الدفعة الأخيرة من عملية جز الرؤوس، وتقطيع الأجساد التي لا تنتهي، كانت هذه المرة من نصيب السلفيين الجهاديين. العداد الآلي للقتل، يقوم بواجباته بحسب الترتيب في صف الطابور. هناك بنك للأهداف، وهناك طابور للقتلى الشهداء الذين ينتظرون أن يصلهم الدور. هنا فعل يتكرر في كل مرة، ولكن باختلاف الأسماء، والعناوين والشوارع، والأماكن، ولكن ضمن قصة واحدة، البدء باستهداف المجموعات الصغيرة والهامشية، والتي يمكن ضمان الاستفراد بها، دون الاحتكاك، التحرش بالثور الأسود، الذي يمكن تأجيل دوره إلى الأخير. ولكن دون أن يمنع ذلك من الدخول في عملية محسوبة معه، من قبيل دغدغة الرقبة، بين الحين والآخر، حتى لا يفكر بأن على رأسه ريشة، أو أنه استثناء، أو أن إسرائيل ترتعد فرائصها منه. وهكذا تبدأ العمليات أولاً بالتركيز على تصفية الصفوف القيادية، الميدانية. ألوية الناصر صلاح الدين، ولجان المقاومة الشعبية، وعندما لا يكون هنا رد بوزن قتل قادة مثل أبو عوض النيرب، تتم محاولات متعاقبة ومكررة، للاستفراد بالجهاد الإسلامي، وتخوض الجهاد الإسلامي المبارزة وحيدة. وإذا تمكنت الجهاد من أن تطلع منها "راس "وتثبت قدرتها على الرد والمواجهة، يقولون "طيب، حسابنا معكم سيظل مفتوحاً يا جهاد إسلامي" لكنهم ينسحبون من الميدان. ها قد ضربنا الألوية والجهاد، هيا، ولما لم يقاتل السلفيون حماس، هيا نتوجه لقتلهم، فهؤلاء قلة صغيرة ولا أحد يمكن أن يدافع عنهم، أو تثور حميته لهم، ويمكننا قتلهم، دون الخوف من عقاب. وفي الوقت نفسه نرسل رسالة من تحت الطاولة للرئيس المصري محمد مرسي، مفادها: أننا وإياكم على الخط نفسه في اعتبار هؤلاء السلفيين، في سيناء وغزة، أعداء لنا ولكم. وإذا استثيروا للرد من سيناء يكون هذا حسناً لمزيد من إشعال الفتيل في وجه الرئيس المصري. شيء ما يشبه المسرح، اللامعقول أو الفانتازي. منذ وقت قريب كان هؤلاء الشهداء، الضحايا الجدد، ولكنْ الموصومون بالانحراف الفكري. بعضهم نزلاء في سجون الأمن الداخلي لحكومة حماس، في محاولة لإقناعهم بالعودة عن هذا الانحراف والهرطقة الفكرية، وإعادة تأهيلهم، لإبعاد هذه اللوثة من التطرف الإسلامي، عن غزة، التي لا مجال فيها للسماح بأن تنمو فيها هذه النبتة. ولكن من جهة أخرى، وفي المقابل وأياً يكن الخلاف الفكري والعقائدي، فإن هؤلاء هم أولاً فلسطينيون مجاهدون قامت بقلتهم إسرائيل. ومن الناحية السياسية والأدبية والأخلاقية وحتى المسؤولية السلطوية لا تستطيع حماس أن تصرف النظر عن استفراد إسرائيل بهم. لكن، هل نظن ونحن نطرح مثل هذا السؤال أن لدى حماس قدرة ردع عظمى، بحيث يجب التوجه إليها لمطالبتها بأن تكون على أهبة الاستعداد في كل مرة لحماية دماء الغزيين أياً كان انتماؤهم، حتى لو أدى هذا الأمر للذهاب إلى حرب واسعة؟ وأقول إن هذا ليس هو السؤال الصحيح، أو المطلوب. وإنما المطلوب هو التوصل إلى ما يشبه إستراتيجية شاملة، وموحدة لتأطير المقاومة الغزية، وهذه الإستراتيجية، يفترض التوصل إليها، طرح السؤال الحقيقي والجوهري، المسكوت عنه في غزة، وهو عن الدور الغزي: ما الذي نريد من غزة شبه المحررة أن تقوم به في الإطار الوطني الشامل، للإستراتيجية الفلسطينية؟ حتى لا يبدو أن غزة منفصلة عن الضفة. أو أن على كل طرف ـ كيان جغرافي، أي كل إقليم ـ أن يقلع شوكه بيده. وحتى نعيد ترتيب الأولويات وبالتالي نضع النقاط على الحروف. ماذا نريد من غزة ؟ إن الجواب عن هذا السؤال ملقى اليوم بشكل رئيس بالدرجة الأولى على حركة حماس، السلطة الفعلية على الأرض، والتي عليها أن توضح إلى أين تأخذ غزة، وما هو الدور المناط بغزة في الإطار العام للتصور الجماعي الفلسطيني، عن الهدف، إذا كان من شأن الحراك الذي تجريه حماس، في إطار سلطتها يعزز الانطباعات التي لا تشير إلى قرب التوصل لإنهاء الانقسام. فهل الهدف هو تمكين السلطة القائمة من أجل استكمال بناء القدرات التي تحول غزة إلى دولة، "دولة المدينة" أو "ممالك المدن" كما في عصور سالفة ؟ أم تمكين السلطة، التمكين الذي يستهدف بناء القدرات، لأجل تمكين المدينة، القلعة، الحصن، القاعدة الارتكازية، والحاضنة لجماع القوة على طريق تحقيق المشروع الوطني، لإنجاز الاستقلال، التحرر من الاحتلال؟ وهذا التمكين هنا لا يمكنه أن يقوم إلا على قاعدة التوافق، وليس على قاعدة "وحدنا فقط في الوطن". وإنما جميعنا موحدون في وطن واحد. أي الواحد في الكل، والكل الذي يختزل في الواحد. لقد كان عرفات هو القائد الرمزي، الذي يجسد في عظمته، وعبقرية شخصيته وقيادته هذه المعادلة. وأظن أن الرئيس محمود عباس وخالد مشعل، اقتربا من هذا التوافق، الذي يحقق هذه المعادلة. الكل في الواحد والواحد في الكل. وأظن اليوم أن الفلسطينيين و"حماس"، و"فتح" يخسرون جميعاً إذا قرر مشعل بالفعل الترجل عن الحصان، في هذا الوقت. وأقول له هنا يا مشعل في الأغنية الشعبية، الأهزوجة الوطنية، ما قاله شاعرنا محمود درويش: "لا تترك الحصان وحيداً". أي بشرى، بشائر تبشرنا، تعدنا بها سيدي رئيس الوزراء، إسماعيل هنية إذن؟ هل حدث رمزي يشكل إعلاناً عن كسر الحصار عن غزة ؟ حسناً وجيد. ولكني هنا أقول بمناسبة ما ذكر عن زيارة أمير قطر إلى غزة، إذا كانت اليد تتوجع فإن التفكير لا يمكنه إلا أن يتجه إلى القلب الذي ينزف، القلب الذي يدمى بالجرح، وهو اليوم القدس وليس غزة، هنا الوردة فلنرقص هنا. لكي لا نخطئ البوصلة. الأعراب الذي يدمرون سورية اليوم، هل يبنون وطناً للفلسطينيين في غزة؟. فهذه هي القدس تنتظر ولا مغيث. وقد كنت شاهداً مساء يوم من أواخر التسعينيات، حينما قدم الأمير ووزير خارجيته إلى المنتدى في غزة فيما كان عرفات يحاول جاهداً ولكن عبثاً إقناعهما، ألا يذهبا لمقابلة نتنياهو في فندق الملك داود في القدس، بعد أن نجح عرفات في أن يفرض حصاراً سياسياً على نتنياهو، وقد أصر الأمير ووزير خارجيته على الذهاب إلى مقابلة نتنياهو نفسه في القدس. أهلاً وسهلاً بكل ضيف يأتي إلى غزة، ويقدم المساعدة ولو بقرش، لكن هذا الدعم سيكون في إطاره الصحيح والمجدي، إذا كان يصب في الشراع الفلسطيني الموحد على قلب رجل وفكرة واحدة، إذا كنا متفقين على ماذا نريد، ومتجهين بكليتنا إلى ماذا نريد. وهكذا عود على بدء، فإن ترتيب الأولويات هو الذي يحدد طريقة الرد وقواعد الاشتباك. أي كيف يمكن إدارة الاشتباك في إطار إستراتيجية موحدة للمقاومة، كما في الإدارة الشاملة للصراع، على قاعدة التوافق والتمكين، تمكين الكل الفلسطيني لتدعيم القدرة على طريق إنجاز الهدف الرئيس، وهذا يقتضي الخروج من العقلية التجزيئية بالمفرق، عقلية البقال، والمعلم الحرفي في "المانيفاكتورا" والتصرف بعقلية الإستراتيجية الكبرى أي المعلم الكبير، وكل عام وأنتم بخير.