ما كان للانقلاب في مصر أن يحدث لو أن الرئيس المنتخب، محمد مرسي، أطل من نافذة قصره ليتعرف على الأعداد الموجودة في الشارع ضده، وقرر بناء على ما شاهد أن الحل هو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.. لكن الرئيس ونخب جماعته متشبعون بثقافة الإقصاء.
بالمثل أيضاً، ما كان بإمكان الجيش أن يتدخل بهذه الصورة الصارخة وأن يطالب رئيساً منتخباً بأن يختار بين العودة لبيته أو الاعتقال، لو أن القوى التي حرضت الملايين على التظاهر أعلنت رفضها لتدخل الجيش، وهي التي قامت برفع شعار "يسقط حكم العسكر" مراراً وتكراراً وقدمت عشرات الشهداء من أجله.. لكنها طالبت الجيش صراحة بالتدخل، وهي كما الرئيس وجماعته تنقصها الثقافة الديمقراطية..السياسة في آخر الأمر شأن مدني وليس عسكرياً.
الجيوش في الدول الديمقراطية لها مهنة رئيسية واحدة هي الحرب دفاعاً عن مصالح الدولة.. دخولها السياسة يمزق وحدتها ويقضي على مهنيتها.. حيث توجد النظم غير الديمقراطية، تندفع المؤسسة العسكرية للمشاركة بقوة في السياسة من باب تأمين مصالحها، وهذا لا يعني بالضرورة حماية امتيازات نخب الجيش الاقتصادية والسياسية ولكن أيضا حماية الاستقرار الذي يحافظ على هذه المصالح.. الجيوش تتدخل إذاً عندما تغيب الثقافة الديمقراطية عند النخب السياسية.
الثقافة الديمقراطية ليست "هبة من السماء" تأتي لشعوب بعينها وتُحرَمْ منها أخرى، ولكنها تأتي من خلال التعلم عبر الممارسة.. النخب تتفق على التداول السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع بعد وضع دستور متفق عليه.. الناس تمارس حقها في انتخاب من تريده وبعد أربع سنوات تعود الناس مجدداً للصندوق إما لتمكينه مرة أخرى من السلطة وإما لعزله.. ذهاب المواطن إلى الصندوق مرة أخرى "لتمكين الرئيس أو عزله" هو الذي يرسخ في ذهنه أن صوته (لا سلاحه الشخصي أو سلاح الجيش) له قدرة الفعل على التغيير. ممارسة الحق في الانتخاب ترسخ ثقافة التبادل السلمي للسلطة وخلال دورة أو دورتين انتخابيتين يصبح التبادل السلمي للسلطة منهجاً وجزءاً من ثقافة المجتمع السائدة تدافع عنها الناس بحياتها.
لكن الثقافة الديمقراطية ليست فقط تبادلاً سلمياً للسلطة.. وإنما هي إقرار بأن تنوع البشر، عرقياً ودينياً وفكرياً وجنسياً، لا يحرمهم الحق من التمتع بحقوق المواطنة الكاملة دون أي تميز أياً كان نوعه. وهذه أيضاً تأتي من خلال الحوار الفكري والنقاش داخل المجتمع وقوة الإقناع وأحياناً من خلال الصراع السلمي الذي ينظمه ويحميه القانون.. وكل ذلك يحتاج إلى وقت ووقت طويل أحياناً لتجسيده أمراً واقعاً.
إنها لقسوة ولضيق أفق، أن تحمل النخب العربية شعوبها أكثر من طاقتها، وأن تطالبها بقبول الديمقراطية الليبرالية كما هي في الغرب. فما وصل إليه الغرب تطلب عقوداً طويلة من الصراع الطبقي من جهة، وعقوداً من الصراع بين المحافظين والليبراليين من جهة أخرى.. لو أخذنا الولايات المتحدة كمثال سنجد التالي:
الدستور الأميركي تم إقراره العام 1787 ودخل حيز التنفيذ العام 1789، ولم يوجد في بنوده ما يحرم الأميركيين-الأفارقة حق الانتخاب، فهم في ذلك الوقت كانوا "عبيداً" وفق الدستور وليسوا مواطنين.. والدستور وضع للمواطنين ولدافعي الضرائب منهم فقط. بعد أكثر من سبعين عاماً على وضع الدستور وبفعل الحاجة للأميركيين- الأفارقة في معركة الشمال ضد الجنوب (الحرب الأهلية الأميركية) تم اعتبارهم من قبل "الشمال" أحراراً وعدل الدستور لإلغاء المواد التي تجعل منهم "عبيداً".. لكن ذلك وإن أعطاهم الحق بالانتخاب، فهو لم يعطهم الحق بالمواطنة وكان يتم منعهم من الانتخاب بذريعة أنهم أميون وأحياناً بالقوة.. فرض عليهم التعلم في مدارس خاصة بهم، الركوب في حافلات خاصة، الشراء من محلات خاصة، وحتى الأكل كان عليهم أن يحصلوا عليه في مطاعم خاصة... بعض هذه الممارسات كانت تحميها قوة القانون وبعضها كانت تحميه الثقافة السائدة.
