المقدمة لم يتطابق فكر مع واقع عبر التاريخ، والمقولة تَصدُق أكثر على الفكر السياسي. واقع السياسة اليوم - أنظمة وعلاقات وافكار – ليس تطبيقا حرفيا لنظريات ومقولات علم السياسة المُسطرة في كتب السياسة،وإن كان هذا لا يُعيب علم السياسة إلا ان المتغيرات والتطورات المتلاحقة في عالم اليوم وخصوصا في العالم العربي تفرض على علماء السياسة تحديات كبيرة ليس أقلها التسليم بصعوبة تعميم وشمولية النظريات السياسية التي قالوا بها ، أيضا تفرض هذه التحولات والأحداث المتسارعة على علماء السياسة في كل دولة أن ينتجو علما سياسيا يؤسَس على واقع مجتمعهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. ضمن هذا السياق ظهر علم الاجتماع السياسي وفرض نفسه وأثبت حضوره كعلم للسياسة يربط ما بين النظريات السياسية والواقع الإجتماعي والثقافي للشعوب،بحيث بات علم السياسة التقليدي الذي يولى اهتماما بالجانب المؤسساتي والقانوني للسياسة وبالنظريات كمنظومات قابلة للتعميم والشمولية فقط ،يفقد اهميته مع مرور الأيام .بل يمكن القول إن علم الاجتماع السياسي بات بمثابة التوطين Localization لعلم السياسة،إنه علم السياسة في التطبيق العملي حين ينطلق من خصوصية كل مجتمع وتأثير هذه الخصوصية على البناءات والأفكار السياسية والعكس صحيح .شساعة المجال السياسي وتعقده وتعدد البيئات والأفكار السياسية الخ، أفقد علماء السياسة القدرة على وضع نظريات سياسية تفسر مجمل الظواهر والمؤسسات السياسية في كل المجتمعات،ونعتقد أنه لم يكن واردا عند علماء السياسة الأولون ان يؤسسوا نظريات ويضعوا افكارا لفرضها على مجتمعات غيرهم من الشعوب حيث لم يكن خافيا عليهم تباين المجتمعات ،ولكن هذا المطمح (الإمبريالي) لم يكن غائبا عند بعضهم وعند المؤسسات التي تمولهم وخصوصا في الغرب. حتى العولمة التي كان يُعتقد انها ستزيل الخصوصيات وتسمح بدرجة من التجانس الاقتصادي والقانوني والسياسي بين المجتمعات،أدت من حيث لا تحتسب إلى اندلاع الصراعات العرقية والطائفية وظهور دول جديدة وتلاشي أخرى ،وباتت النظريات السياسية التقليدية عاجزة عن فهم وتفسير كثير من الأحداث السياسية المُستجدة ،إن لم يكن فوجئ علماء السياسة بها وسادهم الارتباك في تفسيرها – مقاربتي فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنغتون وتفسير انهيار المعسكر الاشتراكي ونتائجه –،نفس الامر جرى مع التحركات الشعبية المعاصرة من حيث اسبابها ونتائجها .إشكالية البحث النظرية ستتركز على تزايد الهوة ما بين واقع الحياة السياسية من جانب والنظريات السياسية ومقاربات علم السياسة الأولى من جانب آخر،ويترتب عنها إشكالية تطبيقية محورها أن نظريات علم السياسة لا تفيد كثيرا في فهم وتفسير المجال السياسي الفلسطيني . أما فرضية البحث فهي تزايد أهمية علم الاجتماع السياسي باعتباره علم سياسي يركز على دراسة المجال السياسي في إطار بيئته الاجتماعية و أن الواقع السياسي يتطلب (توطبن) النظريات السياسية لتصبح ملائمة للواقع الوطني لكل بلد من فهم ودراسة المجال السياسي آخذين بعين الاعتبار الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والتاريخية لكل بلد. في هذا السياق سنستلهم أسس المنهج النسقي للتحليل والوصف،ولإعطاء طابع عملي أو امبريقي لبحثنا سنقارب إشكالية البحث وفرضيته في المحور الثاني من خلال الحالة السياسية في (المجال السياسي الفلسطيني ). حيث سنرى أن النظريات السياسية تعيش حالة غربة عن الواقع السياسي،وأنها لا تساعد كثيرا الباحث والاكاديمي الفلسطيني على فهم وتفسير الحياة السياسية في بلده،الأمر الذي يستدعي علم اجتماع سياسي فلسطيني يستلهم نظريات علم السياسة ولكنه ينبثق اساسا من خصوصية الواقع الفلسطيني.ولاعتبارات منهاجية سنقسم البحث إلى محورين: المحور الأول: مقاربة نظرية حول علم الاجتماع السياسي كـ (توطين) لعلم السياسة. المحور الثاني: سنقارب العلاقة بين النظريات السياسية حول الدولة والسلطة والديمقراطية ،بالواقع السياسي الفلسطيني،حيث سنحلل مفهوم وواقع أهم عناصر علم السياسية كما تتموقع في المجتمع الفلسطيني وهي:المجتمع ،الدولة ،السلطة ،المجتمع المدني ،الديمقراطية والانتخابات ،إنها موضوعات تشكل اساس علم اجتماع سياسي فلسطيني منشود. المحور الأولعلم الاجتماع السياسي كـتوطين لعلم السياسة أولا : علم السياسة بين النظرية والواقع شغلت العلاقة بين النظرية والواقع اهتمام الفلاسفة عبر التاريخ ،حتى ظهور علم السياسة والعلوم الاجتماعية الأخرى لم يحسم هذه العلاقة لصالح تماهي النظرية الاجتماعية مع الواقع الاجتماعي ،وبالتالي فالفجوة موجودة دائما ما بين مقولات العلم السياسي والواقع السياسي،وعلماء السياسة أنفسهم اعترفوا بذلك من خلال التأكيد على أن وجود علم ونظريات سياسية لا يعني أنها قادرة لوحدها على فهم وتفسير الظواهر السياسية الراهنة،فقد يستنبط منها ما يُفيد فهم وتفسير الواقع ، ولكن دراسة الواقع يحتاج للاستقراء من خلال تتبع جزئيات وتفاصيل الظاهرة السياسية وخصوصا تلك غير المسبوقة أو المختلفة عن زمن وضع النظريات السياسية السابقة. هذه الإشكالية واجهت علماء السياسة والاجتماع منذ بداية القرن الماضي من خلال الجدل حول العلاقة بين البحوث الميدانية Field research والبحوث النظرية وأيهما أكثر علمية ،وقد خلص العلماء إلى أن كلاهما مكمل للآخر،فلا يمكن لباحث يدرس ظاهرة سياسية ما أن ينطلق من فراغ ، بل يكون غالباً مسترشداً بنظرية وبأفكار سياسية سابقة تنير له الطريق،كما أن نتائج البحث الميداني مآلها أن تصاغ في نظريات تُنسب لعلم السياسة أو تعزز من مقولات نظريات سابقة ".