنرقص هنا، وهذا هو جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله يوم 28 أيلول 1970 وهذا هو سجله مع غزة والفلسطينيين.


