على الرغم من أن الحملة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، والتي أطلق عليها جيش الاحتلال "عمود السحاب"، قد استغرقت سبعة أيام فقط، إلا أن نتائجها وتداعياتها المختلفة قد جعلتها حدثًا تأسيسيًا لمرحلة جديدة ليس في الصراع بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني وبيئته الإقليمية فقط؛ بل إنها أسهمت أيضًا في إحداث تغيير جذري في موازين القوى الداخلية الفلسطينية، سيمتد تأثيره إلى العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية. وقد تسنى حدوث هذه التحولات بفعل نجاح المقاومة في صد العدوان الإسرائيلي؛ وإقرار إسرائيل بفشلها في تحقيق أهدافها المعلنة للحرب؛ وهذا ما عزز قوة رهان الرأي العام الفلسطيني على خيار المقاومة، بعدما لمس الفلسطينيون ثماره؛ والتي تمثلت في اضطرار إسرائيل لتخفيف مظاهر الحصار على القطاع وإلغاء منطقة الحزام الأمني الذي أقامته في قلب القطاع، كشرط لموافقة المقاومة على وقف إطلاق الصواريخ. وفي المقابل، أسهمت نتائج المواجهة في لسع الوعي الجمعي للصهاينة؛ وجعلهم يعبّرون بشكل صريح عن اليأس من الرهان على خيار القوة في مواجهة غزة (1). ولقد كان من الواضح أن مسار هذه المواجهة قد تأثر بشكل واضح بالتحولات التي شهدتها المنطقة؛ سيما أنها كانت المواجهة الأولى التي تتم بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل بعد تفجر ثورات الربيع العربي. ستحاول هذه الورقة إلقاء الضوء على أنماط تأثير نتائج هذه المواجهة على البيئة الداخلية الفلسطينية؛ والبيئة الإقليمية للقضية الفلسطينية، ومستقبل الصراع مع الاحتلال؛ وضمن ذلك استشراف دور التحولات المتلاحقة في العالم العربي على الصراع. التحول في موازين القوى الداخلية الفلسطينية لقد أدت المواجهة الأخيرة إلى إحداث تغيير واضح في موازين القوى بين الحركات الفلسطينية؛ سيما وأنها جاءت في ذروة استقطاب داخلي حاد؛ مما ساعد الفلسطينيين على إصدار أحكام أكثر ثباتًا بشأن الفرقاء في الساحة الفلسطينية، على ضوء نتائج هذه المواجهة. فقد عززت نتائج هذه المواجهة مكانة حركة حماس، ووسّعت من التفاف الجماهير الفلسطينية حولها؛ وهو ما تجلى ليس فقط في حجم المشاركة الجماهيرية الهائلة في المهرجان الذي أقامته الحركة احتفاءً بذكرى انطلاقتها الخامسة والعشرين بُعيْد وقف الحرب، بل أيضًا بتواتر استطلاعات الرأي العام، التي أجرتها مؤسسات بحثية محايدة، والتي أكدت أن أغلبية الفلسطينيين باتت ترى قادة الحركة مؤهلين لتولي قيادة الشعب الفلسطيني، أكثر حتى من مروان البرغوثي، رئيس اللجنة الحركية العليا لحركة "فتح"، الذي يُمضي حكمًا بالسجن مدى الحياة في السجون الإسرائيلية؛ ومن رئيس السلطة محمود عباس. كما عززت نتائج الحرب وحدة حماس الداخلية عشية الجلسة الحاسمة التي سيعقدها مجلس شورى الحركة العام، لانتخاب أعضاء المكتب السياسي ورئيس للمكتب خلفًا لخالد مشعل. وقد مثّلت زيارة مشعل التاريخية لقطاع غزة وحفاوة الاستقبال الذي استُقبل به، سواءً على صعيد جماهير الشعب الفلسطيني وعلى صعيد أعضاء وأنصار حركة حماس، مناسبة لدحض الشائعات التي تحدثت عن الصراع بين قيادات الخارج والداخل. وقد عززت حركة حماس مكانتها الإقليمية؛ حيث إن نتائج الحرب قد دلّلت بشكل لا لبس فيه أن تغيير موقع حماس في الاصطفافات الإقليمية، بفعل الظروف، لم يؤثر على وجهتها كحركة مقاومة. فقد