المواطنة الكاملة للأميركيين-الأفارقة جاءت بعد صراع مع مؤسسات الدولة وقيم المجتمع الأميركي السائدة استمرت بشكل منظم من بداية الخمسينات وحتى نهاية الستينات، ولو لم يتمكن "السود" من كسب "البيض" إلى جانبهم ربما لكانوا إلى اليوم رعايا في بلدهم وليسوا مواطنين.. عظمة مارتن لوثر كينغ، لم تكن فقط في أشكال المقاومة السلمية التي اختارها وفي قدراته العظيمة على الخطابة التي أكسبته تعاطف المواطنين "البيض"، ولكن في مطالبته باحترام الدستور: تطبيق المساواة في الحقوق المدنية وفقاً للدستور.
بالمثل الدستور الأميركي لم يعط الحق بالانتخاب للنساء، وحصلن عليه بعد صراع طويل استهدف تغيير ثقافة المجتمع الذكورية.. أول ولاية أميركية أعطت النساء هذا الحق كانت ولاية واشنطن العام 1910، ثم ساعدت عوامل أخرى منها الحرب العالمية الأولى على حصولهن على هذا الحق بعد أن ملأت النساء الأشغال التي كان يقوم الرجال بها، وبعدها، العام 1920 جاء تعديل الدستور ليمكنهن من الحق في الانتخاب العام.
وإذا تحدثنا عن الإجهاض في أميركا، فهو لا يزال إلى يومنا هذا موضع جدل بين المحافظين والليبراليين، ولا زال الساسة وقت الانتخابات يتعاملون معه بحساسية مفرطة ويهربون من نقاشه تجنباً لاستفزاز مشاعر الناخبين الذين قد يختلفون معهم في الرأي. وعلى الرغم من أن القانون يتيح الإجهاض إلا أن عدة ولايات قد احتكمت للجمهور لمنعه مثل ولاية ساوث داكوتا العام 2006 ولكنها فشلت، ونجحت في منعه ولاية فيرجينيا العام 2012، في حين أن ولايات أخرى تدرس منعه مثل فلوريدا وتكساس وجورجيا وأوهايو. المسألة ليست "الإجهاض" بحد ذاته، ولكنها في الثقافة التي تجعل فريقين مختلفين بهذا العمق: فريقاً مع الحق في الحياة، وآخر مع الحق في اختيار إنهائها، يوافقان على الاتفاق على الاحتكام لقرار الجمهور.. هذه مسألة ثقافية تتطلب لحدوثها وقتاً طويلاًَ ولا يمكن القفز عن الوقت للوصول إليها.
دعوني أذكر بأن العرب لم يمتلكوا إرادتهم خلال خمسمائة عام من الحكم العثماني.. ولم يمتلكوا إرادتهم بعدها بسبب الاحتلالين البريطاني والفرنسي.. ولم يمتلكوها بعد ذلك في ظل أنظمة الاستبداد.. الشعوب العربية لم تمارس حريتها سابقاً فكيف يطالبها البعض فجأة بأن تصبح شعوباً "ليبرالية"، هذه قمة القسوة، وقمة تخلف "النخب العربية" أيضاً.
الشعوب العربية لم تلتقط أنفاسها منذ الاستقلال قبل ستة عقود.. غالبية النخب المتعلمة لحظة الاستقلال كانت هي النخب التي تعاونت مع الاستعمارين البريطاني والفرنسي لتسهيل إدارة حكومات الانتداب (برغم وجود استثناءات عديدة بالطبع) وهي من نفس عائلات النخب التي ورثتها بريطانيا وفرنسا من الإمبراطورية العثمانية.. وبالمحصلة فإن أعداد المتعلمين كانت جداً محدودة لحظة الاستقلال.. أضف لذلك أن البنى التحتية لم تكن موجودة إلا ما خدم منها "الاحتلال" مثل سكك الحديد لنقل المواد الخام إلى الدول المُستعمِرة.. وتم الحفاظ على الطابع الزراعي للشرق، وبالتالي على عاداته وتقاليده الفلاحية المحافظة.. وحرم العرب من الصناعة حتى تبقى دولهم سوقاً لبضائع دول الاحتلال.
الظروف التي خلفها الاحتلالان البريطاني والفرنسي من فقر وانعدام للتعليم وللخبرة وغياب للبنى الصناعية.. مضافاً لها الحرب الباردة وحالة الحرب التي فُرِضتْ على العرب بفعل احتلال فلسطين- جميعها لم توفر للشعوب العربية فرصة التقاط الأنفاس لبناء دولها ونظمها السياسية بشكل طبيعي.. وكان من نتائج ذلك أن سادت ثقافة الاستبداد لستة عقود.
لقد قامت الشعوب العربية بمعجزة عندما تمكنت من إسقاط بن علي في تونس ومبارك في مصر..وهي بحاجة إلى الوقت لامتلاك الثقافة الديمقراطية عبر ممارستها لا السماع عنها من النخب التي تريد حرق المراحل حتى لو احترقت شعوبها خلالها.


