تسعة من كل عشرة اسرائيليين اليوم يقولون كلمة "اوسلو" ويشتمون ان يبصقون. للعاشر ليس هناك أي فكرة عما يتحدثون. قلة فقط في الدولة قرأوا الاتفاق ويعرفون تفاصيله. في كل حال، في القاموس الاسرائيلي الحالي توجد لهذه الكلمة نبرة سلبية.
على الاقل في هذا الموضوع نجح اليمينيون والمستوطنون في المناطق في السيطرة تماما على الخطاب الجماهيري وتثبيت "مصيبة اوسلو" وكأنها كلمات لا تحتاج الى اي تفسير. وهاكم تعقيبي: شعب اسرائيل سيشتاق الى اتفاق اوسلو. ليس لانه جيد أو سيء، بل لانه الوحيد في زمنه الذي يمكن الحلم فيه، وربما ايضا الوصول فيه، الى السلام.
أول أمس احيينا، ايجابا كان أم سلبا، عشرين سنة على التوقيع على اتفاق المبادىء مع م.ت.ف الذي هو "اتفاق اوسلو". لا ريب أن في هذا الاتفاق توجد الكثير من "الحفر"، وهو ليس الافضل الذي كان مرغوبا فيه التوقيع عليه. ولكن خلافا للاكاذيب التي سوقت حوله، فقد اقر في الكنيست باغلبية 11 نائب، بمن فيهم النواب من الليكود، وليس باغلبية نائبين كما يروجون بلا انقطاع.
ليس في الاتفاق اي كلمة او نصف كلمة عن "دولة فلسطينية" او "دولتين للشعبين"، كما اقترح رئيس الوزراء الحالي نتنياهو. والاهم: في اطار اوسلو لم تسلم ابدا أسلحة من الجيش الاسرائيلي الى منظمات الارهاب. معظم الفلسطينيين الذين سمح لهم بالدخول عملوا مثابة أفراد شرطة، ولا سيما من اجل الحصول على راتب من عرفات والعيش تحت حذائه. وكانت النية الاسرائيلية هي: "اعطاء أسنان" للسلطة الفلسطينية التي قامت كي تخدم، شكرا للرب، الادارة المدنية الاسرائيلية.
لقد اندلعت الانتفاضة الثانية بعد سبع سنوات، وشارك فيها ايضا رجال السلطة الفلسطينية، ولكن حتى هكذا، علينا، كما يخيل لي، ان نرحب باننا تخلصنا من الحاجة الى تنظيف المجاري في جنين، ونكون مسؤولين عن كهرباء خانيونس، وندير تعليم مئات الاف الاطفال في غزة. باختصار، الحكم والادارة لحياة ملايين الفلسطينيين بثمن أليم من مليارات الشواكل في السنة. نعم، وكان علينا ايضا أن نعض على شاهنا في ضوء عمليات الارهاب والضحايا في المناطق نفسها.
لا يعني أنه لم تكن علل، بل وربما خطيرة، في الاتفاق. والعلة الاساسية كانت في أن اسحق رابين الراحل اعتقد انه سيدير الاتفاق والسنوات اللاحقة له. هو سيوجه الدفة، وهو سيقود، وهو سيوقف الاتفاق اذا ما وعندما تكون حاجة الى ذلك. لقد اعتقد رابين بانه سيكون خلف الدفة حتى نهاية الخطوة بكاملها. ولكنه اغتيل، واتفاق اوسلو اغتيل معه.
وكما اسلفنا، ففي اتفاق اوسلو لا توجد اي كلمة عن النوايا للمستقبل. وبالتأكيد لم يذكر تعبير "دولة فلسطينية". ولكن مرغوب فيه الا نزعم البراءة: فمثل عروس تدخل تحت مظلة العرس والكل يعرف لماذا، افترض ايضا موقعو الاتفاق بانهم سيصلون في النهاية الى دولة فلسطينية في هذه الصيغة أو تلك.
ان الاهمية التاريخية للاتفاق هي في ازالة الاقنعة، مع الاعتراف الاسرائيلي بــ م.ت.ف كممثل الشعب الفلسطيني واعتراف الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي اعقابها اجزاء هامة في العالم العربي، بشرعية دولة اسرائيل. الكل توقف عن خداع الكل والحقيقة عرضت بكامل آلامها، مثلما كانت أمي الراحلة تقول: "المقعدة على الطاولة". ولكن في الايدش تبدو العبارة ألذ.
من يوم التوقيع كفوا في اسرائيل عن لعبة "التظاهر" وعن "لن نتحدث"، وجنود الجيش الاسرائيلي كفوا عن اطلاق النار على الاطفال الذين حاولوا رفع أعلام م.ت.ف على عواميد الكهرباء في القرى العربية. ولا بد انه كانت مصاعب في تنفيذ الاتفاق، اساسها كان الارهاب الاجرامي الذي كلف ثمنا دمويا باهظا، ايضا، وليس فقط، لان الطرف الاخر اعتقد باننا نخدعه، في الغالب باقامة مستوطنات جديدة، توسيع مستوطنات قائمة وشق طرق على طول وعرض المناطق (وهذا، بالطبع، ليس صحيحا. نحن حرصنا على الالتزام بكل كلمة وحرف).
باراك، شارون، اولمرت ونتنياهو اجتازوا حدود اتفاق اوسلو وساروا اشواطا بعد منها بكثير. وقد فتح الاتفاق لهم الباب، وقد استغلوا الفرصة وسارعوا، ولم يسيروا ببطء، اليها وبعدها. هذا الاتفاق كان ينبغي له أن يكون اليوم الحلم الرطب والمبتعد للمستوطنين، ولكنه هو وهم لم يعودوا هناك.
والان الكل يتمتع بالوضع الحالي: العرب يقتلون العرب، وشعب اسرائيل في نشوى. نحن نعيش اللحظة. الناس لا يفهمون بان حتى 40 سنة في التاريخ (الدليل: حرب يوم الغفران) تكاد لا تكون شيئا، هي مجرد ملاحظة هامشية. ستمر السنوات القادمة ونحن نأمل أن ايجابا وسنتوق لاتفاق اوسلو.
في هذه الاثناء، سفينة أغبيائنا تبحر على نحو جميل بين جبال الجليد، اما الى الشاطىء فلا تصل. بكلمات اخرى: العازفون على التايتنك يضبطون ايقاعات ادواتهم، ونغمات الكمان تسمع على الدكة. رجاء لا تزعجوا راحتنا.


