اذا كان ثمة شخص يستحق الشفقة، بوصفه الأكثر بؤساً وحرجاً في هذه الدراما الدولية حول الأزمة السورية، فإن هذا الشخص بالتأكيد هو صديقنا المبجل والمحترم رجب طيب اردوغان، الذي يدفع اليوم ثمن أحد أهم الأخطاء، التي يجب على كل زعيم سياسي تحاشيه. هذا الخطأ الكبير بل القاتل هو ما كان ماو تسي تونج في مسائله الاستراتيجية الست، قد أفرد له مكانه، المبدأ الاول أو العنصر الأول وهو التقدير الصحيح للموقف في ظل الشك وعدم اليقين. وبظني ان اردوغان، الذي تصرف في الأزمة الليبية بادئ الأمر على نحو متردد، أخطأ الحساب وتقدير الموقف في الأزمة الأهم التي بدت، كما لو انها تجري أمام عتبة البيت. وقد تولدت عن هذا الخطأ نتيجتان، ما كان على الرجل ان يواجه آثارهما. الأولى هي الاستخفاف بقوة جاره الأسد، وتماسك جيشه، وبنية نظامه. والثانية الظهور بهذا المظهر من الخذلان للصديق وقت الضيق والانقلاب على العهود والاتفاقات، مع ذات النظام، الذي فتح أبواب سورية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً أمام الجارة الكبيرة تركيا. وبسبب هذا الخطأ الكبير في تقدير الموقف وصلنا اليوم الى وضع تحول فيه السؤال من متى يسقط نظام بشار الأسد في سورية، الى من يسقط قبل من ؟ رجب طيب اردودغان ام بشار الأسد؟ ان كاتباً مغموراً مثلي، كان قد توصل بعد شهرين فقط من اندلاع الاحتجاجات في سورية، الى أن الحديث لا يدور عن ثورة توشك على الاطاحة بالنظام، وان التحليل الماركسي الذي هو ذروة التحليل المادي العقلاني، إنما كان يقود ببساطة الى ان النظام المعادي حقاً للامبريالية واسرائيل الصلب والنظيف من ناحية الموقف السياسي الإجمالي العام، تجاه المسألة الفلسطينية والملكية الإقليمية للقوة والحل. انما كان يدفع حتى في خلفية هذه الاحتجاجات ثمن ليبراليته الزائدة، اقتصادياً تجاه تركيا ولمصلحتها، ما كشف البنية الاقتصادية الاجتماعية في قطاعات تتصل بالريف، وصغار الحرفيين، بعد ان انقلب حزب البعث الحاكم على أهم سياساته الاقتصادية وهي الإصلاح الزراعي. لكن لأن الثورات انما هي حراك مديني ومديني بالأساس وان من يقودها هنا هو تحالف طبقي يمثل استقطاباً مدينياً وشعبياً حاداً وكاسحاً، تحالفاً في حالتنا هذه لا يستثني البرجوازية الوطنية الكبيرة، الى جانب الطبقة الوسطى والعمال. فان ما حدث هو ان البرجوازية الوطنية والطبقة الوسطى آثرت التحالف مع النظام. وقد أشرت الى ذلك هنا، والى ان ما يحدث هو من قبيل أغنية ملحمية بطولية ريفية، التى تسبق اختمار شيء جديد في سورية لاحقاً. حيث اقتصرت الاحتجاجات من الناحية الفعلية على الريف. كانت التقاليد السورية، المعهودة لعهود طويلة من السنين هي التي تشكل منعة النظام من السقوط، وتجعل من الثورة مشروعاً فاشلاً. فسورية ليست فقط المستودع العظيم في العالم العربي، لفكرة القومية العروبية، وإنما هي المصفاة والمعصرة العظيمة التي على أرضها يمكن ان تختبر جميع تلك الأفكار والتيارات الايديولوجية الواردة عليها، ليعاد تنضيدها، فرزها من جديد. لن تتمكن الشيوعية، وحتى موجتها اليسارية الثورية الجديدة، من اختراق القشرة الصلبة للتقاليد السورية، رغم اغرائها الفكري، لشريحة واسعة من النخبة السورية، وكون خالد بكداش والحزب الشيوعي السوري، من أقدم الأحزاب في العالم العربي. وكذا لم تتمكن الناصرية من قلب الفكرة السورية، وظلت الأحزاب الناصرية صغيرة تدور في فلك النظام. وفي الثمانينات لم تنجح حركة الإخوان المسلمين، الإسلام السياسي، في إحداث نفس الأثر، باختراق التقاليد السورية. واليوم لا تجد السلفية الجهادية أي حاضنة أو موضع قدم في سورية. سورية التي تظل وفية لتقاليدها منذ آباء الاستقلال وحتى اليوم الدولة العلمانية الوحيدة في الشرق الحاضنة لمفهوم العروبة والقومية العربية، وصاحبة المشروع العروبي القومي. وفقط حينما سمحت سورية لنفسها في غفلة تغيير لون ثوبها عبر ما سمي الانفتاح الاقتصادي، باختراق الليبرالية الجديدة قشرتها، فإنها