بات المشهد السوري منذ زمن ساحة صراع لقوى إقليميه ودولية كثيرة تعكس مصالح وتوجهات معقده يصعب فهمها، حيث تتداخل فيها مكونات صراع اجتماعية وسياسية ودينية ومذهبيه وقوميه في حالة من الاشتباك والتعقيد تعكس مصالح القوى المتحاربة وصاحبة النفوذ، يدفع ثمنها شعب خرج ينادى بحريته، فهو مشهد أبعد ما يكون عن أن يعكس الصورة المثالية للصراع بين الخير والشر أو بين الديمقراطية والدكتاتورية مما فرض معادلة اقل الضررين على كل من يريد الخير لسوريا وشعبها، بخلاف من حدد مواقفه بناء على حالة الاستقطاب الطائفي أو التعصب السياسي، فكل الأطراف المتحاربة على الأرض السورية غرقت في سفك دماء السوريين ولا يستطيع احد أن يتحدث عن طهارة سلاح طرف ما أو عن قيم قتالية، فالقتل والفتك والذبح تميزت به كل الأطراف سواء برغبة منها أو لأنها جرت إلية وللموضوعية لا نستطيع أن نحمل كل الأطراف نفس القدر من وزر جرائم القتل والمسؤولية عنها.
من أكثر المشاهد المأساوية، كانت مجزرة الأربعاء الماضي التي راح ضحيتها المئات من المدنيين معظمهم أطفالاً سقطوا نتيجة قصف بلدات غوطة دمشق بقذائف الغازات الكيماوية المحرمة دولياً.
جريمة استوجبت أشد عبارات الإدانة والاستنكار، وتعالت معها أصوات مطالبة بتحقيق دولي وشفاف لمعرفة الجهة التي أمرت ونفذت جريمة الإبادة الجماعية هذه ومحاسبتهم كمجرمي حرب.
ما من شك أن تعقيدات المشهد السوري، أثرت سلباً عن المواقف الدولية المنددة بالجريمة أو التي ذهبت أبعد من التنديد وطالبت بمعاقبة مرتكبي الجريمة البشعة.
فالعالم يعرف سلفاً حدّ الرغبة في القتل وسفك الدم لدى الأطراف المتصارعة في سوريا وفي مقدمتها النظام وفرق القتل المحسوبة عليه إضافة للمجموعات المسلحة التي وصل بعضها حدّ الاقتتال فيما بينها.
من الواضح أن هذه الخلفية دفعت قوى عديدة في العالم إلى التريث في حسم الموقف، والتوجه نحو تشكيل لجان تحقيق دولية لمعرفة الجهة التي تقف وراء استخدام سلاح الإبادة بحق المدنيين الأبرياء. وبات هذا المطلب أكثر إلحاحاً لدى أطراف دولية عديدة، ما يعني عملياً أن الطرف الجاني سيستفيد من عامل الوقت للتلاعب مجدداً بالأوراق علّه يهرب بجريمته التي صدمت كل الضمائر.
كعادتها "(إسرائيل)" تبدو المستفيد الاوفر حظاً في تحقيق المكاسب من كل ما يجري في عالمنا العربي.
وقد وجدناها تتباكى على الضحايا الأبرياء في سوريا، وتعلن بوضوح تام اصطفافها مع معسكر الداعين لسرعة التدخل العسكري وضرب المواقع السورية، وتنكر على أمريكا ترددها في اتخاذ موقف حاسم بعد أن تجاوز الأسد الخطوط الحمراء، وهى تعمل بشكل كبير على المستوى السياسي والأمني والإعلامي على تحريض أمريكا ودفعها باتجاه القيام بعمل عسكري ضد نظام الأسد.
وقد كان مسؤول الاستخبارات العسكرية (أمان) ايتاى بروم، قد أحرج الولايات المتحدة قبل عدة أشهر عندما ادعى أن استخباراته لديها معلومات عن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي. وكان البيت الأبيض في حينه قد شكك في تصريحات المعارضة السورية التي روجت لذلك.
أول أمس كان وزير الحرب يعلون أول من أكد خبر استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في غوطة دمشق وليس استنادا لمعلومات استخباريه بل استنادا لمعرفته بنظام الأسد الذي استخدم الكيماوي أكثر من مرة، وفق ما قاله يعلون.
كما أن المستشار الأمني لرئيس الوزراء يعقوب عميدرور يمكث الآن في واشنطن التي وصل إليها قبل يومين للتحاور حول مجزرة الكيماوي ورد الفعل الأمريكي.
أما الإعلام الصهيوني فقد وجه انتقادات لاذعة ضد إدارة أوباما التي رأى المحللون (الإسرائيليون) أنها تعكس حالة ضعف أمريكية، واتهموها بأنها تخشى من مواجهة الدب الروسي وترسل رسائل ضعف أمريكي للمنطقة جعلت دول الشرق الأوسط تستخف بالولايات المتحدة وتتحدى مواقفها.
لا شك أن لـ(إسرائيل) مصلحة كبرى في دفع أمريكا باتجاه القيام بعمل عسكري ضد نظام الأسد، على عكس موقفها ممّا يجري في مصر حيث يطالبون أمريكا بمساندة قائد الجيش المصري الفريق عبد الفتاح السيسي في حربه ضد الإخوان.
أما إدارة اوباما فهي في حيرة كبيرة وارتباك حيال ما يحدث بدول ما سمي بـ "الربيع الربيع"، ويبدو أن الحالة السورية هي اشد ما يقلق واشنطن، فهي من جهة تتمسك بمبدأ اوباما الداعي إلى سحب القوات الأمريكية من مناطق الصراع وعدم الدخول في حروب ومنازعات، وتعميم ما دعا إليه من ثقافة ديمقراطية تتماهى مع إرادة الشعوب وهذا ما يفرض عليها التردد والخوف من الدخول في حروب إقليمية جديدة لكنها من جهة أخرى لازالت القوه الكونية الأولى ولا زال لها ولأصدقائها مصالح ودور لا تستطيع أن تغفله، فتجد نفسها في حالة من التردد علاوة على أن تعقيدات الحالة السورية وتداعياتها تخلق لأمريكا الكثير من الإرباك.
وربما هذا ما يفسر التردد الأمريكي وتشوش الموقف من جريمة استخدام السلاح الكيماوي في الساعات الأولى ومطالبة اوباما لأجهزته الأمنية بإجراء تحقيق والبحث عن الأدلة، أي أن إدارة اوباما لم تسارع في تبني اتهام نظام الأسد لأسباب قد تكون لها علاقة بعدم رغبتهم في التورط في عمل عسكري أو لتشككهم في مصداقية الاتهام.
لكن أصواتاً بدأت تعلو من داخل وخارج المؤسسات الأمريكية يبدو أنها ستدفع الولايات المتحدة لتبنى قرار الدخول في عملية عسكريه (عقابيه) بعيدا عن مجلس الأمن لكنها تستند إلى أوسع نطاق من الإرادة الدولية الرسمية. والسؤال الذي تحاول ان تجيب علية دوائر صنع القرار الأمريكية يتعلق بموعد العملية وعمقها ووسائلها وهدفها العملياتي.


