لا يوجد إعلام محايد.. لا يوجد إعلام هدفه فقط نقل الحقيقة للناس.. الإعلام يدافع عن القضية التي يؤمن بها مالك الوسيلة الإعلامية أو ما يؤثر في أرباحها إن كان هدفها الأساسي هو الربح. في الصراع بين الأنظمة المستبدة وبين الثائرين عليها يستخدم كُلٌّ منهما الإعلام لدفع القطاعات الواسعة من الجمهور "المراقب" الى الوقوف الى جانبه لأن المعركة على السلطة يحسمها في النهاية موقف هؤلاء "المراقبين". إذا انحاز هؤلاء لقوى الاستبداد، أصبح الثوار دون حاضنة شعبية، وأصبح بإمكان سلطة الاستبداد قمعهم والقضاء عليهم.. وإذا انحازوا للثورة، انتقلت الأزمة للنظام وأصبح تفسخها ممكناً بسبب خوف الأطراف المترددة في سلطة الاستبداد من نجاح الثورة وقيامها بمحاكمتهم. إدراكاً منهم لهذه الحقيقة فإن الثوار، كما سلطة الاستبداد، في صراعهم على كسب الجمهور يقومون أيضاً بالكذب. للبعض هذا الكذب ضروري لنجاح الثورة، والثورة محقة أياً كانت سلوكياتها لأنها تسعى للخلاص من نظام سلطوي حرم شعبه من الحق في الكرامة والسلطة والثروة. للبعض الآخر، سلوك الثوار يجب أن يمثل النقيض لسلوك السلطة الدموية، لأنه في اللحظة التي يمارس فيها الثوار ممارسات السلطة نفسها، فإنهم يفقدون تميزهم عنها، ويفقدون قدرتهم على بناء نظام مختلف عنها. هنا لا ندعي بأننا نقف مع هذا الرأي أو ذاك، فلكل رأي وجهاته، والموقف من أيٍّ من الرأيين يعتمد على عوامل أخرى بالتأكيد منها على سبيل المثال إن كان الكذب الذي يطلقة الثوار أحياناً يستهدف وحدة المجتمع أو تفسيخه.. في الحالة الأولى هو في تقديرنا من النوع المشروع، وفي الحالة الثانية هو من النوع "المرفوض" لأنه يستهدف إشعال حروب أهلية.. على أية حال ليست مشروعية الكذب من عدمه هي موضوع المقال.. ما يعنينا أن ننتبه الى أن الثوار يمارسون الكذب في معركتهم للسيطرة على الفضاء العام. تعالوا معاً لنتعرف على "الأكاذيب" الخلاقة التي مارسها الثوار التونسيون والتي أثرت والى حدٍّ كبير في نجاح ثورتهم وجعلت عشرات الآلاف من الناس تلتحق بهم. أولاً، تم الادعاء بأن الشهيد "محمد بوعزيزي" الذي أحرق نفسه أمام ولاية سيدي بوزيد، احتجاجاً على إهانته ومصادرة عربة الخضار، مصدر رزقة الوحيد، هو شاب خريج جامعة لكنه متعطل عن العمل. محمد بوعزيزي كما عَلِمتُ من أصدقائه لم يتمكن حتى من الانتظام في سنته الأخيرة في المدرسة الثانوية لأن لديه عائلة يريد أن يُعيلَها. أبوه توفي وعمرة ثلاث سنوات، وعمه تزوج من أمه، وبسبب مرضه لم يتمكن هذا "العم" من الصرف على أسرة من ثمانية أفراد، مما اضطر "البوعزيزي" للبحث عن عمل مبكراً. حاول الالتحاق بالجيش ولم يتمكن من العمل فيه، فالعمل في مؤسسات الدولة في أنظمة الاستبداد يحكمه الواسطة والقرب من الدولة، لذلك كانت فكرة عربة الخضار المتنقلة، والتي حرم منها أيضاً قبل ساعة من إنهاء حياته. الترويج لفكرة الشاب خريج الجامعة الذي "أحرق روحه" كانت ضرورية، ليس انتقاصاً من "البوعزيزي" غير الحامل للشاهدة الجامعة، ولكن لدفع الطبقة المتوسطة فكراً للانخراط في صفوف النضال ضد نظام "بن علي". نقول الطبقة المتوسطة فكراً، بمعنى هي تنتمي وعياً للطبقة المتوسطة، لكنها مادياً طبقة مسحوقة. الأرقام تشهد على ذلك حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل بحسب