تبين أن تمسك الحركة بخيار المقاومة لا يتسنى فقط في ظل وجود الحركة ضمن محور إيران-سوريا-حزب الله، وأنها لا تتخلى عنه في حال اقتربت من مصر وقطر وتركيا. في الوقت ذاته، فإن مشاركة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في المباحثات التي أُجريت بين حركة حماس وإسرائيل بشكل غير مباشر في القاهرة من أجل التوصل لتفاهمات وقف إطلاق النار، جسّدت أوضح إقرار دولي واقعي بمكانة الحركة وحكومتها. ومن المؤكد أن الواقع الجديد سيتيح للحركة هامش حرية كبير في المناورة في الساحتين الإقليمية والدولية. تحسّن فرص إنهاء الانقسام الداخلي لقد مكّنت نتائج الحرب، التي أظهرت حماس في صورة المنتصر، قيادة الحركة من المبادرة إلى عدد من خطوات بناء الثقة تجاه حركة "فتح"، من موقع القوة؛ مثل إصدار حكومة هنية العفو عن جميع أعضاء حركة "فتح" الذين أُدينوا بقضايا تتعلق بالانقسام الداخلي؛ علاوة على سماح حكومة الحركة للعشرات من قيادات "فتح" الذين فرّوا من قطاع غزة، في أعقاب الحسم العسكري، منتصف عام 2007، بالعودة للقطاع دون مساءلة؛ إلى جانب السماح لعناصر "فتح" بالتظاهر، وسمحت لمناضلي فتح بالاحتفال بذكرى انطلاقها. ومن نافلة القول أن سلوك حماس هذا عزز من موقعها في جهود المصالحة، ونقل الكرة إلى ملعب حركة "فتح"، التي اضطرت للرد على هذه الخطوات بخطوات مماثلة، مثل السماح للحركة بتنظيم احتفالات بذكرى انطلاقتها، وتخفيف القبضة الأمنية ضد نشطاء الحركة. لقد قلّصت نتائج المواجهة الأخيرة من حدة الجدل الدائر في الساحة الفلسطينية بشأن البرامج السياسية للفصائل الفلسطينية؛ مما يُفترض أنه سيسهل حل عقدة الخلاف حول "برنامج القواسم المشتركة" الذي تسعى جهود المصالحة لبلورته كأساس لبرنامج توافقي في التعاطي مع الشأن الفلسطيني العام. فقد أضفت نتائج الحرب صدقية كبيرة على خطاب المقاومة السياسي بشكل عام، وخطاب حركة حماس بشكل خاص، ومقارباتها الفكرية تجاه الصراع؛ في حين مثلت ضربة ساحقة لخطاب محمود عباس. فقد تبين بشكل لا يقبل التأويل أن الكيان الصهيوني لا يفهم إلا لغة القوة؛ فسنوات من التدخلات الدولية والعربية لم تُفلح في إقناع إسرائيل بالسماح لمزارعي قطاع غزة بالوصول إلى أراضيهم المتاخمة للخط الحدودي الفاصل بين القطاع وإسرائيل، لكن قادة إسرائيل أُرغموا على الموافقة على السماح لهؤلاء المزارعين بفلاحة أراضيهم كيفما شاؤوا؛ علاوة على توسيع نطاق الصيد للصيادين، والموافقة المبدئية على رفع الكثير من مظاهر الحصار. وقد جاء هذا الإنجاز بعد أكثر من عام على صفقة تبادل الأسرى؛ التي أُرغمت إسرائيل خلالها على إطلاق مئات الأسرى؛ ممن أُدينوا بقتل مئات الجنود والمستوطنين؛ في حين لم تُفلح ثمانية عشر عامًا من المفاوضات في الإفراج عنهم. لقد أقرّت العديد من الدول الأوروبية بأنها أيدت حصول فلسطين على مكانة "دولة مراقب" في الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل تعزيز مكانة محمود عباس في أعقاب الإنجازات التي حققتها حركة حماس، كنتيجة للمواجهة الأخيرة، لكن قدرة عباس على توظيف هذه الخطوة من أجل تعزيز مكانته في الداخل كانت محدودة للغاية؛ لأن عباس لم يخطّط أن يجعل تحركه في الأمم المتحدة جزءًا من فعل نضالي شامل ضد الاحتلال؛ لأن هذا التوجه لا يزال متناقضًا مع توجهات منطق مسار أوسلو؛ علاوة على حذره من ردة الفعل الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، فوجئ الفلسطينيون عندما تواصلت مظاهر التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال بعد الحصول على مكانة الدولة المراقب؛ على الرغم من تواصل الاستيطان والتهويد؛ بل إن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة لم تتردد في قمع واعتقال الشباب الفلسطيني الذين يتصدون للمستوطنين وجنود الاحتلال أثناء قيامهم بالاعتداء على الفلسطينيين في أرجاء الضفة الغربية. وعلى الرغم من سلوك السلطة هذا، إلا أنه يمكن الافتراض أنه ليس بوسعها مواصلة تجاهل متطلبات مواجهة السلوك الإسرائيلي؛ سيما وأن إسرائيل الآن تقف على عتبة انتخابات حاسمة يُتوقع فيها أن يُحكِم تحالف اليمين الديني واليمين العلماني سيطرته على مقاليد الحكم؛ مع كل ما ينطوي عليه هذا التطور من مزيد من التحديات لعباس وسلطته. ويمكن الافتراض أن عباس سيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يسعى لتحقيق المصالحة الوطنية بكل جدية، مع كل ما يتطلبه الأمر من توافق على برنامج قواسم مشتركة، يأخذ بعين الاعتبار حقيقة إفلاس برنامج عباس السياسي، أو أن يتنحى عن قيادة منظمة التحرير وحركة فتح والسلطة. الانتفاضة الثالثة مسألة وقت لقد عززت نتائج المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحماس من فرص اندلاع انتفاضة ثالثة ضد الاحتلال في الضفة الغربية؛ وذلك لأن الفلسطينيين هناك، الذين منحوا قيادة منظمة التحرير الفرصة الكافية لأن يحقق برنامج محمود عباس، القائم على خيار المفاوضات، الرهانات التي انعقدت عليه؛ تبين لهم أن تعلق عباس ببرنامجه قد فاقم أوضاعهم سوءًا (2). فقد كان الخط الدعائي لعباس وجماعته تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية يقوم على بث رسالة مفادها أن سبيل المفاوضات لن يضمن فقط إنجازات سياسية، على رأسها إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتُلّت عام 1967؛ بل أيضًا سيحسّن بشكل فوري الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في الضفة الغربية، وسيرفع من مستوى معيشتهم بشكل لا يمكن مقارنته بأوضاع الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين يعيشون تحت حكم حركة حماس. لكن الفلسطينيين في الضفة الغربية صُدِموا عندما تهاوى الرهان على مخرجات عملية التفاوض؛ فمساحات أراضيهم تتقلص يومًا بعد يوم بفعل المشاريع الاستيطانية التي تأتي لتكريس حقائق جديدة على أرض الواقع، تجعل فرص تحقيق إقامة دولة فلسطينية جديدة كنتيجة للمفاوضات ضربًا من الخيال. ولقد بلغت خيبة الأمل الفلسطينية ذروتها؛ تحديدًا بعد حصول فلسطين على مكانة "دولة مراقب" في الأمم المتحدة؛ عندما شرعت حكومة نتنياهو بتنفيذ مشروع "E1" الاستيطاني؛ الذي يربط مدينة القدس المحتلة بمستوطنة "معاليه أدوميم". وتكمن خطورة هذا المشروع الهائلة في أنه يفصل شمال الضفة الغربية نهائيًا عن جنوبها؛ بمعنى أنه يُسدل الستار على أية إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متصلة الإقليم في الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه تهاوت آمال الفلسطينيين في الضفة الغربية في تحسين أوضاعهم المعيشية، التي تفاقمت؛ لدرجة أن حكومة سلام فياض باتت عاجزة عن توفير الرواتب لموظفيها (3). من هنا، فإنه في ظل هذا الواقع، فإن هناك أساسًا للاعتقاد أن هبة جماهيرية فلسطينية ستنفجر في وجه الاحتلال؛ وهذا السيناريو قد يقود إلى انهيار السلطة الفلسطينية، بسبب ردات فعل العسكرية الإسرائيلية على مظاهر هذه الانتفاضة، مما يؤدي إلى تلاشي الانقسام الداخلي من تلقاء نفسه، بحيث يتم إعادة تركيب الحالة الفلسطينية على أساس جديد يختلف تمامًا عما هي عليه الآن. