خبر : ولادة الجمهور العربي بقلم: تسفي بارئيل هآرتس 23/12/2012

الأحد 23 ديسمبر 2012 06:45 م / بتوقيت القدس +2GMT
ولادة الجمهور العربي  بقلم: تسفي بارئيل  هآرتس  23/12/2012



أقل من مائتي متر تفصل بين فرع "كنتاكي فرايد تشكن" في القاهرة وبين مبنى مجلس الشورى المصري الذي يقع في شارع قصر العيني. هذا مسار يقطع ميدان التحرير، يمر بمبنى الجامعة الامريكية في القاهرة ويطل على مبنى المجمع، وزارة الداخلية الرهيبة التي مثلت نظام الخوف لمبارك. وفي يوم حار ومخيف ما في آب 2008، يوم عادي ومليء بالسيارات والمشاة ممن لم يأبهوا بالاشارات الضوئية، امتلأت فجأة الارصفة بجمهور كبير احتشد قرب مبنى البرلمان. وامتشق الكثيرون هواتفهم الخلوية وبدأوا يصورون اللهيب والدخان الكثيف الذي تصاعد من المبنى. وببطء وصلت ايضا بضع سيارات اطفاء صغيرة بدأت ترش الماء دون جدوى. "خلل كهربائي"، قالت السلطات للصحفيين الذين سجلوا بعناية. "كيف يحتمل الا تتمكن الحكومة من اطفاء حريق لمبنى يعود لها؟"، عجب أحد المارة. "ليست  الحكومة هي التي لا تستطيع ان تطفىء النار، بل هي التي اشعلتها"، اضاف. "خلل كهربائي، آه؟". وفي الغداة اعلن عن لجنة تحقيق وتعهد مبارك بترميم المبنى في عهد ولايته. قبل أربعة اشهر من الحريق، في مدينة المحلة الكبرى الصناعية جرت مظاهرة جماهيرية لعمال المصانع، احتجوا على أرباب عملهم الذين لم يفوا بتعهداتهم لاشراك العمال في الارباح. في 6 ابريل حظي العمال بتأييد كبير من مجموعة من الشباب دعوا كل سكان مصر الى الاضراب تضامنا مع العمال. وكان هذا اضرابا اصيلا في نوعه. "البسوا السواد ولا تخرجوا الى العمل"، هذه كانت رسالة الشباب عبر مواقع الانترنت والعديد من المدونات. وفعلوا هذا بسبب الفهم بان لا معنى للخروج الى الشوارع للصدام مع الجيش، الذي هو بالتأكيد اقوى منهم. ووضع النداء، الذي حظي باستجابة كبيرة نسبيا، حجر الزاوية لحركة 6 ابريل. وهذه الحركة ستبادر بعد ثلاث سنوات من ذلك الى المظاهرة الكبرى في 25 كانون الثاني 2011 في ميدان التحرير، لتسجل بداية الثورة. قبل اسبوع من الحريق نشرت صحيفة "المصري" اليوم المستقلة، مقالا بقلم محررها الرئيس في حينه مجدي الجلاد حمل عنوان "مشكلة أمن قومي". وروى الكاتب عن لقاء كان له مع ثلاثة شبان مثقفين: احدهم خريج كلية الصيدلة، الثاني خريج قانون والثالث يتعلم التجارة. وفي الحديث بينهم طرح السؤال: "ماذا يحصل اذا ما احتلت اسرائيل سيناء مرة اخرى، فهل ستخرجون للقتال دفاعا عن الوطن؟" فأجاب أحدهم على الفور: "نعم بالتأكيد". والثاني، بذات السرعة، اجاب بالسلب، والثالث قال: "عليّ أن افكر، يحتمل أن لا". "طلبت من الاخير ان يشرح قوله"، كتب الجلاد، "فأجاب بان الانسان يخرج الى الحرب للدفاع عن الوطن الذي يشعر انه له. عن دولة تمنحه الدفء والامن. عن حكومة تحقق العدالة والمساواة".             