تعرضت للانكشاف وتم اختراقها من هذه الثغرة، بركوب الغرب موجة الاحتجاجات، التي كانت سلمية في البداية، ومطلبية محقة بالعودة عن هذه الطريق، واحداث الاصلاح. فما كان ممكناً لسورية ان تكون ممانعة ومقاومة في السياسة، وتأخذ بالليبرالية الاقتصادية في الداخل وهنا حدث التناقص والازمة . الازمة التي ستفرض على سورية، العودة مجدداً الى الاحتماء بمظلة تقاليدها القديمة الراسخة، بإعادة تأطير وتركيب التحالف السياسي الداخلي، ذي التوجه الديمقراطي الردايكالي مع القوة اليسارية، والقومية الناصرية بما في ذلك إحداث إصلاحات جدية ترتقي الى حد الثورة، في السياسات الإعلامية، وبنية النظام السياسي، والأداء العام للدولة. هل هو إذن من قبيل إحدى اللحظات التاريخية العاصفة التي تعكس صداماً بين مشروعين، ما يمكن لنا ان نختصر الأزمة التركية السورية على ضوئها؟ المشروع التركي الذي يقوم على إعادة بناء وتركيب شرق أوسط جديد، ولكن يتمحور حول مركز القوة التركية، جوهر الأفكار السياسية، التي يطرحها احمد داوود اوغلو. تماماً على صورة المشروع الذي حلم به شمعون بيريس بعد اتفاق اوسلو "شرق اوسط جديد"، محوره اسرائيل كمركز قوة اقتصادية وسياسية. وحيث نعرف الآن أن كلا المشروعين اصطدما بالعقدة السورية،أو ما يسمى محور المقاومة والممانعة، الذي تمثله ايران، وسورية وحزب الله، وقد لفظ المشروع الاسرائيلي الاميركي أنفاسه الأخيرة في حرب تموز 2006 مع حزب الله، ويبدو المشروع التركي الآن، ينتظر تقرير مصيره، على ضوء المعركة الدائرة رحاها في حلب الآن. ان حلم استعادة وإحياء الحوض التركي والعثماني القديم، سوف يبدأ بعملية كسب القلوب، في المسلسلات الرومانسية المزدهرة التي تفتن الخيال مع قصة "مهند ونور"، ولكن فقط مع هبوب عاصفة التغيير التي حملها الربيع العربي، سوف يتلقى هذا الحلم دفعة قوية، لتحويله الى واقع وحقيقة مع صعود الإخوان المسلمين الى سدة الحكم في المغرب وتونس ومصر. هيا اذن مع هبوب رياح التغيير التي تدفع بالشراع التركي الى إحياء الأساطير العثمانية، إعادة إحياء مجد العنصر العثماني وحتى السلاجقة الأجداد الأول، في "زمن العثمانيين"، و"حريم السلطان". هذه التركيا الحالمة تجد اليوم نفسها، أمام صراع حياة أو موت حلمها يتحطم على أبواب "شام شاه القديمة" مع نظام بشار الأسد في سورية. والواقع أن لعبة الأمم، التي تجري منذ وقت في سورية لتعلمنا اليوم، ان حلم تركيا بإعادة إلغاء وتكسير الحدود والحواجز أمام رأسمالية اقتصادها، انما تستحضر شعار الرأسمالية الأوروبية القديمة "دعه يعمل، دعه يمر" حتى لو أدى ذلك الى انتهاج ازدواجية المعايير إزاء مفهوم احترام سيادة الدول. وان اميركا وأوروبا و روسيا والصين وايران سوف تمنع المشروع التركي من المرور، واستحواذ تركيا وحيدة على الشرق الأوسط. وهكذا سوف يتركون اردوغان وحيداً يتعرق على أبواب سورية. فهل نصدق ان "الناتو" او الغرب سوف يقاتلان مع تركيا الإسلامية ؟ اذا كانت تركيا انتظرت سنين طويلة على ابواب اوروبا دون ان يسمح لها بالدخول. ان اردوغان وأوغلو يسددان ثمن حلمهما الكبير ولكن الذي ما كان له ان يمر عبر تحطيم سورية، فسورية هي المفتاح، مفتاح التوازن العالمي، كما قال فوستر دالاس، وبالتأكيد مفتاح الشرق الأوسط القديم والجديد. ولهذا السبب ما كان للثمرة السورية التي يحمل سقوطها المستقبل، ان تقع في حجر أحد غير حجرها هي. سؤال واحد أخير، لا يمكن مقاومة طرحه، على هامش هذه الحافة الرهيبة، التي توشك هذه الدراما الانزلاق اليها. هل كان هذا فخاً تاريخياً استدرجت اليه تركيا اردوغان، لأجل ضرب تركيا بالمحور الإقليمي الوحيد الذي كان يمكن ان يجعل من هذا التحالف الإقليمي حاضنة مشروع تركي- ايراني -اسلامي -عربي يقوم على التوافق ضد المشروع الاميركي الاسرائيلي. كمين خطط له بعناية في الغرب واسرائيل وهكذا يمكن التخلص من الجميع بضربة واحدة. ضرب روسيا بتركيا، وتركيا بايران وسورية. عن الايام الفلسطينية