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن سلوك النخب السياسية الحاكمة في تل أبيب تجاه سلطة رام الله ومحمود عباس تتناقض مع التوصيات المهنية التي تتقدم بها دوائر التقدير الإستراتيجي في الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية؛ التي تحذر نتنياهو من مغبة المخاطر الجمة الناجمة عن سقوط السلطة. وترى هذه الدوائر أن انهيار السلطة يمس بالمصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية، لأنه يحرم تل أبيب من العوائد الجمة الناجمة عن التعاون الأمني القائم حاليًا بين الأجهزة الأمنية للطرفين؛ فضلاً عن أنه يعيد إسرائيل لتحمل المسؤولية المباشرة عن إدارة شؤون حوالي ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية (4). بيئة إقليمية جديدة يمكن القول: إن التحولات الإقليمية التي جاءت نتاج الربيع العربي ساعدت المقاومة الفلسطينية على تحقيق إنجازاتها في المواجهة الأخيرة. ومما لا شك فيه أن أهم التحولات الإقليمية التي وجدت تعبيرها في نتيجة هذه المواجهة، كانت الثورة المصرية وصعود الرئيس محمد مرسي لسدة الحكم (5). لقد كان الموقف المصري من الحسم والصرامة لدرجة أن دوائر صنع القرار في تل أبيب اضطرت للمفاضلة بين خيارات سيئة؛ فاختارت وقف الحملة العسكرية على القطاع والاستجابة لمعظم مطالب المقاومة، حتى لا تتأزم العلاقات مع مصر بشكل يؤدي إلى تخلي مصر عن الالتزام بمعاهدة "كامب ديفيد"، التي تُعد أحد أعمدة الأمن القومي الصهيوني (6). وقد وجدت التحولات الإقليمية ترجمتها في تعاظم الاعتراف بحركة حماس ودورها، في أعقاب المواجهة الأخيرة. وقد تجسد هذا التحول في قيام عدد كبير من وزراء الخارجية العرب، بالإضافة إلى وزير خارجية تركيا، بزيارة القطاع ضمن وفد برئاسة أمين عام جامعة الدول العربية نبيل العربي. لقد أخذت المواقف الأوروبية والأميركية خلال الحملة العسكرية على القطاع في الاعتبار التحولات المتلاحقة في الإقليم. صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا قد عبّرتا عن تأييدهما ودعمهما لإسرائيل خلال المواجهة، لكنهما في الوقت ذاته مارستا في الخفاء ضغوطًا كبيرة على حكومة نتنياهو لوقف العدوان، بعد أن أدركتا أن تواصل المواجهة قد يجرّ إلى مواجهة إقليمية شاملة تهدد مصالح الغرب في المنطقة في وقت بالغ الحرج والحساسية. وقد تم التعبير عن الحرص الأميركي-الأوروبي على وضع حد للمواجهة الأخيرة في وقف الرئيس الأميركي باراك أوباما انشغالاته خلال زيارته لجنوب شرق آسيا من أجل إجراء اتصالات ماراثونية مع الرئيس المصري محمد مرسي ونتنياهو لوقف التصعيد. تبعات تعاظم قوة اليمين في إسرائيل إن ما تقدم لا يعني بالضرورة أن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها خلال المواجهة الأخيرة، والتحولات الإقليمية، سيصرفان حكام تل أبيب عن التفكير في المبادرة مجددًا بضرب المقاومة في غزة. إن كل استطلاعات الرأي العام التي تُجرى حاليًا تؤكد أن الانتخابات العامة التي ستُجرى أواخر يناير/كانون الثاني2013، ستؤدي إلى تعاظم قوة