يكفي أن تكون غزياً حتى تحل عليك اللعنة من إسرائيل و"حماس" والسلطة ودول الإقليم وأميركا والعالم. هذه عبارة قد تبدو غريبة بعض الشيء إذا ما دققنا في الأطراف المشاركة في هذا اللعنة، فما الذي يجمع "حماس" والسلطة وإسرائيل ودول الإقليم والعالم؟ إنها غزة بكل فخر. فإذا كان الكثيرون يتمنون زوال غزة عن الخارطة وأن يبتلعها البحر- على حد تعبير اسحق رابين -، فالشيء المؤكد أن غزة باقية ومكانتها الجوهرية في المشروع الوطني تتعزز بشكل مستمر على الرغم من الانقلاب والانقسام الذي فرضته "حماس" بتواطؤ من قيادات سلطوية نافذة. من يتتبع أخبار غزة يشعر أن الأطراف المذكورة أعلاه تحتار في كيفية الانتقام من غزة وأهلها ومعاقبتهم على قدرهم وعلى أنهم ولدوا هناك. فإسرائيل أرادت التخلص من غزة وسلخها عن الوطن وليعتبرها الفلسطينيون دولة أو كيانا سياسيا مستقلا، طالما أنها خارج الجغرافيا المرتبطة بالمطامع الإسرائيلية ووجدوا طرفاً أو أطرافاً فلسطينية تفكر بنفس الشيء لأسباب مختلفة، ولكن الذي حقق طموح الإسرائيليين بإخلاص وتفانٍ هي حركة "حماس" التي لا يهمها هذا الذي يسميه أصحاب الفكر والسياسة الذين قادوا النضال الفلسطيني مشروعاً وطنياً، فهناك فرق كبير بين مشروع يقوم على فكرة التحرر والاستقلال في دولة وطنية على حدود الرابع من حزيران من العام 1967 وبين مشروع إسلامي يتلخص في إقامة إمارة على أية بقعة من الأرض على اعتبار أن الأرض كلها لله ولا فرق بين غزة ومصر أو أي مكان آخر المهم إقامة حكم إسلامي يطبق على الناس. وليس مهماً أن يأتي ذلك عن طريق اتفاقات كانت تنعتها "حماس" بالخيانية وهي أكثر تمسكاً بها من أصحابها الذين كانوا يعتقدون أنها ستقود إلى تحقيق الحلم المنشود أي الدولة الوطنية. هكذا التقت مصالح إسرائيل التي نفذها فعلياً ارئيل شارون عندما قام بإخلاء غزة من طرف واحد ليلقيها في حضن مصر أو في الجحيم لا فرق، وبين حلم "حماس" بالتسيد وحكم الناس، واحتلال موقع "فتح"، فأكملت المخطط بالسيطرة على غزة بانقلاب دموي لا مثيل له في تاريخ الشعب الفلسطيني. إسرائيل فرضت حصاراً ظالماً على قطاع غزة بحجة أن "حماس" الطرف الفلسطيني غير الشرعي تسيطر عليه، وهذا مبرر للتعامل معه ككيان معاد، و "حماس" أكملت الحلقة بحكم مستبد يتعامل مع القطاع كدجاجة تبيض ذهباً أو بقرة حلوب يجب حلبها حتى آخر نقطة. ولم يعد يهم "حماس" أن تظهر بصورة فاسدة أقوى وأوقح كثيراً من الذين اتهمتهم بالفساد، وأفاق الغزيون على المواكب الطويلة لأصحاب النفوذ والبنايات والفيلات والمزارع والأراضي والتهريب بما في ذلك تهريب المخدرات عبر الأنفاق التي تحولت إلى تجارة رابحة لقيادات "حماس"، إلى فرض الضرائب الباهظة ومقاسمة الناس عنوة أرزاقهم، ومن يرفض يدفع ثمناً كبيراً، حتى وصل الأمر إلى درجة تعيين محاسب من قبل "حماس" في مرافق العمل الخاصة لاحصاء الأرباح وأخذ حصة فيها، وهذه سابقة لم تقم بها حتى المافيا. والغريب مثلاً أن تتظاهر قيادات "حماس" ضد مصر التي تحكمها حركة "الإخوان المسلمين"، لأنها قررت إغلاق الأنفاق التي تضر بشدة بمصلحة مصر الأمنية والقومية، بدلاً من المطالبة بأن تكون العلاقة بين مصر وغزة مفتوحة وفق القواعد الدولية المتعارف عليها والتي تسمح بتحرير غزة من سطوة تجارة الأنفاق والحصار الذي تتمنى "حماس" ألا ينتهي. أما السلطة الوطنية