خبر : أطفال غزّيون في حفر موت.. تجعل الولدان شيبا

الإثنين 21 يناير 2013 09:36 م / بتوقيت القدس +2GMT
أطفال غزّيون في حفر موت.. تجعل الولدان شيبا



غزة / سما / تكاد أصابعه تتقطع ألما، أو تتشقق فيخرج منها الماء أحمرا، وتختنق طفولته البريئة بين رمال قبر اختار هو أن يدفن فيه حيا بعد أن أجبرته أنياب الفقر على أن يخرج عن طبيعته المكسوة بـ"يرقة" رقيقة إلى حياة أشبه ما تكون بغابة تخلو من كل شيء إلا من القوي المفترس.   هي أشبه ما تكون بأحجية تحتاج خيوطها للتفكيك كي تكون أكثر وضوحا..لكن.. انزل معنا على عمق عشرين مترا تحت الأرض، ثم خذ نفسا عميقا قبل أن تنظر من حولك.لأنك سترى العجب..أطفال بعمر الزهور لم يترجموا بعد معنى الحياة، أوزانهم أقل بكثير من الحمل الذي يتدلى من فوق أكتافهم وتبلله قطرات العرق المنهمر من فوقهم ومن تحت أرجلهم، سدّت في وجوههم أبواب البراءة، وفتحت لهم سراديب التيه الصاعد إلى الأسفل من أجل بضعة شواقل تروي رمقا تعطش لفتات حرمهم منه ضنك الأسلاك الشائكة والحدود الزائفة.   "أحمد أبو ماضي" طفل لم يطفئ شمعته الخامسة عشرة بعد، واحد من عشرات الأطفال أمثاله، ألجأهم ضيق الحال وقلة ذات اليد إلى "أشغال شاقة" بثمن بخس دراهم معدودة، التقيت به تحت الأرض يحمل كيسا يزن عشرات الكيلو جرامات من المواد الغذائية التي تهرب من المعابر الأرضية المنتشرة بالمئات جنوب القطاع الساحلي المحاصر.   الدقائق الخمسة التي جلس فيها "أحمد" للحديث مع "الاستقلال" كانت أيضا كافية ليأخذ قسطا من الراحة، ويصف المأساة التي يعانيها خلال عمله، لتتحدث عيناه قبل لسانه، وترسم المشهد الذي أكملته الكلمات: نحن نعمل في نقل البضائع التجارية داخل نفق ضيق يصل طوله إلى أكثر من 800 متر وبعمق أكثر من 20 مترا تحت سطح الأرض، مسترشدين بإنارة متواضعة كل عشرة أمتار على طول النفق".   "أبو ماضي يحمل في قسماته تضاريسا ليست كتضاريس الأطفال العاديين، فقد استبدل السواد الذي يعتليه ببعض ذرّات البرد الأبيض الذي لا تكتسيه الأرض إلا في وقت متقدم من كانون، ونعومة الأنامل أدمتها وعورةٌ صنعتها ذات الأنامل.. مكرهة ولسان حاله يقول" ماحد بياكلها بالساهل". فنصف يوم من عمل في قبور الأحياء يتبدل متناوبا بين عتمة الليل وضوء النفق الذي دُفن تحت ركامه عشرات الأرواح، كافٍ لتحل الكهولة والوجع في وجه شبل يافع أثقلته النائبات.                                          البقاء لـ"المترمل"    "أطفال الأنفاق مثل السيارة تماما، لا تسير من غير وقود، لكن الأمر يختلف هنا، فوقودنا هو حبوب الترامال، ومن دونها يخرج المحارب الصغير من أول جولة يحسمها كيس إسمنت أو مواد تموينية".. يلمح لذلك الطفل سامر طه الذي قطف زهرته السادسة عشرة قبل أقل من أسبوع، دون حاجة لإطفاء الشموع التي أطفأتها أصلا كومات الرمال التي تتساقط من فوقه كل حين وآخر منذرة بموت قادم، فينطلق لسانه "يا رب سلّم" قبل أن يقول: نجبر على تناول أقراص منشطة معروفة هنا في غزة باسم "ترامال" تساعدنا على نسيان الألم وتنشيط الجسم، ولا تهمنا النتائج والمضاعفات الخطيرة التي قد تظهر لاحقا.. كل ما يهمني هو جلب المال لعائلتي الفقيرة التي لا تكاد تجد لقمة العيش".   هل انتهت الحكاية.. هي لم تبدأ أصلا، فبين تفاصيلها، العشرات لم يتجاوزوا مرحلتهم الإعدادية، وانقطعوا عن الدراسة، فرغم أن العلم نور-كما هو الأصل- فإن هذا النور لا يجلب المال كما تجلبه عتمة النفق.   وقتلت المعابر الأرضية أكثر من 230 عاملا من مختلف الأعمار، بينهم أطفال، وأدت لإصابة زهاء الستمائة خلال سنوات الحصار، على ما أفاد به مركز الميزان لحقوق الإنسان.                                     غياب المعايير السلامة    التقصير الرسمي الواضح وعدم توفير تدابير السلامة، أو الاهتمام بحقوق الطفولة، عقرب سام يطل برأسه ليلقي بالأطفال في أقبية الموت، بحسب اعتقاد مدير دائرة الحقوق الاقتصادية الاجتماعية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان خليل شاهين، والذي وصف هذا النوع من المهن بأنه أحد أسوأ أشكال الأعمال على الأطفال، سيما أنها تؤثر على صحتهم البدنية، وتدمر حياتهم العلمية، وتفقدهم طفولتهم.   "ينبغي على الحكومة في غزة أن تتخذ كافة الإجراءات والقوانين والضوابط التي تحد من مزاولة هؤلاء الأطفال لمثل هذه الأعمال الشاقة والخطرة على حياتهم وغيرها من النشاطات التي لا يجوز لطفل العمل بها، هذه الأنفاق تفتقر لكافة معايير السلامة والأمان وهي آيلة للسقوط وقتل من بداخلها" أضاف شاهين.   لا يرضى القانون أن يضيع حق الطفل الذي من ضمنه منع تشغيل الأطفال في كافة الأعمال التي تنهك أجسادهم الرقيقة وتزهق أرواحهم البريئة.   وفيما يأكل مالك الحفرة القاتلة نصيب الأسد، يتفضل على الشبل العجوز قهرا بعد غياب شمس لم يرها أصلا بما يكفيه لتوفير لقمة بللها العرق قبل أن يغمسها في حساء -إذا وجد أصلا-.  وأرجع مدير دائرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سبب عمالة الأطفال في الأنفاق إلى تدني مستوى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المريرة التي يعيشها الغزيون، حيث ترزح آلاف الأسر تحت خط الفقر.                                                      قاتل خفي   "مسألة تبعث على القلق"..وصف مختصر لا يعطي المشهد حقه، أطلقته الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان على عمالة الأطفال في الأنفاق بسبب الفقر وقلة الدخل وتردي الأحوال المعيشية لدى كثير من الأسر.  "هذا هو الظلم بعينه.. فهذه الأعمال تنقص أعمار الأطفال وتحرم أصابعهم النعومة" أضاف نائب رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، الذي حمّل هيئة الأنفاق التابعة لحكومة هنية المسئولية عن انتشار ظاهرة عمل صغار السن تحت سطح الأرض في سراديب مظلمة مهددة بالسقوط.   عن صحيفة الاستقلال