إن أي باحث في علم من العلوم لابد له من نظرية توجهه في جمعه للوقائع المتعلقة بالظاهرة التي يريد دراستها ، وفي اختياره للفروض التي يريد أن يختبر صدقها ، وفي اختياره للمنهج وللأدوات التي يستخدمها في دراسته " ،ولكن هذه تبقى أدوات تساعد الباحث على فهم وتفسير الواقع الذي يعيش فيه ،وبهذه الأدوات يمكنه التوصل لنتائج مغايرة لكل ما قال به السابقون وحتى للنظريات التي اهتدى بها بداية.إن الطبيعة المتحولة للواقع السياسي كجزء من الواقع الاجتماعي وتباين الظاهرة الواحدة من مجتمع إلى آخر ، دفع منذ زمن علماء السياسة والاجتماع إلى المطالبة بوضع نظريات نسبية قصيرة المدى ، وهو ما أكد عليه ميرتون Robert. Merton الذي طالب بصياغة "نظريات متوسطة المدى بدلاً من إقامة أنساق نظرية بالغة العمومية والتجريد " ، كما ربط ميرتون بين الجانب التنظيري ، وجانب البحث الميداني ، فالنظرية في رأيه ما هي إلا ضرب من التقنيين Codification بمعنى أن مهمتها الأساسية تتمثل في تنظير التعميمات الأمبريقية Empiricism التي يمكن التوصل إليها من خلال دراسة الصور الاجتماعية المختلفة للسلوك .هذه الملاحظة التي أتى بها ميرتون مفيدة ، وخصوصاً لمجتمعات العالم الثالث ذات الخصوصية المجتمعية والسياسية المتميزة عن المجتمعات الغربية ، ذلك أن النظريات الاجتماعية وإن كانت علمية وصحيحة ، فإن هذه الصحة محصورة بالمجتمعات المدروسة ، ولكن قد تفقد هذه التعميمات أو النظريات قيمتها العلمية ، إن حاولنا تطبيقها قسراً على مجتمعات مغايرة كمجتمعات العالم الثالث،وحتى على مستوى العالم الثالث أو دول الجنوب فإن بينها كثيرا من التباينات الثقافية والاجتماعية يجعل من الصعب تطبيق نظرية سياسية واحدة لفهم وتفسير المشهد السياسي في تلك البلدان .بالرغم من التقدم الذي عرفه علم السياسة في مجال التنظير وعلى مستوى الأدوات المنهجية والتحليلية لجعل الظاهرات السياسية قابلة للفهم والتفسير والتنبؤ ،إلا أن قدرة علم السياسة على التفسير والتنبؤ تبقى أقل يقينية مما هو الحال مع العلوم الطبيعية مثلا،كما أنه يبقى قاصرا عن الإحاطة بكل جزئيات المجال السياسي كمجال دائم التغير.النظريات الاجتماعية والسياسية لعلماء السياسة وخصوصا في الغرب،قد تكون علمية وصحيحة كنظريات ومقولات تفسر واقع مجتمعاتهم ، إلا أنها تصبح متحيزة Partiality) ) وغير موضوعية ، بل قد تكون معادية ، إن حاولنا الأخذ بها دون تمحيص أو مراجعة وفرضها على مجتمعات مغايرة ، فالواقع الاجتماعي يبقى هو الحَكم دائماً ، وقد اعترف العديد من علماء الغرب أن النظريات الاجتماعية الغربية تهيمن عليها العقائدية ، ومحكومة باعتبارات أيديولوجية .إلا أن هذا لا يعني القطعية معها، ولكن الاستفادة من مناهج التحليل التي تم توظيفه للوصول لهذه النظريات ،كما يمكن توظيف النظريات في إطار منهج استنباطي لدراسة وقائع سياسية مشابهة ، دون أن يكون الباحث ملتزماً بالنتائج أو التعميمات التي توصلت إليها هذه النظريات في مجتمعات أخرى.هذا القول لا ينفي صفة العلمية عن نظريات علم السياسة إذا ما وضعناها في إطارها الصحيح كتعبير عن حقيقة نسبية مرتبطة بالزمان والمكان ،وبالتالي فهي أقرب لوجهات النظر المؤَسَسة على الدراسة العلمية،وفي هذا السياق يرى كارل منهايم Karl Mannheim أن النظريات الاجتماعية والسياسية : "لا يمكنها سوى أن تقدم معرفة نسبية الطابع،أي مرتبطة وظيفياً بالوضع الاجتماعي للطبقات،ومصالحها الاقتصادية والسياسية ، ومن ثم فهي معرفة مشوهة ". ولكن من غير الدقيق القول بأن العلم أي علم بما في ذلك علم السياسة هو مجرد نظريات أو تعميمات ،فهذه خلاصة أو نتائج للعلم وليس العلم،فهذا الأخير تفكير عقلاني ومناهج وأدوات تحليل أساسا،ولوعدنا للتعريفات اللغوية والاصطلاحية للعلم ثم لعلم السياسة فسنجد أن تعريف العلم:هو المعرفة الممنهجة أي التي تأتي نتيجة توظيف المنهج العلمي من استقراء وتجريب وملاحظة، ويُعرف أيضا بأنه معرفة الشيء بحقيقته،بمعنى الانطلاق من واقع الظاهرة المدروسة وليس من أفكار مسبقة – أسطورية ولاهوتية وفلسفية-وفي هذا السياق يعرف قاموس ويبستر Webster العلم بأنه :"المعرفة المنسقة التي تنشأ عن الملاحظة والدراسة والتجريب، والتي تتم بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تم دراسته" .أيضا يذهب غالبية العلماء إلى القول بأنه ليس من وظيفة العلم الوصول إلى الحقيقة بل تقتصر وظيفته على الملاحظة والتفسير والتبوء،فالمعرفة العلمية دوما معرفة نسبية،ويعبر الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسلBertrand Russell عن هذا المعنى بقوله: "إن العلم الدقيق تسيطر عليه فكرة التقريب،وإذا أخبرك احد من الناس انه يعرف الحقيقة عن أي شيء فثق بأنه رجل غير دقيق ولا يوجد إنسان علمي في روحه يؤكد أن ما يعتقد الآن في العلم هو الحق تماما بل هو يؤكد انه مرحلة في الطريق إلى الحق التام". ما ينطبق على العلم ينطبق على النظريات العلمية،فهذه لا تمثل سوى معرفة نسبية أيضا ،أو على حد قول كلود برنارد بأنها مجرد درجات نستريح عندها حتى نتقدم في البحث،فهي تعبر وتعكس الوضع الراهن لمعرفتنا ولذا يجب ألا نؤمن بها إيماننا بعقائد الدين،وأن نعدلها تبعا لتقدم العلم" .