حين ظهرت مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز وتبنتها القمة العربية في العام 2002، التي دعت الى انسحاب اسرائيلي من الأراضي التي احتلت عام 67 واقامة دولة فلسطينية، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الامم المتحدة رقم 194 مقابل اعلان العرب عن انتهاء الصراع وقيام سلام وتطبيع كامل بين جميع الدول العربية وإسرائيل؛ حكومة اسرائيل في حينه برئاسة شارون رفضت المبادرة ولم تلتفت لها، رغم ما انطوت عليه من تنازل كبير وخطير تمثل في اعترافها الضمني بأن الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 48 والتي تمثل أكثر من 80% من فلسطين التاريخية هي من حق المحتل.ظنّ العرب يومها أن هذا الاعتراف سيشبع رغبة المحتل ويحقق طموحه، وان اسرائيل ستحتفي بهذا الكرم العربي الكبير، فرد شارون باجتياح الضفة ومحاصرة عرفات. وبدلاً من أن يرد العرب بإلغاء المبادرة وسحبها حفاظاً على ما تبقى من ماء الوجه؛ راحوا يرحلونها بين القمم، وظلت الحكومة الاسرائيلية ترفع في وجوههم اللاءات المعروفة: لا للعودة الى حدود عام 76، لا لعودة اللاجئين، لا لتقسيم القدس، لا لوقف الاستيطان.بعد انتفاضات ما عرف بالربيع العربي التي شهدها الوطن العربي، وأطاحت بحكام موالين لإسرائيل وبأنظمة شمولية فاسدة استعبدت الناس وقهرتهم في مصر، تونس، ليبيا، اليمن؛ اعتقد كثيرون أن الأمور تسير على غير ارادة الدول الاستعمارية التي أقامت الكيان الصهيوني وقدمت له العون والحماية، وأنها مسألة وقت وسيجد الكيان ورعاته أنفسهم في مأزق يجبره على الاستجابة والتكيف مع الواقع الجديد، وذلك بالاستجابة على الأقل للحد الأدنى من الحق الفلسطيني.يتضح الآن أن ما حلمناه ما زال في طور الأماني والرغبات، فيما الواقع شيء مختلف تماماً، فالمستعمر ما زال يمسك بخيوط اللعبة، ويملك من الأدوات ما يجعله قادراً على احتواء ثورات الشعوب وتجييرها في مسارات لا تختلف كثيراً عما كان قائماً خاصة على صعيد العلاقة مع دولة الاحتلال، وهذا تبدى جلياً في مواقف كثيرة ليس آخرها تنازل وفد جامعة الدول العربية الذي زار العاصمة الأمريكية (واشنطن) في البند المتعلق بالانسحاب من أراضي الـ 67، واعلان وزير خارجية قطر عن موافقة العرب على تبادل الأراضي وقبول المستوطنات.تنازل خطير أقدمت عليه جامعة الدول العربية بقيادة قطر، عبرت عنه الوزيرة تسيفي ليفني بالقول "رسالة واشنطن تدل على أن القادة العرب أدركوا أهمية الاعتراف بالتغيرات التي طرأت على أرض الواقع، فوافقوا على اعتبار المستوطنات الواقعة في المناطق الحدودية جزءاً من إسرائيل مقابل منح الفلسطينيين أراضي مقابلة".ومع هذا ظل تجاوب الحكومة الاسرائيلية الرسمي بارداً وباهتاً، فالمعدة الاسرائيلية لا تعرف الشبع، والإسرائيلي يتطلع الى ما هو أبعد. رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو عقب على التنازل الجديد بقوله "الصراع مع الفلسطينيين لم يكن يوماً على الأرض، وانما على رفضهم الاعتراف بيهودية الدولة". "فإسرائيل تبني في أرضها منذ 3 آلاف عام" كما اعتاد نتنياهو القول، والعرب من ينكرون عليها هذا الحق، وهذا يشير الى التنازل القادم المطلوب من العرب انجازه ان أرادوا انهاء النزاع والفوز بمحبة اسرائيل وقبولها، وهو الاعتراف بـ "يهودية الدولة"، وهذا ببساطة يعني: أن الاراضي التي احتلت عام 48 هي في الاصل أرضاً يهودية، وأن هذه الأرض عادت لسكانها الأصليين "اليهود" الذين أجلوا عنها بفعل عوامل قهرية، القبول بالرواية الاسرائيلية بأن اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها ليس بنكبة بل هو استقلال للشعب اليهودي، ان الصهيونية هي حركة تحرر وطني، وبأن اليهود قد عادوا الى وطنهم.