يدفع الفلسطينيون الغزيون المسالمون الفقراء المنهكون ثمناً قاسيا وصعبا اليوم، كنتيجة جانبية أو على البيعة لخصومة سياسية لا دخل لهم فيها، بين السلطة الجديدة الحاكمة في مصر والإخوان المسلمين. وحيث ترى هذه السلطة وهي تخوض حربا لا سابقة لها لاستئصال الإخوان في مصر، الى حركة حماس وهي هنا السلطة الحاكمة في غزة، على انها امتداد وفرع للجماعة الأصل والأم. وهكذا يجد الغزيون انفسهم في هذا الموقف حالهم يقول، (ويلي من ربي وويلي من أستاذي )، يسددون فاتورة هذه الخصومات دون ان يلوح أمامهم مخرج من هذا المأزق ودون انتظار اي مغيث. وكأنهم يمضون هكذا في عقوبة ابدية من حصار الى حصار، ومن حرب الى حرب أخرى، ولكن واأسفاه من دون ان يملكوا حتى هذه الحرية التي يتحدث عنها محمود درويش في زمن ملاحم وحصارات عرفات، (حاصر حصارك لا مفر فأنت الآن حر "وحر" ). فهل كنا أحرارا اكثر حرية في المنافي بينما اليوم نحن في الوطن اقل حرية واكثر شعورا بوطأة الأغلال والقيود ؟.
كيف اذا على غزة وحكومة حماس الإسبارطية المقاتلة والمحاربة بلا هوادة، ان تقاتل اليوم على ثلاث جبهات وتخرج من هذا الحصار الجيواستراتيجي، والذي يتجدد اليوم مع حكومة الجنرال عبد الفتاح السيسي، اشد ضراوة يبدو منه حكم وحصار حسني مبارك اكثر رحمة ؟ وكيف تواجه حماس هذه المعضلة للخروج من هذا المأزق في هذا الوضع الذي تبدو فيه حماس شبه منعزلة سياسيا، وكأنها الواحد ضد الثلاثة او الكل ؟ بدلا من التفوق في الاستراتيجية ان تكون الواحد في الكل ؟ والثلاثة هنا ونحن نحاول فقط تشخيص الأزمة او الموقف، هم إسرائيل اولا العدو الرئيسي، ومصر ثانيا مع هذه الخصومة المباغتة، والسلطة الفلسطينية الرسمية. وهي هنا هذه الخصومة الأخيرة كانقسام سياسي من داخل البيت، كان يمكن حله ولكنه لم يحل. ومن البديهي انه مع الانقلاب في الوضع الجيوسياسي الإقليمي غير المواتي لحماس والإخوان المسلمين، فأن هذه الخصومة الداخلية سوف تكتسب قوة اختلال مضاعفة كبؤرة في الجسد تؤدي الى مضاعفة الوضع الكلي والعام.
وقد يبدو ان هذا التحول الجذري في المشهد الذي يشبه سحب السجادة الحمراء من تحت أقدام حماس، إنما حدث هكذا بغتة بصورة مفاجئة في أعقاب الانقلاب الذي حدث في مصر على الإخوان المسلمين، لكني اظن ان هذا تبسيط خاطئ للمسألة، ذلك انه برأيي ان سلسلة من الأخطاء الفادحة بل وغير المعقولة او المبررة، كانت حماس وقعت فيها في غضون السنتين الأخيرتين، وكانت التطورات المصرية كاشفة لها بأكثر مما كانت سببا لها، وادت بالإجمال الى إضعاف موقف الحركة العام في مواجهة تداعيات الانقلاب في مصر. وإذا كان يمكن اختزال هذه الأخطاء على نحو من التبسيط، فإن تصرف حماس منذ اندلاع ما سمي بالربيع العربي وصعود تيار الإسلام السياسي، وهو تحول راديكالي بدا وكانه يدفع بالرياح في أشرعة حماس، كان يشبه سلوك ذلك الشخص الذي صعد الى قمة السلم ولكنه في اللحظة التي وصل فيها الى هذه القمة، تجاهل او نسي او تنكر لأولئك الأشخاص الذين وقفوا الى جانبه وساعدوه ابان صعوده.