إذا كان هذا واقع العلم والمعرفة العلمية في العلوم الطبيعية التي تدرس ظواهر طبيعية على درجة من الثبات وقابلة للتجريب والملاحظة،فكيف الحال عند توظيف العلم من مناهج وأدوات تحليل على دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية المتغيرة والمتحولة ؟. بطبيعة الحال ستكون درجة الضبط والتحكم والتفسير والتنبؤ أقل دقة ويقينية،وستكون النظريات أكثر نسبية بل ستكون أقرب لوجهات النظر مما هي نظريات بالمفهوم الشائع لكلمة نظرية.ويبقى الواقع المحك العملي للحكم على صحة النظرية السياسية كما هو الحال بالنسبة للنظرية العلمية بشكل عام،فقدرة النظرية على تفسير الواقع والتعبير عنه هو ما يمنح النظرية صفة العلمية،وليس اتساق مقولاتها وصحتها النظرية المجردة. من منطلق أن علم السياسة علم اجتماعي لان الظاهرة السياسية ظاهرة اجتماعية،فإن ما قال به جورج هومانز (G. Homans) عن علاقة التنظير بالواقع الاجتماعي ينطبق على علم السياسة والواقع السياسي، فهو يرى أن أصحاب النظريات المجردة يقفون عند مرحلة عرض المفاهيم والتصورات بشكل متناسق ، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء اختبارها واقعياً أو تحقيقها تحقيقاً علمياً استناداً إلى فروض واضحة ، ومن هنا يرى أن العديد من النظريات السوسيولوجية قد تَصلُح لأي شيء ولكنها لا تصلح على الإطلاق في تفسير الواقع الاجتماعي الذي هو هدفها الأول،وهو بعد أن يقابل النظرية الاجتماعية بنظيرتها في العلوم الطبيعية ، يخلص إلى القول بعدم وجود نظرية في علم الاجتماع مستوفاة تماماً لشروط العلمية .وهكذا بعد عقود من استقلالية علم السياسة وجهود علمائه المتواصلة لبلورة مجالهم المعرفي والتنظيري والمؤسساتي الذي يمكّن علم السياسة من الإحاطة العلمية الناجحة في تفسير فهم الظواهر السياسية، وصلت نظريات علم السياسة إلى ما يشبه الأزمة التي تعززت بسبب التطورات المتلاحقة في الحقل السياسي وتعدد وتشعب نماذج السلوك السياسي والنظم السياسية بين الدول، وعدم قدرة التنظيرات الجاهزة لعلماء السياسة ولمناهجهم التقليدية على تمثّل هذه النماذج والمتغيرات السياسية، وتقوقع بعضهم حول مزاعم العلمية والعالمية لمقولاتهم وتنظيراتهم وزعم بعضهم بأنها تتوفر على قدرة شمولية للإحاطة بكل الظواهر السياسية- كان هذا حال علماء السياسة في دول المعسكر الاشتراكي-.فلعقود طويلة وعلماء السياسة الغربيون والشرقيون -نسبة إلى المعسكر الاشتراكي سابقاً- يضفون صبغة الشمولية والعالمية على تنظيراتهم ومقولاتهم السياسية، وينطلقون في تعاملهم مع الظواهر السياسية من منطلقات قانونية ومؤسساتية. وقد تأثر علماء السياسة في دول العالم الثالث بهذه التنظيرات وقاموا بنقلها ومحاولة توظيفها على مجتمعاتهم، فكانت النتيجة فشلا ذريعا في تمثلها فبالأحرى في تطبيقها على أرض الواقع وقدرتها على التعامل مع مشاكل هذه المجتمعات المختلفة ثقافيا واقتصاديا وسسيولوجيا حيث المجتمع تطور في سياق مختلف عما هو في دول الشمال،والدولة بحد ذاتها تم اقحامها على بنية اجتماعية قبلية وطائفية ولم تتطور بشكل طبيعي وبفعل ميكانزمات النضج السياسي الداخلي.بداهة، إن موطن الخلل لا يكمن في النظريات والتعميمات التي قال بها علماء السياسة في الغرب أو في الشرق، ولكن الخلل يكمن في عدم الأخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي الذي أقّحمت عليه هذه النظريات والتعميمات. فمن المعلوم أن أية نظرية أو إيديولوجيا تدعي العلمية إنما تستمد علميتها من كونها صياغة عقلية ناتجة عن ملاحظة واقع اجتماعي/ سياسي ما، قامت بتحليله اعتمادا على قواعد المنهج العلمي، فكانت هذه النظريات هي الخلاصة، بمعنى أن علميتها تكمن في انطلاقها من الواقع وإجابتها عن تساؤلاته وقدرتها على التكيف مع تحولاته والتعامل مع بنياته العميقة. أما إذا انتزعت هذه النظريات والتعميمات من سياقها الاجتماعي وحاولنا تطبيقها على سياقات اجتماعية/ سياسية مغايرة فلا ضمانة بأنها ستحافظ على علميتها، لأنها ستكون نظريات وإيديولوجيات مغتربة عن الواقع وعاجزة عن الإجابة على تساؤلاته.إلا أننا نعتقد بأن الأزمة الحقيقية تكمن في تزايد القناعة لدى علماء السياسة بصعوبة فهم الظواهر السياسية والإحاطة بأوالياتها دون الرجوع إلى البنى الاجتماعية التي تتفاعل فيها ومعها هذه الظواهر، فكان لزاما على علماء السياسة العودة مجددا إلى المجتمع وإلى البحث عن أواليات (السياسي) في (الاجتماعي)، ودراسة الظاهرات السياسية ضمن أبعادها الاجتماعية، فكان علم الاجتماع السياسي هو الإجابة العلمية على هذه الأزمة، التي أثيرت في مجال علم السياسة والتي سبق وأن أثيرت قبل ذلك في مجال علم الاجتماع من حيث ادعائه قدرة شمولية على دراسة كل الظواهر الاجتماعية. ثانيا : علم الاجتماع السياسي كتوطين لعلم السياسة انطلاقا من المقاربة السابقة لعلم السياسة وتباين المجتمعات فإننا نقصد بتوطين Localization علم السياسة: توظيف النظريات السياسية الكبرى ومناهج البحث السياسي في تفسير وفهم ومحاولة التنبؤ بالمجال السياسي للمجتمعات انطلاقا من الواقع الاجتماعي والثقافي لكل مجتمع بما يعطي الأولوية للخاص على العام،وللعلم كمناهج وادوات بحث، على العلم كنظريات جاهزة .في هذا السياق ستكون نظريات علم السياسة مُلهمة ومرشدة فقط وليست مُحددة في فهم وتفسير الواقع السياسي ،الامر الذي يسمح بالحديث عن علم سياسي اجتماعي أو علم اجتماع سياسي لكل مجتمع ذي خصوصية أو أستُجدت عليه أمور لم تكن معهودة من قبل،مثلا المجال السياسي في ظل الثورات العربية ،او المجال السياسي في التجربة السياسية الفلسطينية . كان تلمس الخصوصية الاجتماعية والثقافية عند دراسة المجال السياسي لأية دولة وراء ظهور علم الاجتماع السياسي دون أن يعني ذلك تجاهل علم السياسة.