يحتل موضوع العودة للمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي حيزاً مهماً من اهتمام الرأي العام وبالأحرى من اهتمام الفصائل. وعلى الرغم من مرور حوالي شهرين على بدء التفاوض إلا أن المواقف الرافضة للمفاوضات لا تزال مطروحة وحاضرة في المشهد السياسي الفلسطيني. وهي تتطرق في الواقع إلى العملية التفاوضية من زاوية الشروط التي وضعتها القيادة وتركز أكثر على مدى استجابة إسرائيل أو الراعي الأميركي لهذه الشروط التي تعرف بانها منطلقات وعوامل لإنجاح المفاوضات أكثر من كونها شروطاً يضعها الطرف الفلسطيني لمجرد تسجيل موقف.
والمشكلة في الواقع ليست في العودة إلى المفاوضات التي قد يكون استئنافها محاولة لاستطلاع امكانية وجود فرصة لتدخل أميركي فاعل يختلف عن المرات السابقة أو لتجنب ضغوط معينة أو للسعي لتغيير الواقع، وإنما تكمن أساساً في أننا لم نستفد شيئاً من الاعتراف الدولي الذي حصلنا عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعترفت بدولة فلسطين كدولة غير عضو في حدود العام 1967.
وكان من المفروض أن يتغير السلوك السياسي الفلسطيني تجاه كل العملية السياسية والتفاوضية على هذا الأساس أي على أساس أننا في دولة تحت الاحتلال وحدودها واضحة ومعترف بها دولياً. بمعنى أن العملية التفاوضية يجب أن تستند إلى هذه المرجعية الجديدة الساطعة والتي تنقلنا إلى مرحلة أخرى غير مرحلة "أوسلو" وقواعد اللعبة السياسية فيها.
ولكن يبدو أننا لا زلنا نحصر تفكيرنا في الوضع السابق ونتجاهل التطورات التي تحصل معنا وتحصل في الفضاء الإقليمي والدولي والتي هي بدون شك ستنعكس على قضيتنا. ولو خرجنا من الدائرة التي وضعنا أنفسنا فيها طوعاً أو على الاقل تكيفنا معها، لكانت نظرتنا للمفاوضات وللعملية السياسية مختلفة ليس فقط في التركيز على المنطلقات الأساسية لهذه العمليات ومرجعياتها التي أضيفت لها مرجعية بالغة الأهمية قانونياً وسياسياً، ولكانت أدواتنا في التعاطي معها مختلفة وليست مجرد تكرار رتيب لعمليات سابقة مواقفنا منها أشبه بتسجيل صوتي أو فيديو محفوظ عن ظهر قلب.
منذ اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولة فلسطين لم يتغير شيء على الواقع الفلسطيني لا داخلياً ولا خارجياً ونحن في حالة انتظارية لما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات أو بانتظار فشلها، وكما يقولون عندنا هناك أكثر من 60 طلباً جاهزاً للانضمام لعضوية منظمات دولية، وكأن الأمر مجرد خطوة عقابية أو إجراء شكلي لإثبات أنه توجد لدينا بدائل غير التفاوض لمدة تسعة شهور. والمنطق يقول أن الاعتراف الدولي بفلسطين يجب أن يغير طريقة التفكير والأداء الفلسطيني وحتى رؤية الفلسطينيين لواقعهم. نحن حصلنا على دولة على الورق يجب أن نترجمها واقعاً سياسياً فعلياً على الأرض، سواء بالانتقال من مرحلة السلطة إلى الدولة مع كل ما يعنيه ذلك من تغييرات ليس فقط في مسميات المؤسسة الرسمية بل وكذلك في التخطيط والفعل.
كان يجب أن يفهم الإسرائيليون أننا لم نعد كما كنا سلطة تحت رحمة ما يمكن أن توافق إسرائيل عليه، وأننا الآن في وضع آخر لابد وأن تبدأ العملية التفاوضية على أساسه. ويجب أن يفهم الإسرائيليون والأميركيون أننا دولة نفاوض على تكريس حقوقنا في هذه الدولة بحدودها المعترف بها. ولا يجوز أن ندخل في مفاوضات وإسرائيل تتعامل مع أراضينا وحدودنا كأراض وحدود مختلف عليها، حتى لو كنا نقبل مبدأ إحداث تعديلات على خط الحدود ينبغي قبل أي بحث في ذلك أن تعترف إسرائيل بحدودنا وأرضنا، بعد ذلك يصبح البحث في التفاصيل منطقياً.
اليوم نحن نفاوض الإسرائيليين على قواعد مريحة لهم وهي عدم الاعتراف بالحدود والنظر لخط الحدود وفق ما يقولون أنه مصالحهم الأمنية. فإذا كانت المصلحة كما تقول الحكومة الحالية باحتفاظ إسرائيل بغور الأردن بسبب ادعاءات أمنية ستعتبر إسرائيل الغور جزءا منها أو أنه سيبقى تحت سيطرتها وإذا رأت إسرائيل أن مصلحتها الأمنية في الاحتفاظ بقمم الجبال ستبقى هناك مع مستوطناتها، وهذا حال السيطرة على المعابر ومحطات الانذار وأي مستوطنة أو موقع، أي أن الأرض والحدود تخضع للرؤية والرغبات والمخططات الإسرائيلية. وعليه لا تزال المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي تراوح في نفس المكان الذي يعج بمطالب إسرائيل الأمنية.
ولو أن المفاوضات انطلقت من اتفاق عام على أن للفلسطينيين دولة على حدود 1967 معترفا بها و لا مجال لتغيير هذه الحقيقة لكان اسهل بكثير التوصل لحلول لموضوع خط الحدود وأيضاً لمسألة القدس التي يجب أن تخضع لنفس القاعدة.
وهذا أهم بكثير من الحديث عن وقف البناء الاستيطاني لأننا لم نوقف الاستيطان لا بالامتناع عن التفاوض ولا بالعودة للمفاوضات، ولكن هذا الوضع يمكن أن يكون مختلفاً في ظل الاتفاق على مبدأ الدولة في حدود 1967 كما اعترف بها العالم. طبعاً هناك من يقول كيف يمكن دفع إسرائيل للموافقة على هذا الموقف في ظل الدعم الأميركي وعدم وجود امكانيات الضغط الدولي الذي يجبر إسرائيل على ذلك، وهذا تساؤل مشروع ومنطقي بناء على ما تعودنا عليه خلال السنوات التي اعقبت التوقيع على اتفاق "أوسلو".
ولكن ماذا لو فكرنا خارج الدائرة المغلقة التي وضعنا انفسنا فيها؟ وماذا لوكنا بدأنا بتطبيق فكرة الدولة على واقعنا مثل انشاء حكومة دولة فلسطين وأنشأنا برلمان فلسطين وبدأنا ندخل المنظمات الدولية كدولة وغيرنا جواز السفر وبطاقة الهوية وفرضنا على العالم التعامل معنا على اساس الاعتراف الدولي بنا؟! هناك امكانية لاستنهاض طاقاتنا وامكاناتنا وتوحيد صفوفنا على قاعدة برنامج وطني عنوانه تكريس الاستقلال ومؤسسات الدولة والتعامل مع إسرائيل على أساس هذه القاعدة، ولكن هذا يحتاج إلى قرار وإرادة قيادية شاملة، وحتى لو استمرينا بالمفاوضات فيظل حالة الجدل والخلاف حولها لا يزال من الممكن تعديل مسار العملية السياسية سياسياً وميدانياً على أساس كفاحي سلمي بعيداً عن العنف الذي يخدم إسرائيل أكثر.