اليمين العلماني والديني، وستعزز من حضور هوامش اليمين المتطرف في البرلمان القادم؛ مما يعني أن التحولات المرتقبة في المشهد الحزبي الإسرائيلي ستؤدي إلى تشكيل ائتلاف حاكم شديد التطرف. ومن المتوقع أن تتنافس القوى الحزبية المشاركة في هذا الائتلاف في استغلال عمليات المقاومة المنطلقة من قطاع غزة، سيما عمليات إطلاق الصواريخ من أجل وضع ملف قطاع غزة مجددًا على رأس اهتمامات الحكومة القادمة. لكن في المقابل، فإن التجربة قد دلّلت بشكل لا يقبل التأويل على أنه حتى في ظل وجود حكومة يمينية، فإن إسرائيل ليس بوسعها تجاهل الاعتبارات الدولية والإقليمية عندما تهم باتخاذ قرار بشأن التصعيد ضد الفلسطينيين، حيث إن ضمان وجود مظلة دولية يكاد يكون شرطًا مسبقًا تحرص دوائر صنع القرار في تل أبيب على توفره قبل الشروع في حملات حربية ضد غزة. ومن الواضح أن إسرائيل ستواصل الأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل الإقليمية، سيما المصرية قبل أن تقدم على أية خطوة تجاه الفلسطينيين. خلاصة إن المقاومة الفلسطينية في سعيها للحفاظ على منجزاتها خلال المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، ستحتاج إلى بلورة إستراتيجية موحدة للمقاومة؛ لا يتم بموجبها التسليم بأن يقوم أي فصيل بعينه بالانفراد بقرار خوض مواجهة مع إسرائيل بمعزل عن بقية الفصائل الأخرى. فلا يُعقل بحال من الأحوال العودة للظروف التي كانت سائدة قبل المواجهة الأخيرة؛ حيث كان كل فصيل يفعل ما يحلو له، دون الالتفات للثمن الذي يمكن أن تدفعه بقية الفصائل وعموم أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. لا يجوز بحال من الأحوال أن يتبرع فصيل فلسطيني بمنح إسرائيل المسوغات لشن العدوان على غزة، في الوقت الذي تخطط له. فالملاحَظ، أن بعض الفصائل كانت تُقدِم في كثير من الأحيان على عمليات إطلاق الصواريخ من أجل إحراج حركة حماس وتوريطها في مواجهة مع إسرائيل؛ على اعتبار أن جيش الاحتلال يعتبر حماس المسؤولة عن تبعات أية عمليات تنطلق من غزة؛ حتى لو لم تكن هي من نفّذتها. إن بلورة إستراتيجية موحدة للمقاومة يساعد الأطراف العربية، سيما مصر على الوقوف إلى جانب المقاومة في الساعة الحرجة؛ فعلى الرغم من التحولات في المشهد المصري، فإن حجم المشاكل الداخلية التي تواجهها الإدارة المصرية يقلّص من قدرتها على تحمل تبعات خوض مواجهة دبلوماسية وسياسية مع الولايات المتحدة بسبب الموقف من إسرائيل؛ سيما وأن مصر ما زالت تعتمد على المساعدات الأميركية؛ لذا ستحتاج حركات المقاومة إلى توفير الظروف التي تسمح للظهير العربي بالتحرك والمساعدة في ظل توفير أكبر هامش مناورة ممكن له. إن أحد أهم الظروف التي تقلّص من قدرة إسرائيل على شن العدوان هو تمتين الجبهة الداخلية الفلسطينية والسعي بكل قوة لإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني السائدة حاليًا. إن أهمية تحقيق الوحدة تكمن في أن الانقسام منح إسرائيل والولايات المتحدة هامش مناورة كبيرًا في التعاطي مع الضفة الغربية وقطاع غزة. فهذه الأطراف تتعامل مع قطاع غزة كجزء من "محور الشر"، الذي يجوز ويتوجب ضربه وعدم السماح بتطوره؛ وفي المقابل تعاملت مع الضفة الغربية، باعتبار السلطة فيها جزءًا من "محور الاعتدال". من هنا، فإنه كلما نجح الفرقاء في الساحة الفلسطينية في إنهاء حالة الانقسام؛ جعلوا مهمة إسرائيل في مراكمة