في الذكرى الثانية للثورة المصرية وإن كانت ستحيا بعد شهر فقط، سبقتها الثورة في تونس التي يوم اندلاعها هو 17 كانون الاول، اليوم الذي أحرق فيه نفسه محمد بوعزيزي، الشاب خريج الجامعة الذي صادر افراد الشرطة بسطته لبيع الخضار. وبعدها ستأتي الثورات الطويلة والدامية. في 27 كانون الاول، بعد يومين من المظاهرة الكبرى في القاهرة، بدأت المظاهرات الجماعية في اليمن؛ في 15 شباط سجلت مظاهرة جماهيرية بداية الحرب الاهلية في ليبيا؛ وفقط في اذار انضمت سوريا الى دول الثورة. ولكن للتواريخ الدقيقة للثورات توجد قيمة رمزية فقط. لم تبدأ اي من الثورات حقا في تاريخ واحد.             لقد نضجت القطيعة والاغتراب بين الجمهور وحكامه على مدى سنوات طويلة قبل أن يتغلب الاحساس بعدم وجود ما يمكن للمرء أن يخسره على الخوف من النظام. "الان فهمت ما تريدون"، وعد الجمهور الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، في احد خطاباته الاخيرة قبل أن يفر مع أبناء عائلته. وكان هذا فهما متأخرا وكاذبا. فقد عرف بن علي جيدا ما يريده الجمهور، ولهذا فقد فرض على مدى السنين رقابة متشددة على الصحف وعلى الانترنت، قمع بالقوة كل محاولة للتظاهر وهندس الانتخابات.             يد مبارك كانت اكثر رقة. في عهده ولا سيما في العقد الاخير من بين العقود الثلاثة لحكمه، ازدهرت الصحافة، وان كانت غير قانونية، وشكلت الانترنت منصة لخطاب جماهيري متطور. واساس كفاحه وجهه مبارك ضد الاخوان المسلمين. ولكن بينما تخفت الدكتاتورية في مصر في نظام دستوري، فان ليبيا، اليمن وسوريا، لم تجتهد على الاطلاق. وهكذا، اذا كان في مصر وفي تونس مطلب اسقاط النظام موجها ايضا لرئيس الدولة ولطريقة الحكم والاجهزة التي انشأتها، ففي اليمن وفي ليبيا كان الصراع شخصيا اكثر بكثير. فمطلب الديمقراطية فسر بشكل مختلف في كل دولة، فيما أن تركيبة السكان الخاصة حددت النتيجة المنشودة: الفارق بين سكان بنغازي وطرابلس وفي غربي الدولة (في حالة ليبيا) والنزاع بين الجنوبيين والشماليين وبين القبائل المختلفة (في حالة اليمن).             في هذه الفوارق يكمن احباط من وضعوا مفهوم "الربيع العربي" في الغرب – الثورات، كما يجدر بالذكر، بدأت في الشتاء (باستثناء الثورة السورية) – الذين رأوا امام ناظريهم ثورة عموم عربية ستنتج ديمقراطية على النمط الامريكي. اما طموحات ثوريي الدول العربية، الذين يعرفون اكثر من الجميع ما هي الديمقراطية التي تلائمهم، فاكثر دقة.             يستند تعبير الربيع العربي الى الذاكرة الجماعية الغربية التي تتذكر ربيع الشعوب حيث بدأت تترتب وتتعرف المفاهيم القومية في اوروبا. وكان تواصله في الشتاء الاستعماري القاتم الذي احتلت فيه الدول العربية ايضا. الدول العربية في 2011 لم تستيقظ الى ثورة قومية. فقد تحققت هذه في القرن الماضي. ويحتمل أن يكون من الاصوب تعريف هذه الثورات كمرحلة انتقالية حرجة من الاغتراب الى تماثل المواطنين مع دولهم. ليست حرب استقلال ضد محتل استعماري بل تنفيذ الملكية على الدول التي ابقاها المستعمرون ورثتهم، اولئك الدكتاتوريين الذين اسقطوا.             