من بين القضايا التي طغت على اهتمامات مؤتمر هرتسيليا الذي انعقد في تل أبيب منذ شهر، والذي يعتبر أحد أهم المنابر في رسم وتوجيه السياسات المستقبلية للدولة فرضية مفادها ان اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط بدأ يتقلص، فهي منشغلة بأزماتها الداخلية ووجهتها الاستراتيجية تتجه صوب شرق آسيا وأوروبا. الكتابات والتحليلات لا تخلو من التذكير بنبوءة أن الشرق الأوسط لم يعد في مركز الاهتمام الأمريكي، فالتهديد الأكبر هو الصين وكوريا الشمالية وان جميع الجهود الاستراتيجية العسكرية والسياسية في طريقها الى الانتقال نحو الشرق الأقصى. ويرى كثيرون أن الرئيس أوباما عزز هذه السياسة بطائفة من التعيينات ولا سيما في جهاز الأمن الأمريكي، وأن الادارة الامريكية تلتزم بموازاة تغيير السياسة الخارجية أيضاً بتقليصات جوهرية لميزانيتها الأمنية بحيث ستضائل وجودها في منطقة الشرق الأوسط. ويشيرون الى الجهد الأمريكي من اجل الاستقلال في موضوع الطاقة، أي التحرر من التعلق بنفط الشرق الاوسط، وان الامريكان يمهدون الى هذا الانتقال بمحاولة اغلاق "الملفات المفتوحة" في الشرق الأوسط التي قد تعوقهم عن هذا الاجراء الكبير، وهذه الملفات هي: ايران وسوريا والفلسطينيون. وانطلاقاً من هذه الفرضية أو النبوءة طرح المؤتمر رؤيتهم لكيفية التعامل مع المشكلة الفلسطينية وخلاصة الرؤية لأن المتغيرات التي تشهدها المنطقة توجب على قادة الاحتلال بلورة صفقة شاملة للشرق الأوسط تساعد إسرائيل على التقدم في مسار التسوية مع تمكينها من لعب دور إقليمي "بناء". هذا الدور "البناء" يستند إلى نقطتين متكاملتين: النقطة الأولى مبينة على نتيجة مفادها أن الإدارة الأميركية في واقعها الحالي تدرك أن "فرص النجاح في الشرق الأوسط ضئيلة"، وانه لم يبق للأمريكيين الكثير من الخيارات سوى انهم يحاولون خلق الانطباع بانهم يحاولون عمل شيء لمنع اندلاع نزاع جديد، وان الدرس الذي تعلمه الامريكيون من هذا التاريخ الطويل في المنطقة بعد تجربتهم مع أفغانستان والعراق ومصر، وما يحدث في الخليج ان إسرائيل هي الكنز الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية. أما الاتحاد الأوروبي فهو أيضاً غارق في مشاكله وأزماته المالية، وليس لديه الوقت للانشغال في موضوع تحقيق تسوية في المنطقة في ظل عدم الوضوح. والنتيجة أن أمام اسرائيل فرصة تاريخية كي تتحرك وتبادر في عملية صياغة مستقبل المنطقة والموقف من الأزمة الاجتماعية - الاقتصادية في الشرق الاوسط، وان بمقدورها ان تدفع باتجاه تشكيل ائتلاف اقليمي دافع للسلام والامن والاستقرار في المنطقة، وهذا الدور سيشكل ركيزة هامة لمساعدة أمريكا في مواصلة دورها في المنطقة في وقت يتجه اهتمامها الى ساحة جديدة، فضلاً على أن ذلك يثبت مكانة اسرائيل كـذخر استراتيجي للولايات المتحدة، فضلاً على أن ذلك سيحمى اسرائيل نفسها من أي آثار ضارة قد تنشا في المستقبل؛ لأن استمرار السلبية هو الذي يمكن أن يصيبها بضرر في ضوء تعاظم القوة العالمية للاتجاهات الاسلامية وتضرر مكانة الولايات المتحدة. وعلى حد تعبير "هآرتس" ان على اسرائيل تطوير سياسات خارجية خلاقة تستطيع أن تحرف مسارات تاريخية غير مرغوب فيها نحو المرغوب فيه"، هذه السياسات الخلاقة من وجهة نظر اسرائيلية تتطلب المزاوجة بين اتفاق مع الفلسطينيين وتسوية شاملة في الشرق الأوسط على نحو يحسن مستقبل اسرائيل السياسي– الأمني.وعلى حد قول الصحفي الاسرائيلي يجوفيل درور "ينبغي أن يعلق انشاء دولة فلسطينية بخطوات سياسية وأمنيه اقليمية وعالمية تضمن أمن اسرائيل للأمد البعيد.. يشمل أمور كثيرة من بينها منع ايران من الحصول على قدرات نووية، وتعاون مع تركيا من جديد، وسلام ساحق مع مصر، وعلاقات كاملة مع أغلب الدول العربية والاسلامية، وانضمام إسرائيل لحلف شمال الأطلسي، وضمان قدرة اسرائيل العسكرية. وقد دارت أحاديث أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يسعى الآن للمساعدة على بناء تحالف السلام من خلال اقناع الدول العربية بإعادة احياء مبادرة السلام العربية مع بعض التحسينات والتعديلات لتكون مقبولة اسرائيلياً، وكلمة "تعديلات" مفهومة سلفاً وهي تعني بالضبط: أولاً: التخلي عن حق العودة، ثانياً: توفير غطاء للدول العربية للتطبيع مع اسرائيل. ان المؤشرات الواردة والمنبعثة من القمة العربية الأخيرة في الدوحة تبعث على القلق من أن الأمور متجهة الى التساوق مع توصيات مؤتمر هرتسيليا، ومن المهم الانتباه ان زيارة أوباما وتصريحاته جاءت منسجمة تماماً مع الرؤية الاسرائيلية اليمينية، فهو لم يحمل معه خطة أو مقترحات محددة للحل، بل اعترف صراحة بـ "يهودية الدولة" من خلال قوله مراراً ان "اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي"، وطلبه من أبو مازن ان يسقط أي شروط مسبقة للعودة للمفاوضات.