هذا ببساطة سيمهد ويسهل لتنازل آخر: الغاء حق العودة، وبدلاً من مطالبة العرب لإسرائيل بالاعتراف عن جرائمها بحق الشعب الفلسطيني ومسئوليتها عن النكبة والمعاناة، ينبغي على العرب والفلسطينيون أن يعترفوا بأنهم كانوا مخطئين، وأن مقاومتهم وحروبهم خاطئة؛ لأنهم لم يكونوا منذ البداية أصحاب حق في كل ما جرى فوق هذه البقعة من الأرض.اذن؛ اعتراف العرب بشرعية المستوطنات لا يتضمن جديداً من وجهة النظر الإسرائيلية.الصحفي الاسرائيلي بن درور من صحيفة "معاريف" يقول: "عندما يعلق الوزراء في الحكومة تسيفي ليفني ويعقوب تيري بالإيجاب على التعديل الأخير في مبادرة السلام العربية، فإن هذا لا يعني أن الاسرائيليين يقبلون بكل بنودها"، ويضيف: "منذ ظهرت المبادرة في العام 2002 كان هناك انعطافة مهمة؛ فالعرب الذين ملأوا الكون صياحاً عن ابادة الكيان الصهيوني، أظهروا اعلان جماعي بالاعتراف بإسرائيل. يضيف: "اسرائيل يومها لم تقل (لا) ولم تقل (نعم)، لكنها عملياً ردت الخطة لأنه لا يوجد في اسرائيل عاقل واحد يمكن ان يقبل بالانسحاب الى خطوط 67 والقبول بفنتازيا (الخيال المغرق) "حق العودة"، الكثير من الناطقين العرب أوضحوا أن "حق العودة" هو السلاح المظفر لغرض تصفية اسرائيل".ويرى أن هذه المبادرة ما زالت تحتوي ألغاماً بحاجة الى تفكيك، وان الإنعطافة الحقيقة يوم يفهم العرب بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص انه لا يمكن ان يقال "عودة"، فـ "العودة" و"السلام" لا يلتقيان.وحول التنازل الأخير يقول: "المرونة التي قدمها العرب في مجال الحدود هم مستعدون منذ الآن لقبول الكتل الاستيطانية. ذات مرة كان الادعاء بأن العرب غير مستعدين لأي تنازل قبل المفاوضات، أما الآن يتبين أن هذه الاسطورة تحطمت؛ فها هو يوجد تنازل عربي معلن حتى قبل أن تبدأ المفاوضات.الصحفي أيال - مغيد من "هآرتس" كتب يقول: "هذا الأسبوع وصل وفد الجامعة العربية الى ما وراء جبال الظلام كي "يستجدي" السلام، هذه المرة في الآذان الأميركية. ذات الجامعة التي في العهد البائد هتفت للخيال الواسع لأحمد الشقيري عن تدمير اسرائيل، ذات الجامعة التي لوحت بإيماءة الأصبع الوسطى ممثلة بـ "لاءات" الخرطوم في أعقاب حرب الأيام الستة؛ تأتي لتقترح من جديد منذ أكثر من عقد من الزمان اقامة علاقات سلام بين العالم العربي وبيننا، مقابل انسحاب الى حدود 1967. ومن يلوح بالإيماءة المبتذلة بالأصبع الوسطى منذئذ وحتى اليوم هو نحن وليس هم". "الاستجداء" الأخير للعرب في واشنطن تضمن أيضاً تنازلاً عن حدود 67 لم تعد بعد اليوم بقرة مقدسة لا يلمسها أحد. وعلى حد قولهم؛ فإنهم يفهمون بأنه طرأت تغييرات على الأرض وسيوافقون على التعديلات أيضاً، ماذا تقول اسرائيل بالمقابل: يسرنا أن ندخل في المفاوضات، لكن دون أي شروط مسبقة، غير أنه في ردنا التلقائي لا ننتبه الى أن هذه المرة الشرط المسبق هو في صالحنا، فحتى قبل أن تبدأ المفاوضات نجد أن الطرف الآخر بالذات يتنازل لنا، وهو لا ينتظر أن نعرض مطلب ابقاء الكتل الاستيطانية على حالها (إذ باسمها ستجرى التعديلات)، بل يقبلها مسبقا، فما الذي نريده نحن بعد ذلك إذن؟.