إحصائيات لجنة المتعطلين عن العمل أكثر من 850 ألفاً، منهم من حملة الشهادات الجامعية 250 ألف خريج. الرغبة في دفع هؤلاء الخريجين ممن يمتلكون وعي الطبقة المتوسطة للالتحاق بالثورة والمشاركة الفاعلة فيها هو ما دفع النواة الأكثر صلابة في الثورة، أو النخبة الناشطة التي عملت على تطوير انتفاضة سيدي بوزيد الى ثورة عارمة للادعاء بأن "البوعزيزي" خريج جامعة. ثانياً، تم تعميم صورة على مواقع التواصل الإجتماعي تظهر "البوعزيزي" وهو مشتعل بالنار، والحقيقة كما أخبرني نشطاء سيدي بوزيد بأن عملية حرق البوعزيزي لنفسه كانت مفاجئة للجميع ولم يقم أحد لحظتها بتصوير مشهد الاحتراق، ولم يخطر على بال أحد حتى ممن شاهد الواقعة أن يقوم بذلك، فالكل كان يريد إنقاذه لحظتها وليس تصويره. الصورة التي نشرت، عَلمتُ لاحقاً من قراءتي لكتاب الدكتور عزمي بشارة عن الثورة التونسية، هي لشاب كوري. فكرة تجسيد مشهد الاحتراق في صورة، والادعاء بأنها للشهيد "البوعزيزي" كانت تهدف الى إثارة مشاعر الجمهور ضد النظام.. فالصورة وشريط الفيديو يثير غضب الجمهور أكثر من الكلمات ومن البيانات التي تحاول تصوير "مشهد" قد حدث فعلاً.. الصورة وشريط الفيديو يغنيان عن الكلمات ولا يتركان مجالاً لخيال أو لادعاء بأن الكلمات تحتمل المبالغة، ويُفقِدان السلطة المستبدة قدرتها على الادعاء بأن الثوار كاذبون لأن الصورة وشريط الفيديو يفضحان كذب السلطة. لكن في النهاية وكما نلاحظ، فإن الصورة نفسها لم تكن حقيقية على الرغم من كونها مقاربة واقعية لمشهد الاحتراق. ثالثاً، العديد من الدعوات للاعتصام أمام دار الاتحاد العام التونسي للشغل في العاصمة، لم تصدر عن الاتحاد نفسه، بل صدرت عن النخبة الأكثر التصاقاً بالثورة.. كما أخبرني العديد من النشطاء ومن نشطاء الاتحاد نفسه، بأن قيادة الاتحاد البيروقراطية المركزية كانت موالية للنظام، ولم يكن ليصدر منها دعوات للاعتصام تضامناً مع الثائرين حتى لا تغامر بعلاقتها مع النظام خصوصاً في مراحل الانتفاضة الاولى، أي قبل امتدادها لتشمل كل تونس بعد الثامن من كانون اول2011. النشطاء قاموا "بتلبيس" القيادة المركزية الدعوات للتجمع حتى يعطوا المشروعية لتحركاتهم لأن الاتحاد العام للشغل ينظر له تاريخياً بوصفه الحاضنة للحراك الاجتماعي التونسي خصوصاً بسبب دوره القيادي في انتفاضتي العامين 1978 و1984. الاعتصام الاول أمام دار الاتحاد جرى في الخامس والعشرين من كانون ثاني2010. قيادة الاتحاد فضلت الصمت وامتنعت عن نفي الدعوة للإعتصام حتى تتجنب الصدام مع أعضاء الاتحاد وقيادته الوسطية الثورية. هنالك العديد من الشائعات الأخرى، التي لا مجال للحديث عنها في هذا المقال السريع مثل رسالة "البوعزيزي" لأمه، وبأن شرطية قد صفعته، والتي نشرها النشطاء بكثافة على مواقع تواصلهم الاجتماعي باعتبارها حقائق، والتي لا يزال البعض يرددها باعتبارها الحقيقة بعينها، ولكنها في حقيقة الأمر، ليست أكثر من "ادعاءات" كانت تستهدف التأثير في الرأي العام وكسبه الى جانب الثوار، وقد نجحوا في ذلك. هل تبرر الغاية الوسيلة؟ نترك الإجابة على ذلك للقارئ. لكن الأنظمة الاستبدادية التي تمتلك مصادر هائلة في صراعها مع النشطاء، تكذب من طلوع الشمس الى مغيبها في حربها على الفضاء العام، ولهذا يمكنني شخصياً أن ألتمس العذر للثوار.