شرعية دولية لضرب غزة ومقاومتها أكثر صعوبة. في الوقت ذاته، فإن المقاومة تحتاج إلى حرمان إسرائيل من مزايا التمتع بالمظلة الدولية في أية مواجهة قادمة؛ فعلى سبيل المثال، عندما تقوم إسرائيل بخرق تفاهمات التهدئة، التي تم التوصل إليها في نهاية التصعيد الأخير، فإن هذا يجب ألا يجعل المقاومة مطالبة بسرعة الرد العسكري على خروقات إسرائيل. وعلى المقاومة وحكومة غزة أن تحرصا على شنّ حملات دبلوماسية وإعلامية للفت نظر الحكومات والرأي العام في الغرب لخطورة الاعتداءات الإسرائيلية، مما يستدعي توظيف خبرات وجهود الحكومات العربية، التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع المقاومة في هذا المجال.____________________________________صالح النعامي - باحث في الشؤون الفلسطينية هوامش(1) سارعت النخب الإسرائيلية لاقتباس مقولة مؤسس إسرائيل ديفيد بن غوريون، الذي قال يومًا: إن ألف احتلال لا يمكنه إخضاع غزة. انظر: توم سيغف، إيلف كيبوشيم لو يخنيعوا غزا (ألْف احتلال لن يُخضعوا غزة)، هارتس، 22-11-2012، http://www.haaretz.co.il/magazine/1.1871601 (2) بالمناسبة الافتراض السائد لدى دوائر التقدير الإستراتيجي في إسرائيل أيضًا يقوم على أن اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية بات أمرًا محتمًا. انظر: إيهود عيلام، بديرخ لانتفادا شليشيت (في الطريق لانتفاضة ثالثة)، النسخة العبرية لموقع صحيفة "يديعوت أحرنوت"، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4287287,00.htm (3) في إسرائيل يدركون أن تدهور الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية بات من الخطورة لدرجة أنه يشكّل عاملاً أساسيًا في تفجير الانتفاضة الثالثة. انظر: يرون فريدمان، بتسسا متكتكت متحت لأف يسرائيل (قنبلة موقوتة تحت أنف إسرائيل)، النسخة العبرية لموقف صحيفة يديعوت أحرنوت، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4285026,00.html (4) لمزيد من التفاصيل حول حجم خيبة أمل المؤسستين العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية من سلوك حكومة نتنياهو تجاه السلطة الفلسطينية، انظر: رون بن يشاي، هكونسبتسيا 2012: نتنياهو فهسكناه همودحكت (المبدأ العام لسنة 2012: نتنياهو والخطر المكبوت)، النسخة العبرية لموقع صحيفة يديعوت أحرنوت، 25-9-2012، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4285659,00.html (5) كشف أودي سيغل، المعلق السياسي في قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية بتاريخ 19-11-2012 النقاب عن أن أكثر ما دفع نتنياهو لعدم شن حملة برية على قطاع غزة كان تهديد الرئيس مرسي بإلغاء اتفاقيات "كامب ديفيد"، في حال لم توقف إسرائيل عدوانها على القطاع.(6) لقد قبلت إسرائيل بأن تحتكر مصر دور الوساطة بينها وبين حماس أثناء المواجهة الأخيرة، مع إدراكها أن مصر تحت حكم مرسي ليست وسيطًا نزيهًا، وأن الإدارة المصرية الجديدة كانت معنية إلى حد كبير بأن تراكِم حماس إنجازات واضحة، وقد عبّر عن ذلك بشكل واضح تسفي مزال، السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة. انظر: تسفي مزال، متسرايم إيننا متفيخ هوغين (مصر ليست وسيطًا نزيهًا)، موقع صحيفة معاريف، 21-11-2012، http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/417/136.html?hp=1&cat=479 مركز الجزيرة للدراسات