وعليه فإن علم الاجتماع السياسي Political Sociology) ) حديث نسبيا،ومع ذلك فإن هذا العلم في حالة تحديث متواصل لموضوعاته ومناهجه نظرا لسرعة تطور وتفاعل التحولات الاجتماعية وتأثيراتها على الحياة السياسية، الأمر الذي يمنح قيمة واهمية متزايدة لهذا العلم مع مرور الوقت.إذن يمكن القول إن علم الاجتماع السياسي هو علم السياسة في محاولته تطوير مقولاته ونظرياته ومناهجه ليصبح أكثر قدرة على التعامل مع مجتمعات ذات أوضاع متباينة، ومداناة الظواهر السياسية انطلاقا من الواقع الاجتماعي وليس اعتمادا على تنظيرات مستوردة ،أو إنه توطين لعلم السياسة حيث يعمل على الانطلاق من الخصوصية الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع وتأسيس نظريات ومقاربات اعتمادا عليها. هذه الإحالة أو الربط بين السياسي والاجتماعي والذي هو خاصية علم الاجتماع السياسي، يجعل هذا العلم علما مزعجا وخطيرا، يكون الباحث فيه كالسائر وسط حقل ألغام لأنه يكون ملزما بالغوص فيما وراء التمظهرات القانونية والمؤسساتية والتنظير السياسي ليربط هذا السلوك وهذه التمظهرات الخارجية بالمجتمع، بصراعاته وتحالفاته، بقيمه وثقافته، وبأصحاب النفوذ والقوة داخل المجتمع، أو بشكل آخر إنه مطالب بربط الظاهرة السياسية إيجابا أم سلبا بالناس كأفراد عاديين أو نخب سياسية أو أصحاب مصالح اقتصادية أو بالمعتقدات الدينية.وجاءت الأحداث المتسارعة في العقدين الأخيرين والتي خلخلت كثيرا من النظريات والبرادغمات السياسية والاجتماعية، لتؤكد على أهمية علم الاجتماع السياسي، فالعولمة وخصوصا في بُعدها الثقافي، وما يسمى بظاهرة الإرهاب، وانهيار المعسكر الاشتراكي بما كان يمثل من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية، والثورة المعلوماتية، وعودة الاستعمار مجددا –العراق نموذجاً- وأخيرا التحركات الشعبية الواسعة التي شهدها العالم العربي مؤخرا ، كل هذه الأحداث المتسارعة خلخلت كثيرا مما كانت تعتبر مسلمات، فالمحددات السياسية والاجتماعية لم تعد ذات طابع وطني خالص بل أصبحت المؤثرات الخارجية ذات حضور ضاغط على التحولات الداخلية، وما التدخل الأمريكي في مسألة الديمقراطية وفي مجرى التحركات الشعبية العربية (الربيع العربي) إلا دليلا على ذلك .لأن علم الاجتماع السياسي يسعى لدراسة واقع الأحوال والظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية على البناءات السياسية، فإنه يعالج النظم الرسمية وغير الرسمية، سواء كانت في إطار دولة أو خارجها، فهو يتعامل مع الظواهر السياسية ليس كظواهر فوقية قائمة بذاتها بل كأجزاء من النسق الاجتماعي الكلي (System Social) . إن مغزى تدريس علم الاجتماع السياسي وامتداد نفوذه حتى على حساب علم السياسة يكمن في التوجه العلمي نحو دراسة المجتمع باعتباره وحدة كلية يصعب الفصل فيها بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي وبالتالي يستحيل فهم الظاهرة السياسية فهما علميا بالاقتصار على تمظهراتها المؤسساتية والقانونية أو اعتمدا على نظريات سابقة، فهذه الأخيرة قد تعطينا فكرة عن الحالة السياسية ولكنها فكرة جزئية وغير صادقة، وخصوصا في المجتمعات التي لا تكون فيها المؤسسات السياسية والقانون السياسي -الدستور- إفراز طبيعي لواقع المجتمع، بل تكون أجهزة مفروضة ومقحمة على المجتمع، والعلاقة بينها وبين المجتمع علاقة اغتراب، ويكون الأمر أكثر صعوبة في المجتمعات التي تغيب فيها المؤسسات السياسية أو تصاب بالشلل ويغيب فيها القانون والدستور، هنا كيف يمكن تحليل السياسي في هذه المجتمعات إن لم نرجع إلى البناءات الاجتماعية وعلاقات القوة التي تحكمها.إن القول بأن علم الاجتماع السياسي هو ذلك العلم الذي يسعى لدراسة القوة أو القدرة في المجتمع يقحم في ميدان البحث السياسي قوى اجتماعية جديدة، كان علم السياسة الكلاسيكي يهمشها مثل النقابات وجماعات الضغط والنخب السياسية والجمعيات والحركات الاحتجاجية والعنفوية والعلاقات العصبية -طائفية كانت أم أثنية-.ربما هذه القوى قد لا تمارس السياسة مباشرة ولكن لها تأثير قوى على الحياة السياسية .أصحاب القرار السياسي إن كانوا يبررون مصدر شرعيتهم بالقانون والدستور أو بالقوة العسكرية التي يحوزونها، فإن هذه المصادر قد تكون مجرد غطاء يخفي القوى الحقيقية التي تسندهم، وهذه القوى لا نكتشفها إلا في داخل البنيات الاجتماعية، التي قد تكون منظمة في تنظيمات كالنقابات أو الأحزاب أو جماعات الضغط وقد تكمن في ثقافة المجتمع ذاته ومعتقداته وتركيبته االاجتماعية.وحتى لو ذهبنا إلى القول مع القائلين إن السياسة لا تفهم إلا من خلال الدولة، فإن الدولة ذاتها منبثقة من المجتمع حتى وإن كانت تمارس تسلطا عليه، فالدولة ليست شيئا وهميا أو معنويا بل مؤسسة يقودها أشخاص من المجتمع وتحضي برضا قطاع سواء كان كبيرا أم صغيرا من المجتمع، فالجهاز البيروقراطي الذي يُسير دواليب الدولة جزء من المجتمع ،ورجال السلطة والممثلون الدبلوماسيون جزء من المجتمع والأجهزة الامنية التي تعتقل وتقتل وتقمع الشعب جزء من المجتمع، وعليه كما يقول هارولد لاسكي Harold Laski)) :" إن البحث يجب أن يتجه إلى القوى الاجتماعية التي تنبثق منها الدولة، كما يجب أن يتجه البحث عن السيادة إلى هذه القوى، التي تمارس السيادة ممارسة فعلية، وتتخذ من شرعية الدولة القانونية حجابا لسلطتها الحقيقية، ويعني هذا اتجاه البحث السياسي اتجاها اجتماعيا واقتصاديا بدل الاتجاه الفلسفي أو القانوني الذي غلب عليه. بل أن البحث القانوني نفسه أخذ يتجه نحو تحليل المحتوى الاجتماعي والاقتصادي والقدروي للشرعية السلطوية، وينطلق هذا البحث من التساؤل عن سبب إطاعة القانون لان الدولة لا تكون إلا حيث تكون لها سلطة مطاعة. فما الذي يفسر واقع الطاعة الاعتيادية؟ أهو الخوف أم العادة، أو القبول أو المنفعة؟ إن الطاعة تقوم إلى حد ما على جميع هذه العوامل". إن مبرر ظهور علم الاجتماع السياسي وتوجهه حاليا نحو مزيد من التوطين أو التركيز على الخصوصيات الوطنية لكل بلد هو إحساس علماء السياسة أن هناك قوى اجتماعية أخذت تفرض نفسها وتؤثر -بدرجات متفاوتة- على السياسة كمؤسسات ونظم وأفكار، وأن أي تحليل للظواهر السياسية بمعزل عن خلفياتها الاجتماعية سيكون تحليلا قاصرا ومظللا، وهذا المنحى السوسيولوجي في التحليل ليس بالشيء المستحدث بل تضرب جذوره عميقا مع أرسطو وأفلاطون وابن خلدون وكارل ماركس وتوكفيل، إلا أنه كان طموحا محدودا من قبل هؤلاء ولم يأخذ كامل أبعاده المنهجية والعملية، إلا حديثا وتحديدا مع ظهور المدارس البنوية والوظيفية والنسقية ،وسرعة التحولات الاجتماعية والسياسية.إذن فإن علم الاجتماع السياسي يسعى لدراسة واقع الأحوال والظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية على البناءات السياسية، وبالتالي فهو يعالج النظم السياسية الرسمية وغير الرسمية، سواء كانت في إطار دولة أو خارجها، لأنه يتعامل مع الظواهر السياسية ليس كظواهر فوقية قائمة بذاتها بل كأجزاء من النسق الاجتماعي Social system، فالسياسة ليست شيئا مجردا ولكنها علاقة قوة بين أناس يشكلون المجتمع، فالسياسة تعني "مع" و "ضد" أي أن أي حديث عن السياسة هو حديث عن علاقات صراع وعلاقات تضامن، ويكون الصراع من أجل حيازة القوة التي تترجم نفسها كما يقول -رايت ميلز- إلى نشاط سياسي وإلى التموقع نهائيا في شكل علاقة حاكمين بمحكومين.وعليه يمكن القول إن مجال عمل علم الاجتماع السياسي يتمركز في مجال الترابطات القائمة بين المجتمع وبين الحكم، أي بين البنى الاجتماعية -المجتمع المدني والأهلي المنظم وغير المنظم- والسلطة السياسية، فإذا كان علم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعية بشكل عام وعلم السياسة يدرس الظواهر السياسية بشكل عام، فإن علم الاجتماع السياسي يدرس نقاط تقاطع العلمين، أو بشكل آخر يدرس البعد السياسي للظاهرة الاجتماعية، والبعد الاجتماعي للظاهرة السياسية.لاشك أن هذه المقاربة لتعريف علم الاجتماع السياسي لها بعد تاريخي يكمن في اللحظة التي بدأ يظهر فيها التمييز بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي، وإلى اللحظة التي بدأ العلماء يتلمسون فيها ثقل تأثير الاجتماعي على السياسي، وهذا البعد يعود إلى ظهور المجتمع المدني وعلاقات القوة التي تحكم مكوناته مع بعضها البعض من جهة وتحكم علاقاته بالنسق السياسي من جهة أخرى، هذا التمايز للمجتمع المدني عن النسق السياسي لا يعني الانفصال بينهما بل يعني ظهور علاقات بينهما تضامنية أو صراعية، وأن السياسة لم تعد شأنا مقدسا محاطا بالألغاز والطقوسية مقتصرا على القلة التي تمارس السياسة، بل أصبحت السياسة شأنا اجتماعيا عاما تقوم على مفهوم المواطنة وحق المواطن في أن يكون حاكما ومحكوما، وفي حقه أن يمارس كل أوراق الضغط والقوة المشروعة للتأثير على ممارسي السياسة ومتخذي القرار حتى تؤخذ مصالحه أو مصالح الجماعة التي ينتمي إليها بعين الاعتبار. إذا كان علم الاجتماع السياسي في ظهوره وتطوره في الغرب قد استند على مبررات منهجية وعلمية تفسر ظهوره، فإن هذه المبررات في العالم الثالث أكثر حضورا، ذلك أن خصوصية الدولة في هذه المجتمعات وخصوصية السياسي فيها، يجعل الظاهرة السياسية ذات خصوصية لا يمكن فهمها إلا بإرجاعها إلى سياقاتها الاجتماعية، فالتعددية الحزبية في هذه البلاد، والانتخابات، والعنف الاجتماعي، والسلطة السياسية، كلها أمور لا تفهم في إطار نظريات علم السياسة المتعلقة بهذه الأمور، بل يجب الغوص في البنيات العقلية والأنساق الاجتماعية والثقافية حتى يمكننا تفسير وفهم هذه القضايا. العلاقات القرابية والمعتقدات الدينية والرواسب النفسية والعقلية لهذه المجتمعات هي التي تعطي للظاهرة السياسية مدلولها الخاص، فالقبيلة أو الطائفة لها حضور وتأثير يكون أحيانا أكثر من تأثير وحضور الدولة، والشخص الرمز -ثوري أو تقليدي، أو ديني- له حضور واحترام وتأثير أكثر من تأثير وحضور المؤسسات والقانون، والتعددية لا تقوم على برامج سياسية واقتصادية واجتماعية، بل على انتماءات أثنية أو طائفية أو إقليمية، والأشخاص لا يذهبون عند الانتخابات للتصويت على برامج بل على أشخاص تربطهم بهم علاقة قرابة أو علاقة قوة، والدين ليس شأنا أو نسقا مستقلا بل إنه يتغلغل ويفرض حضوره في النسق السياسي والنسق الاجتماعي والنسق الاقتصادي، وهو وان لم يكن الحاكم فإن له نفوذا عظيما على هذه المجتمعات.ويمكن القول إن دول العالم الثالث أكثر حاجة إلى علم اجتماع سياسي خاص بها لأن كل التنظيرات والمقاربات السياسية التي جاءت من الغرب أو من الشرق ثبت تقصيرها في فهم وتفسير الحياة السياسية في دول العالم الثالث أو كانت دراستها متحيزة قصدا أو متحيزة لجهل الباحثين الغربيين خصوصيات المجتمعات الثالثية.