فهي تضم قيادات تشعر أن الحظ حالفها كثيراً بذهاب غزة وسلخها عن الجزء الآخر من الوطن، وهؤلاء لا يزالون يكررون ادعاءات مغلوطة وغير صحيحة بنسب حصة غزة من إنفاق السلطة فمرة يقولون 58% ومرة48 % ومرات بأرقام أكبر وهكذا للتدليل على أهمية التخلص من عبء غزة المالي، وحتى يكون الكلام مقنعاً أكثر يتم تكرار اسطوانة الإيرادات الضئيلة القادمة من غزة، وبالمناسبة هذا خطأ السلطة منذ البداية، فهي لم تسع إلى تحصيل قيمة ضريبة القيمة المضافة التي تحصلها إسرائيل من تجار قطاع غزة وظلت تنتظر أن توافيها "حماس" بقسائم الضريبة المذكورة، وبطبيعة الحال أهون على "حماس" ألف مرة أن يأخذها الإسرائيليون ولا تصل إلى السلطة في رام الله. وكان بمقدور السلطة أن تبتدع طرقاً مختلفة للحصول على ضريبة القيمة المضافة من إسرائيل خصوصاً أنها دفعت من قبل التجار أصلاً، وتوجد إمكانية للحصول عليها منهم بشتى السبل. وفي كل مرة تظهر أزمة السلطة المالية يجري التركيز على موضوع قطاع غزة الذي يستنزف موازنة السلطة مع العلم أن كل الأرقام التي يجري تداولها مبالغ فيها جداً وغير دقيقة. والآن يريدون معاقبة موظفي غزة باستقطاع العلاوات الإشرافية وبدل المواصلات بحجة أن الموظفين لا يذهبون إلى أماكن عملهم. طبعاً تم وقف التعيينات والترقيات في غزة وأغلب المؤسسات قامت باستبدال كادر غزة بكادر آخر من الضفة بما يعني هضم الحقوق الوظيفية لهؤلاء، والأنكى أن موظفي غزة يعاقبون على التزامهم بقرارات الشرعية فهم جلسوا في بيوتهم بناء على قرار السلطة ومن كان يخالف كان يقطع راتبه. والآن لا توجد غضاضة حتى في قطع راتب الملتزمين، على غرار القرار المتسرع بوقف رواتب الموظفين المفروزين على المنظمات الشعبية والذين غالبيتهم الساحقة من غزة بنفس الحجة أي بعدم التزامهم بالدوام. لحسن الحظ أن جرى تجميد هذا القرار حتى الآن، ولكن العقول لا تزال تبحث في كيفية تقليص مخصصات غزة. وإذا تحدثنا عن العلاج الطبي والتحويلات فغزة مغضوب عليها ويتم دائماً التقليص من موازنتها، وحتى عندما تقرر السلطة تقنين وخفض التحويلات إلى المستشفيات الإسرائيلية يطبق القرار بالوقف الكامل في غزة والتخفيض في أماكن أخرى. لا شك أن الحديث المتكرر من بعض القيادات عن غزة بهذه الطريقة السلبية يجعل المواطنين يعتقدون أن الحل للازمة المالية والاقتصادية للسلطة يكمن في سلخ غزة هذه والتخلص منها، فلماذا يبقى هذا العبء. ويتحمل المواطنون في غزة مسؤولية الواقع المرير الذي يعيشون فيه، فلا تكفيهم سلطة "حماس" القمعية التي تكمم الأفواه وتمنع حرية التعبير وتصادر حقوق الناس على اختلافها. بل هم يتحملون المسؤولية عن تحول القطاع إلى دفيئة للإرهاب وملجأ للخارجين على القانون من جنسيات متعددة، ويعاملون بصورة سيئة في معظم الأماكن في العالم، فهم مشبوهون إلى أن يثبت العكس. ولا يبقى أمام غزة غير الثورة في وجه الظلم الذي يأتي من جهات عدة ومن أماكن عديدة فإلى متى الصبر على هذا الواقع المرير والقاسي، وإلى متى الصبر على قمع "حماس" وقتلها الديمقراطية ومنعها الشعب من ممارسة حقه في الانتخابات واختيار قياداته وعودة قطاع غزة إلى الشرعية، وإلى متى تحمل ظلم ذوي القربى والأشقاء والغرباء، فغزة لم تعتد السكون والتسليم بالغبن ودون أدنى شك ستحين لحظة التمرد وكسر قيود الأسر في النكبة الجديدة وبوتقة الجحيم.