الغفو عند المهمة الشاقة، الذي وقع به الإخوان في مصر كما حماس في غزة. وكان هذا الخطأ الغفو ونكران الجميل هو ام جميع الأخطاء اللاحقة التي انسلت منه، والتي أدت الى تبلور المأزق الحالي الذي تواجهه حماس. فهي فقدت حليفها الطبيعي الذي كان يضمها الى جانب ايران وسورية وحزب الله، نتيجة حسابات خاطئة وتحليل خاطئ للازمة السورية.
ولما تم استدراجها الى حلف إقليمي جديد، وهذا الاستدراج كان من البداية يطرح علامات سؤال على الطريقة التي تم به. فأن هذا الحلف الثلاثي الذي يضم تركيا وقطر ومصر الإخوانية، حتى قبل انهياره السريع ما كان له في اية حسابات جدية وتبصر عميق بالأمور، ان يشكل بديلا عن الحلف الطبيعي لحماس. وادت هذه النقلة السياسية المفاجئة والسريعة في تبديل التحالفات والأحصنة، ليس الى الإضرار بوضع حماس ولكن الى الحاق ضرر استراتيجي، اقله في جانب المناورة السياسية للفلسطينيين ككل، اذا كان التقدير الصحيح هنا للموقف هو الإبقاء على واحدة من القدمين الفلسطينيتين، وهي حماس هنا في احد المعسكرين الإقليميين، عملا بعدم وضع البيض كله في سلة واحدة، كما كان يفعل عرفات. ما يعني ممارسة هذه المناورة اللامعة في إبقاء قدرتنا كفلسطينيين على الطفو والاستثمار الحاذق لمثل هذه الأزمات الإقليمية، فكيف اذا كانت أزمة تقارب حرب عالمية تعيد رسم التوازنات الدولية، ولكم الآن ان تتأملوا في هذه المفارقة انه في غضون تسوية هذه الأزمة، نحن فقط الفلسطينيين اللاعب او الطرف الوحيد المغيب.
وعلى المستوى الداخلي وليتحملني الأخوة في حماس، فأن سلسلة من الأخطاء من ذات النوع وقعت فيها حماس عن سوء تقدير غير مبرر، وعدم القدرة على المبادرة في انتهاز الفرص السانحة. فهي لم تعمل كفاية وربما تلكأت في إغلاق ملف المصالحة والانقسام، حينما كانت فتح والرئيس أبو مازن من الضعف في موقف اقرب الى استجداء قبول حماس بالمصالحة، بعد ان أوقف أبو مازن المفاوضات ثلاث سنوات مع إسرائيل، وبدا محتاجا لتقوية موقفه بمد حماس اليد له وإعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية من جديد. ووصل الرجل حد المطالبة المتكررة بالقدوم الى غزة، لكن حماس لم تبد الحماسة لمقابلة الرجل في منتصف الطريق وتقدم له الجدار الحامي هنا في غزة. وكان هذا خطأ اذا علمنا اليوم ان كل هذه الضغوط من لدن النظام المصري الجديد على غزة وحماس، إنما تستهدف لكل من لديه عقل قادر على التحليل والاستنتاج، إعادة سلطة الرئيس أبو مازن ليس الى معبر رفح فقط وإنما الى غزة.
وهاكم يا حماس الموقف اذا كان التاريخ يعيد نفسه. انتم تقفون اليوم في غزة كموقف عرفات في بيروت جمهورية الفاكهاني العام 1981، عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، والتي اسماها الإسرائيليون (السلامة للجليل ). وحينها كان المطروح على عرفات أما الموافقة على مشروع قمة فاس او الاجتياح، اما فاس السياسي مشروع الملك فهد في ذلك الوقت للتسوية السياسية واما الفأس في الرأس.
واليوم لا أنصحكم الاستخفاف بالجولات السبع التي قام بها جون كيري لاستئناف مسار المفاوضات، ولا أنصحكم بتجاهل الربط بين انسحاب الحمدين من المشهد في قطر، والانقلاب في مصر وتسوية الأزمة السورية في جنيف، وتعاظم الدور الإقليمي السعودي واستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. وإذا أضفنا الغزل الإيراني الأميركي الجديد الى كل ذلك فأن المنطقة كلها مقبلة على مشروع تسوية جديد، لترتيب أوضاعها. وفي القلب من ذلك تسوية القضية الفلسطينية. والسؤال اليوم الذي نسأله لكم :هل تتصورون ان هذه التسوية سوف تتم دون غزة ؟.