إن ظهور علم الاجتماع السياسي كعلم قائم بذاته يعطي مجالا خصبا لعلماء السياسة في دول العالم الثالث لدراسة أنظمتهم السياسية ونظمهم الاجتماعية وقضاياهم ومؤسساتهم السياسية، متحررين من تنظيرات علماء السياسة التقليديين، هذه التنظيرات التي تزعم العالمية وتسقط مقولاتها على جميع المجتمعات، محاولة في ذلك إضفاء طابع الشمولية والعالمية لقوانين ونظريات غربية النشأة، تفرضها كمسلمات ومقولات صالحة للتطبيق في كل مكان وزمان متجاهلة تباين المجتمعات فيما بينها. وقد أكدت الأحداث أن انتزاع الأيديولوجيات والنظريات الاجتماعية من سياقاتها الاجتماعية التي انبثقت منها وحققت فيها النجاح ومحاولة فرضها على سياقات أو أوضاع اجتماعية مغايرة أدى لنتائج سلبية بل ومدمرة، سواء كانت هذه النظريات ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فليس دائما يمكن تبيئة النظريات والأفكار الاجتماعية.إن كنا نخلص مما سبق بتعريف إجرائي لعلم الاجتماع السياسي بأنه: العلم الذي يدرس الظواهر السياسية ليس اعتمادا على مقولات نظرية مسبقة وليس انطلاقا من التمظهرات القانونية والمؤسساتية بل يدرسها انطلاقا من إطارها الاجتماعي الذي انبثقت منه وتتصدى لمواجهته تطويرا وتغييرا، وانطلاقا من علاقات القوة التي تحكم الفئات الاجتماعية في سعيها نحو السلطة حفاظا عليها أو وصولا لها أو تحررا من سطوتها،أو إنه دراسة الظواهر والنظم السياسية على ضوء البناء الاجتماعي والمنظومة القيمية والثقافية السائدة في المجتمع ، فإن هذا التعريف يَصلُحُ كمنطلق للباحثين المنتمين للعالم العربي في محاولتهم لفهم وتفسير المجال السياسي في بلدانهم وخصوصا بعد الهبات الشعبية العارمة او الثورات التي بدات في يناير 2011 في تونس ثم انتشرت لبقية الدول العربية ،وهي ثورات غير مسبوقة ليس فقط في العالم العربي بل في العالم بأجمعه من حيث قوة المشاركة الشعبية وشمولية الثورة كل المدن والمناطق.وداخل هذه الخصوصية العربية يمكن مقاربة خصوصية المجال السياسي في فلسطين. المحور الثانينحو علم اجتماع سياسي فلسطيني انطلاقا من المقاربة السابقة التي تربط السياسي بالاجتماعي،تبرز خصوصية المجال السياسي في فلسطين،خصوصية نابعة من خصوصية المجتمع الفلسطيني كمجتمع نصفه خاضع للاحتلال ونصفه يعيش الشتات خارج وطنه،وخصوصية سياسية حيث لا يعيش الفلسطينيون في إطار دولة مستقلة وحيث تجري محاولات لفرض الديمقراطية والانتخابات وتأسيس سلطة سياسية في ظل الاحتلال.هذه الخصوصية تستدعي تأسيس علم اجتماع سياسي فلسطيني، وهي مهمة ملقاة على عاتق علماء السياسة والاجتماع الفلسطينيين، مهمة تحتاج لأبحاث امبريقية أو ميدانية لاستقراء الحالة السياسية الفلسطينية ، دون تجاهل تجارب الشعوب الأخرى وتراث علماء السياسة، حيث يمكن استلهام ما يفيد التحليل والبحث.علم الاجتماع السياسي الفلسطيني الذي ندعو إليه محصلة الدراسات والأبحاث السياسية التي قام ويقوم بها باحثون فلسطينيون أو غير فلسطينيين عايشوا عن قرب الحالة السياسية الفلسطينية ودرسوها انطلاقا من خصوصية الحالة الفلسطينية،علم يبحث في المجتمع الفلسطيني والقوى الاجتماعية الفاعلة فيه – أسر وقبائل وطوائف ومؤسسات مدنية وثقافة - وكيف تطورت عبر التاريخ خلال أكثر من أربعة آلاف سنة،محافظة على هوية وثقافة المجتمع بالرغم من توالي أشكال الهيمنة والاستعمار ،ويبحث في السلطة السياسية وأشكالها ومصادرها شرعيتها والحوامل الاجتماعية التي تعتمد عليها ،ويبحث في الأحزاب وجماعات المصالحة وعلاقتها بالتشكيلات الاجتماعية وبالقوى الأجنبية المهيمنة وبدول الجوار وإيديولوجياتها القومية والدينية والتأثير المتبادل بين الطرفين،ويبحث في القيادة ومصادر شرعيتها وآليات عملها في ظل شعب مشتت يخضع في غالبيته لسلطات (غير وطنية) إسرائيلية وعربية وأجنبية،ودور القيادات الكارزماتية في الحياة السياسية.أو بشكل آخر علم اجتماع سياسي فلسطيني يُنتج نظريات سياسية تعبر عن الواقع الفلسطيني.هذا العلم سيحرر الحالة السياسية الفلسطينية من المقاربات والتنظيرات الأيديولوجية التي تقارب الحالة الفلسطينية عن بعد أو تحاول إسقاط نظريات علم السياسة التقليدي على الحالة الفلسطينية ،كما أنه سيضع حدا للتداخل بين الفهم المؤسَس على السياسة كعلم من جانب، والفهم المؤسَس على الخطاب السياسي والأيديولوجي المنفصل عن الواقع من جهة أخرى .وفي هذا السياق سنتناول بعض القضايا التي وإن كانت تتشابه في المسميات مع مفردات تشكل حقل اهتمام علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي تحديدا ،إلا أن لها خصوصية في التطبيق الفلسطيني،وهي في مجملها تشكل الأساس لعلم اجتماع سياسي فلسطيني ،على أن يتم التوسع فيها لاحقا من طرفنا أو من طرف كل معني بالاشتغال على هذا الموضوع. أولا : الفلسطينيون :وحدة الشعب وتعدد التجمعات المجتمع الفلسطيني نموذج لحالة سياسية لمجتمع لا تُعيننا كثيرا نظريات ومقاربات علماء الاجتماع والسياسة في فهمها وتفسيرها , فالباحث في الشأن الفلسطيني سيجد نفسه مضطراً لتجاوز نظريات ومقاربات دَرُج الباحثون على الأخذ بها في تحليل بنية أي مجتمع ونظامه السياسي, وبالتالي عليه اشتقاق مقاربات جديدة .