يبدو أننا نعود تدريجياً إلى ما كان عليه الوضع في العام 2006، حين أصبح الراتب الهمّ الأساسي للمواطنين، وكان الفلتان في أوجه يعصف بالمحافظات الفلسطينية.. تلك الفترة التي بدأت بعد إجراء الانتخابات التشريعية ونتائجها التي أفرزت نتائج رفضَ العالمُ التعاملَ معها سياسياً أو اقتصادياً، وبالتالي تحمّلنا وزر ما غرسناه بأيدينا، وعلى الرغم من أن الموظفين يشكلون أكثر من 30% من المصوّتين فإنهم ساهموا في نشوء الوضع الجديد والذي بدؤوا يشعرون بآثاره المدمّرة عليهم.. وأصيب الكثير منهم بمرض الندم وما زال هذا المرض يقضّ مضاجع البعض، خاصة أولئك الذين حاولوا أن يجرّونا إلى الغرق تحت مفهوم الانتقام أو التصويت المضاد أو تصفية الحسابات... بمعنى أوصلنا أنفسنا إلى مستنقع سياسي واقتصادي، وأصبحنا نطالب بالنجدة من الجميع. في الأسبوع الماضي، كانت هناك ردود قاسية على مقالة "التعليم على مقصلة الإضراب"، خاصة تلك الفقرة المتعلقة بالموظفين الذين يرون في الإضراب مجرد عطلة مدفوعة الأجر ليس إلاّ، دون أن يكون هناك أي اعتبار لكون الإضراب رسالة نقابية أو سلاحاً نقابياً من أجل تحصيل الحقوق، وأداةً للضغط. وأنا مُصرّ اليوم أكثر مما مضى على هذا التوصيف، وأن طلبة المدارس يخسرون في كل يوم إضراب أكثر من ثمانية ملايين ساعة تدريسية. وللمقارنة، ففي الوقت الذي رصدت فيه السلطات الإسرائيلية ميزانية ضخمة لإضافة 250 ألف ساعة تعليم إلى المدارس الأساسية طوال العام، فإننا نخسر ثمانية ملايين ساعة تدريسية دون أن يرمش لأحد جفن. بعد أسبوع تطوّرت الأوضاع وأعلنت النقابة العمومية الإضراب مدة يومين، ثم لحقتها النقابات الصحية، وفي نهاية الأسبوع أعلنت النقابات الصحية والوظيفة العمومية والجامعات واتحاد المعلمين عن إضراب يبدأ من الإثنين المقبل ويستمر الثلاثاء والأربعاء. نغيب إجازتين متواصلتين، الإجازة الأولى، تحت شعار النضال النقابي، حيث سيتمكن كثير من الموظفين من التسوّق بنصف الراتب الذي قبضوه، فيما ستكون هناك ساعات إضافية للنوم أو السهر عند نسبة عالية من الموظفين العموميين. أما الخدمات التي تقدم للناس حتى ولو كانت طارئة فلتذهب إلى الجحيم؟! والسؤال: هل الإجازتان الطويلتان النقابية ثم إجازة العيد واللّتان ستشلان لأكثر من أسبوع مؤسساتنا الرسمية والخدمات للجمهور قادرتان على تحسين الأوضاع المالية للسلطة؟ وهل هذا سيمكّن من إلزام السلطة بدفع كامل الرواتب في الوقت المحدد؟ وهل المشكلة هي مشكلة الحكومة، والرئاسة منزهة بعيدة عن هذه الأزمة؟ كل الفلسطينيين يعلمون أن السلطة تمرُّ بأزمة بصرف النظر عن أسبابها، ولكننا في النهاية لسنا دولة منتجة ولا دولة نفطية ولا صناعية... نحن وطن محتل، ما زلنا نتسوّل ولكن على طريقة التسوّل المهذّب، وعلى قاعدة أنهم يدفعون لنا ليس لسواد عيوننا ولكن لمصالحهم. ولكن يبدو أن من كان يدفع سابقاً لا يلتزم اليوم، ولم تعد فلسطين ذلك الشعار الذي كان يهزّ الأنظمة والجماهير.. لأن فلسطين وقضيتها عند كثير من العرب والعجم، ربما أصبحت لا تزيد شيئاً عن قضية الصومال، بل إن البعض ربما يحاول استغلالها لزيادة حدة الانقسام والتشرذم الفلسطيني من أجل إنهاء القضية. إذا كانت السلطة هي الراتب فهي أمام خيارين: الأول، أن تعتبر السلطة البقرة الحلوب وإن جفّ ضرعها قليلاً علينا التحمُّل.. أو لنذبح هذه البقرة التي أصبحت عند كثيرين لا تساوي أكثر من قيمة الراتب. لتأكلوا لحمها لمرّة... ولكن لا تبكوا ملكاً أضاعه...!.