قدمنا هنا ربما صورة صعبة وكئيبة لما يمكن ان نسميه اليوم مأزق حماس السياسي، لكن من المقلب الآخر دعونا لا نظن ان جرس الانذار بفوات الاوان عند الساعة المتأخرة الحادية عشرة قد دق بعد. واعتقد انه مازال امام حماس وقت وان لم يكن كبيرا لتدارك هذه الأخطاء ومعالجتها، كما انني لا اعتقد ان المأزق الحالي الذي تمر به حماس ينطوي على اي وهن في عناصر بنية قوتها الرئيسية. فهي في الحسابات التاريخية لا تزال في ذروة فتوتها او قوتها. ولا اظن انه يمكن كسرها بتدخل عسكري من الخارج، وهذا ما برهنت عليه حربان إسرائيليتان من الخارج. كما انني لا أظن ان النظام الجديد في مصر ومهما كانت درجة كراهيته وعدائه لحماس، يمكنه ان يجازف او يتورط في حرب او مواجهة مسلحة مع حماس في غزة. ان مثال حافظ الأسد لسوريا وعرفات في لبنان لا يمكنه ان ينطبق على مشكلة حماس مع الجنرال عبد الفتاح السيسي، في العلاقة بين مصر وغزة. وبالمقابل ايضا فان حماس سوف تعد للألف قبل ان تجرؤ على الانخراط في مثل هذه المواجهة. التي ستكون بمثابة انتحار سياسي لحماس والنظام المصري اي لكليهما معا. بالنظر الى حساسية المسألة الفلسطينية في الوجدان المصري، وحساسية الموقع الجغرافي لمصر بجوار غزة.
ولذلك فأني أتوجه إلى الرئيس أبو مازن وحماس معا مباشرة لاتخاذ الخطوات التالية :
1- ان على الرئيس ابو مازن إصدار تصريح علني يجدد فيه موقف عرفات التاريخي الذي حدده في العام 1994 منذ إنشاء السلطة، من ان حماس هي قضية او مسألة فلسطينية داخلية، وأي إشكالية معها تحل في الإطار الفلسطيني الداخلي.
2- إن على حماس اليوم إحداث مراجعة سياسية لموقفها من ضرورة التوصل الى إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي وبأي ثمن لتجنيب غزة على الأقل، مواصلة دفع أكلاف هذا الثمن. اي انه هنا يجب التراجع خطوة الى الوراء لأجل التقدم خطوات للأمام، في المصالحة وتجنيب الفلسطينيين معا هذا القطوع.
3- وعلى حماس اليوم إعادة النظر في موقفها من الأزمة السورية لاستعادة دورها الطبيعي في محورها المقاوم، ولا بأس ان يكون ذلك بتوافق ضمني ولكن خلاق على قاعدة تقاسم او توزيع الأدوار مع فتح والرئيس ابو مازن. والمفتاح هنا قد يكون الشيخ حسن نصر الله.
4- كما ان على حماس التعلم من تجربتها السابقة بإعادة ترميم علاقتها مع النخبة الفلسطينية بشكل عام، بعد ان ثبت في تجربة الإخوان في مصر كما هنا ان الاستفراد بالحكم والتجاهل هو الوصفة السريعة للفشل. ففي مواجهة تحدي نجاح ثورة شعبية في الحكم كما تحدي مهمة التحرر الوطني لا مناص من التحالف والائتلاف.
5- ولكن أليس مثيرا للتأمل بل الاستغراب والتفكر، كيف انه في الوقت الذي تطرح فيه جميع الملفات على الطاولة. الكيماوي السوري، والنووي الإيراني والإسرائيلي ربما، وهي كلها أسلحة وملفات منبثقة عن أزمة حل القضية الفلسطينية. كيف انه يتم التفاوض عليها جميعا في غياب الفلسطينيين عن الاستثمار السياسي في هذه الحلول. وبدلا من عجزنا الواضح ونحن نرى الى إسرائيل وهي تقتحم المسجد الأقصى في محاولة رسم واقع جديد، وغدا سوف تبتزنا بإطلاق دفعات الأسرى. أو ليس هذا هو الوقت للمبادرة والتحرك لقلب الطاولة دبلوماسيا للذهاب الى موسكو، لوضع الملف الفلسطيني على الطاولة في الكرملين امام الرئيس الروسي بوتين الذي يقود اليوم الدبلوماسية العالمية. وهذه المبادرة مطلوب القيام اليوم بها كصدمة كهربائية، الرئيس ابو مازن والسيد خالد مشعل معا.