الباحث في المجتمع الفلسطيني يجد نفسه في حالة تشابك مع المجال السياسي والديني والتاريخي أيضا, فهو لن يصل لفهم علمي دقيق للمشهد السياسي الفلسطيني دون الغوص في تفاصيل المجتمع الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة أو خارجها،والغوص في تاريخ القضية الفلسطينية وفي الأبعاد التاريخية والدينية والدولية للصراع في المنطقة . إن دراسة المجتمع الفلسطيني تنتمي بجدارة إلى حقل علم الاجتماع السياسي , الذي هو مجال خصب لعلماء الاجتماع السياسي لمقاربة واقع اجتماعي / سياسي غير معهود ولم تعالجه النظريات الاجتماعية والسياسية التقليدية بل أيضاً الحديثة المُطبقة في المجتمعات الأخرى. تكمن خصوصية المجتمع الفلسطيني كموئل يحدد الخيارات والتوجهات والأفكار السياسية في خاصيتين:-الخاصية الأولى :- تداخل الاجتماعي مع السياسي، والحاضر مع الماضي , والديني من القانوني,الفقر والبطالة والأسرة والانحراف والفساد وأشكال العلاقات العصبوية وأشكال التكافل الاجتماعي الخ , كلها أمور ترتبط بالاحتلال وتداعياته وبالتالي بالسياسة بشكل أو أخر. فحالة عدم الاستقرار التي تَميزَ بها المجتمع الفلسطيني عبر تاريخه وتداخل قضيته الوطنية مع القضايا العربية والإسلامية بفعل الجوار أو الانتماء أو تقاطع المصالح ،وحالة الشتات , يجعل من المجتمع الفلسطيني حالة خاصة للدراسة.الخاصية الثانية:- أي باحث في المجتمع الفلسطيني سيواجه صعوبة تعريف المجتمع الفلسطيني، والتداخل ما بين كلمة مجتمع Society كمفهوم سسيولوجي وكلمة شعب Peopleكمفهوم سياسي , فعند محاولة تعريف المجتمع الفلسطيني مثلا يبرز سؤال كبير ،هل المجتمع الفلسطيني سكان الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبار ما بينهم من وحدة حال مقارنة مع التجمعات الفلسطينية الأخرى التي تعيش في الشتات منفصلة عن الأرض التي نشأت فيها ؟ هل فلسطينيو الأردن جزء من المجتمع الفلسطيني ؟ أم جزء من المجتمع الأردني ؟ وهل يمكن دراسة فلسطيني الشتات كجزء من المجتمع الفلسطيني أم جزء من الشعب الفلسطيني ؟ أم جزء من المجتمعات التي يعيشون فيها ؟ وما هو حال فلسطينيو 1948 ؟ فهل هم جزء من المجتمع الفلسطيني أم جزء من المجتمع الإسرائيلي ؟ ومع الانقسام الذي أدى لفصل غزة عن الضفة ووجود حكومتين وسلطتين ومرجعيتين مختلفتين , ما هي آفاق العلاقة ما بين فلسطينيي القطاع وفلسطينيي الضفة ؟ الخ. لا شك أن الشعب الفلسطيني الذي يعود بتاريخه لأكثر من أربعة آلاف سنة ويصل تعداده لأكثر من 11 مليون، شعب عريق ومن أقدم شعوب المنطقة حيث وردت نصوص واضحة في التوراة اليهودية تتحدث عن الشعب الفلسطيني والمواجهات التي جرت بين اليهود والفلسطينيين أصحاب البلد كما أن وثائق فرعونية قديمة تعود لنهاية القرن الثاني قبل الميلاد تتحدث عن اتفاقات تجارية بين مصر وفلسطين بل كتب مرخون يهود عن زيف الرواية الإسرائيلية عن تاريخ اليهود في فلسطين ،إلا أنه نتيجة حروب وهجرات،مرت على أرض فلسطين أقوام متعددة بعضها اختلطت بشعب فلسطين وأصبحوا جزءا منه وأخرى كانت مجرد محتلين أو فاتحين , عمرت لفترات قد تطول أو تقصر :الرومانيين والصليبيين والأتراك والانجليز , ولكنهم في النهاية تركوا البلاد لأهلها , ويعتبر الاحتلال العبراني آخر موجات الاستعمار لأرض فلسطين.ومع ذلك فإن اقتصار البحث في سسيولوجيا المجتمع الفلسطيني على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ، كجماعة تقيم الآن على أرض الآباء والأجداد لا يخلو من خطر الانزلاق السياسي بما يضفي شرعية على محاولات تجزئة وحدة الشعب والقضية والتشكيك بوجود مجتمع وشعب فلسطيني واحد موحد. مع أن الباحث يجد صعوبة منهاجيه وعلمية في التعامل مع كل التجمعات الفلسطينية كمجتمع واحد نظراً لما بينها من تباينات فرضها واقع الشتات،وهي تباينات مرشحة للتزايد مع مرور الوقت إن لم يعد فلسطينيو الشتات لوطنهم الأصلي، إلا أنه يَصعُب عليه سياسيا ووطنياً قصر المجتمع الفلسطيني على فلسطينيي الضفة وغزة فقط، لأن ذلك يتماشى مع الطروحات السياسية التي تروم تقليص الحقوق المشروعة للفلسطينيين بدولة في الضفة وغزة فقط وشطب قضية اللاجئين واعتبارهم خارج المعادلة السياسية , والتخطيط الإسرائيلي الجديد يسعى لحصر فلسطين شعباً ومجتمعاً وكياناً سياسيا بقطاع غزة فقط وتذويب البقية ضمن انتماءات وأوضاع أخرى.بعيدا عن متاهات التاريخ فإنه يمكن تلمس ظهور المجتمع الفلسطيني الحديث ككينونة سياسية وكيانية متميزة عن محيطها العربي والإسلامي عندما اجتمع عاملان:- الأول: ظهور المطامع الصهيونية بفلسطين في نهاية القرن التاسع عشر وتصدى الفلسطينيون لمواجهة محاولات الحركة الصهيونية للحصول على امتيازات من قبل الباب العالي في الآستانة .الثاني: ظهور توجهات قُطرية عربية – سوريا ولبنان والأردن والعراق – فصلت نفسها عن المتحد الكلي سواء كان سوريا الكبرى أو حلم الدولة العربية. بمقتضى صك الانتداب الذي منح لبريطانيا على فلسطين الصادر من عصبة الأمم المتحدة عام 1922 تم تحديد حدود الدولة الفلسطينية وبالتالي الشعب الفلسطيني ،إلا أن هذا الصك أشار لوعد بلفور حيث التزمت بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ،الأمر الذي أبقى الصراع مفتوحا حتى اليوم. ثانيا : المجتمع المدني Civil societyووظائفه السياسية إذا كانت تساؤلات عميقة تنتصب أمام الباحث في المجتمع المدني في الدول العربية نظراً لخصوصية مجتمعات هذه الدول عن المجتمعات الغربية التي ظهر فيها المجتمع المدني وتم تأصيل مفهومه بداية ،فكيف الحال بالنسبة للباحث في المجتمع المدني في فلسطين، التي تعيش خصوصية داخل الخصوصية العربية؟.