كما أن تعبير العربي في عبارة الربيع العربي بعيد عن الحقيقة. أربع دول عربية: تونس، مصر، ليبيا واليمن شهدت اسقاطا للحكم؛ دولة واحدة، سوريا، لا تزال تكافح ضد النظام؛ في البحرين وان كانت مظاهرات، فان النظام لم يتغير. والعراق اجتاز ثورة سلطوية بفضل الاحتلال الامريكي. اما باقي الدول العربية فبقيت في موقف المتفرج.             ولكن سيكون من الخطأ فحص تأثير الثورات فقط عبر المنظور الضيق للتغييرات او عدم التغييرات، في كل دولة ودولة. وعي "خلود الانظمة" كما رسخ في معظم الدول العربية هو الذي تبدد. وحتى الانظمة العائلية، مثلما في السعودية، الكويت أو قطر، تعترف بالامكانية الخطيرة من ناحيتهم الكامنة في قوة الجمهور. وقد سارع بعضهم الى تبنى اصلاحات أو شراء الهدوء بمال كثير. وقد ارتدت الديمقراطية في هذه الدول صيغة اخرى، بموجبها الحلول لا يمكن أن تكتفي فقط بضمان الدخل وبالتوزيع الافضل لاموال النفط. مفهوم تمثيل الجمهور دخل أكثر فأكثر الى الخطاب الجماهيري.             وبالتالي فان الثورات لا يمكنها أن تختبر فقط في جودة الديمقراطية التي انتجتها ولا حتى بتحطيم نظام الخوف فقط. هذه أزمة هوية، ومن هنا أزمة تضامن مع دولتك. الممثل المصري القديم، حمدي احمد، أوضح بان غياب الهوية جعل الدولة سوبرماركت. فهل يمكن أن نتوقع من أحد ما ان يضحي بحياته من أجل سوبرماركت؟ كل علاقاتك مع السوبرماركت هي أنك تشتري فيه بضعة منتجات يمكن أن تحصل عليها في كل مكان آخر".             تجري المرحلة الثانية من الاستفتاء المصري على الدستور الجديد. ويشهد الصراع الحاد واحيانا العنيف بين معارضي صيغة الدستور المقترح ومؤيديه على الاهمية الشديدة التي يوليها معظم الجمهور لشكل الدولة التي يعيش فيها. وخلافا لعدم المبالاة بل والكرهية التي احس بها الجمهور المصري تجاه البرلمان قبل اربع سنوات فقط، هذه المرة يرى الجمهور في هذه المؤسسة جزء لا يتجزأ منه. فليس الاحساس فقط بان لصوت الناخب يوجد هذه المرة معنى حقيقي يرسم الفرق بين الستين سنة الماضية وبين السنتين الاخيرتين، بل الاحساس بالانتماء والتماثل مع الدولة، هو الذي نشأ وازدهر في هاتين السنتين.             ولا ريب أنه سيكون للثورة في الوعي ايضا آثار كثيرة على السياسة الخارجية لهذه الدول، على العلاقات العربية وعلى شبكة العلاقات مع الغرب بشكل عام ومع الولايات المتحدة بشكل خاص. ويجري التغيير في هذا الوعي منذ الان في الغرب ايضا، الذي بدأ بالاعتراف بان التحالفات بين الانظمة الغربية والحكام العرب يجب أن تستند من الان فصاعدا الى ذاك المجهول الهائل الذي يسمى الرأي العام. فالقرارات التي يمكن أن تتخذ باللغمز بين رئيس أمريكي ورئيس مصري او تونسي يجب أن تستند من الان فصاعدا الى الشرعية الجماهيرية. وهذا ليس فقط في الدول التي شهدت الثورات بل وايضا في الدول التي تخاف من انتقال الثورات اليها، مثل الاردن، السعودية أو الكويت. ويتعين على طيف العلاقات الدولية أن يغير تعاريفه للزعماء المؤيدين للغرب والمناهضين للغرب؛ ستكون حاجة الى التعاطي مع الزعماء وفقا لمدى استجابتهم لجمهورهم.