لا غرو أن المقاييس والمؤشرات التقليدية في التعرف على وجود مجتمع مدني في بلد ما، لن تسعفنا كثيراً في الحالة الفلسطينية، لأنه إذا اعتبرنا المجتمع المدني يعني تلمس نقاط تمفصل ما هو مدني عما هو سياسي، أو ما هو اجتماعي – العلاقات والتنظيمات التي يؤسسها الأفراد للتعبير عن مطالبهم والدفاع عنها - عن السياسي – السلطة والدولة –، فإنه في الحالة الفلسطينية يتداخل الاجتماعي مع السياسي ، نظراً لأن الشعب الفلسطيني ومنذ أمد بعيد وحتى اليوم يعيش تحت الاحتلال، وبالتالي لم يعرف دولة وسلطة سياسية وطنية يمكن في مواجهتها بلورة مجتمع مدني، فالسلطة القائمة هي دوماً سلطة احتلال، حتى وجود سلطة وطنية منذ عام 1994 لا ينفي وجود وتفوق سلطة الاحتلال.وهكذا يتداخل ما هو سياسي بما هو مدني في التجربة السياسية الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني بكل فئاته ومستوياته انتظم في حركة جماهيرية واحدة: قيادة سياسية، شعب، نقابات، أحزاب، وجمعيات، لمواجهة دولة الاحتلال، فهدف الجميع مواجهة الاحتلال وليس مواجهة بعضهم بعضاً، حتى وإن تعارضت مصالح حياتهم اليومية.من هنا نلاحظ خصوصية المجتمع المدني وخصوصية وظيفته، فهو مجتمع ولد في خضم مقاومة الاستعمار البريطاني أولاً والإسرائيلي ثانياً، وولادته لم تكن في إطار حركة مطلبية اقتصادية أو اجتماعية، بل في إطار حركة جماهيرية سياسية نضالية تسعى للاستقلال والحرية وإبراز الهوية الوطنية والحفاظ عليها، وبالتالي فإن المطلب الأساسي لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني هو تأسيس المجتمع السياسي الوطني – دولة وسلطة وطنية، بالإضافة إلى ذلك أن نصف الشعب الفلسطيني عاش ويعيش خارج أرض الوطن وتربطه علاقة خاصة وشائكة مع الدول التي يعيش فيها، وهذه خاصية لا نجدها في تجارب الشعوب الأخرى.إن المؤسسات المتعارف عليها كمكونات للمجتمع المدني –نقابات، جمعيات واتحادات...الخ – كانت حاضرة وبكثافة في المجتمع الفلسطيني إلا أن وظيفتها غير وظيفة مثيلاتها في البلدان الأخرى، فغياب دولة فلسطينية – بفعل الاستعمار البريطاني ثم الصهيوني – غير من وظيفة (المجتمع المدني) الفلسطيني وجعلها تصب في اتجاه إبراز الهوية الوطنية الفلسطينية والحفاظ عليها، وإعادة تأسيس الدولة، فالمجتمع المدني في هذه الحالة هو المؤسس للدولة وللسلطة السياسية، وليس العكس وبالتالي يحق تسميته بالمجتمع المدني/ السياسي، وليس المجتمع المدني المفارق للسياسي. بالرغم من تأسيس سلطة فلسطينية عام 1994 بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 ،إلا أنها كانت وما تزال سلطة حكم ذاتي لمناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة،الأمر الذي ترتب عليه وضع ملتبس لا هو وضع دولة مستقلة ولا هو وضع احتلال حيث وُجِدت سلطة سياسية وطنية: مؤسسات وأجهزة أمنية وسجون الخ. وأصبح الشعب يواجه سلطتين: سلطة الاحتلال من جهة والسلطة الوطنية من جهة أخرى، ومع انه لا يمكن وضع السلطتين في سلة واحدة، ذلك أن السلطة الوطنية هي امتداد للحركة الوطنية الفلسطينية أو وريثتها وهي مكسب وطني بالرغم من كل الظروف المحيطة بتشكلها وممارساتها، إلا أنها تبقى سلطة تمارس التسلط، تأمر وتنهي تصدر قوانين وتنفذها، تعتقل وتحاكم، تمنح وتمنع، وهي في كل ذلك مقيدة باتفاقات تفرض استحقاقات يشعر الغالبية من الشعب الفلسطيني أنها مهينة تمس كرامته وحريته.في ظل هذه الظروف شعر المجتمع الفلسطيني في مناطق الحكم الذاتي أنه في الوقت الذي عليه واجب مساندة السلطة في عملية إعادة بناء الدولة الفلسطينية وواجب مواجهة مخططات إسرائيل الاستيطانية، عليه في نفس الوقت العمل على تأسيس مجتمع مدني يمكن اللجوء إليه للحد من تسلط السلطة وللتعبير عن مطالبات والدفاع عن مصالح لم تلبها السلطة الفلسطينية وخصوصاً في إطار حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ذلك أن قطاع من المجتمع يشعر أن مرحلة الثورة لم تنته بعد وأن الواجب الوطني يحتم توجيه كل الجهود لمقاومة الاحتلال الصهيوني بدلاً من الانشغال بقضايا ثانوية كالصراع على سلطة لا تملك من السلطة إلا اسمها.الانقسام الفلسطيني في يونيو 2007،الذي ادى لان يصبح قطاع غزة منفصلا جغرافيا وسياسيا عن الضفة، أثر بقوة على وجود وطبيعة عمل المجتمع المدني والمنظمات الدولية غير الحكومية،حيث قامت حركة حماس بتصفية مؤسسات المجتمع المدني التي تشتبه بانها تابعة لحركة فتح وللسلطة بشكل عام وفي المقابل قامت الحكومة في الضفة بإغلاق جمعيات ومؤسسات تابعة لحركة حماس أو التضييق عليها،يضاف لذلك أن مؤسسات دولية غير حكومية اوقفت نشاطها في قطاع غزة في بداية الاحداث معتبرة ان الحكومة القائمة فيها غير شرعية مما اثر على الخدمات المقدمة للمحتاجين،وفي المقابل نشطت مؤسسات مدنية مستقلة وبعضها تابع لحركة حماس لمواجهة الحصار وتداعياته حيث أنجزت كثيرا من المشاريع الإغاثية في الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية بشكل عام.مع مرور الوقت على الانقسام بتنا نلاحظ مزيدا من ادلجة وتسييس المجتمع المدني في فلسطين،ففي غزة تتبع غالبية المؤسسات لحركة حماس وللاحزاب الموالية لها،وفي الضفة تتبع لفصائل منظمة التحرير وفي الحالتين يلعب التمويل الخارجي دورا أساسيا في وجودها وانشطتها مما يفقد هذه المؤسسات صفتها كمؤسسات مجتمع مدني حقيقي. ثالثا:الفلسطينيون والبحث عن الدولة (الدولة الفلسطينية) حالة خاصة بين الدول، سواء من حيث التأريخ لها ككيان سياسي مستقل ومحدد المعالم ، أو من حيث تحديدها جغرافيا. فتداخل الهويات وتعدد الانتماءات وتعاقب أشكال الهيمنة والاحتلال في فلسطين وعلى فلسطين ،بالإضافة إلى تعدد المرجعيات التي تشرعن حق الفلسط