مررنا بالمرحلة البكائية، صدمة النكبة والبكاء على وطن، بلاد سرقت دون أن نستطيع الدفاع عنها. وكانت هذه المرحلة قد عبّر عنها في الشعر، هارون هاشم رشيد، التي غنّت بعضاً من قصائده فيروز. كما لوحات اللجوء التي جسّدها الفنان التشكيلي الكبير إسماعيل شموط. وذلك قبل يقظة الوعي من الصدمة، في قصائد معين بسيسو "المجد للمقاومة" و"المعركة"، الولوج في الحقبة الرومانسية القومية، في الحلم الكبير الذي يرافق صعود البطل القومي، أو الزعيم، في شخصية جمال عبد الناصر، والعودة المنتظرة في المخيلة الشعبية عن "الزحف المقدس"، وإعادة تحرير فلسطين. مرحلة الرهان على حروب الجيوش العربية، قبل أن ندخل بعد الصدمة الثانية في حزيران 1967، في حقبة الكفاح المسلح. ونشوء حركة التحرير الوطني (فتح). ومروراً بحقبة حرب التحرير الوطنية، اعتماداً على أنفسنا، حرب الشعب طويلة النفس، والتي لا تعرف المساومة أو المهادنة. وهي الحقبة التي يرمز إليها في الشعر، بالمرحلة الغنائية الثورية، في أشعار توفيق زياد، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وحسيب القاضي، وسوف تبلغ ذروتها في المنفى والرحيل عن بيروت، وفي البناء الملحمي لقصائد درويش. سوف ندخل لاحقاً في مرحلة الانتفاضات الوطنية الشعبية الكبرى، انتقال حروبنا من الخارج إلى الداخل. مسجلين هذا الابتكار "الانتفاضة" على اسمنا، وذلك بموازاة التحول أو الانتقال في الخطاب السياسي والإعلامي، من النزعة التبشيرية والدخول فعلياً، الحقبة الواقعية، فض الاشتباك بين المثالية والواقعية، الذي مهد إليه عرفات مبكراً في العام 1974، في خطابه الشهير في الأمم المتحدة. وسوف تبلغ هذه الواقعية البراغماتية ذروتها، العام 1993، بتوقيع اتفاقية أوسلو، وانتقال عرفات من المنفى إلى الوطن وإنشاء أول سلطة وطنية فلسطينية على جزء من أرض فلسطين. ويرمز إلى هذه المرحلة بالمزاوجة بين كوفية عرفات الشهيرة ومسدسه، وطاولة المفاوضات، في اللقاءات التي كانت تعقد على الحدود بين غزة وإسرائيل، في الصور الملتقطة، التي تضمه إلى جانب رابين وبيريس، وفيما بعد باراك. اختلاط الواقع بالحلم والرؤى. الحقبة المزدهرة للسلطة الفلسطينية وجبنة (أوسلو) السويسرية المليئة بالثقوب. فانتازيا المشهد وتناقضاته، والتي تجد تعبيراً لها فيما بعد بالقصائد الملحمية لمحمود درويش كنموذج من فانتازيا الروح والجسد. وفي التناقض الذي سوف يمزق شقاء الوعي. الذي سيبلغ مداه في انفجار الواقع، كزلزال عنيف، في الانتفاضة الثانية، ولسوف يكون لدينا في هذه المرحلة قديسون وشهداء، واستشهاديون يذهبون للشهادة والموت بابتسامة، كذاك الشعور الذي يحس به ذكر النحل في اندفاعته الأخيرة نحو الموت. قديسون وشهداء يقابلهم انتهازيو فرص متسلقون ومحدثو نعمة فاسدون. سلطة وطنية مقاتلة تخبئ سلاحها تحت الطاولة بمفهوم أقرب إلى الحكومة الثورية المؤقتة. وسلطة تقوم بالتنسيق الأمني، والاعتقال السياسي "الباب الدوار". وحيث شعرة رقيقة تفصل بين التخاذل والبطولة. هي شعرة حوفظ على ألا تنقطع حتى النهاية. كما بين الدولة والثورة. ديمقراطية غابة البنادق، والديمقراطية الانتخابية الدستورية. التقاليد الثورية، والقانون الأساسي. المجلس الوطني في المنفى والمجلس التشريعي. المنظمة والسلطة. الفصائلية وحكومة دولة رئيس الوزراء ومعالي الوزير. غزة الخاضعة من الناحية القانونية للاحتلال وغزة المحررة بقوة السلاح. تناقضات كان فقط بمقدور القائد، الزعيم الملهم، أن يعيد تنسيق أبعادها وتكييفها على إيقاع تكتيكاته ومناوراته الحاذقة، في الإطار الشامل لإستراتيجيته الكبيرة التي تقوم على التكيف وإخفاء المخطط الكبير تحت الطاولة. إن هذه الحقبة من القدرة الفذة على تنسيق الأبعاد المتعارضة سوف تنتهي عملياً بمقتل عرفات، وبعد موته سوف ندخل هذه المرة حقبة الانقسام، إعادة تفكيك وانفصام وحدة التعارضات، في غياب القدرة على صهر التناقضات. حكومتان برأسين وسلطتين. والتعارض بين المقاومة والمفاوضة. وتالياً بين الصواريخ الوطنية والصواريخ العبثية والصواريخ اللاوطنية في الطبعة المتأخرة. وإحلال الانقسام الواقع على الأرض كحقيقة. وهذه الحقبة سوف تبلغ مداها التراجيدي في التعبير عنها بجملة واحدة : انسداد الأفق. المقاومة كما المفاوضة، كما القدرة على مواصلة الطريق من هنا. وإعادة قلب سلم الأولويات. الأجندة، بتغليب الهم المعيشي والاقتصادي على الهم الوطني، القضية الأم، الوظائف والتعيينات، والرتب والرواتب، والبطالة، على إنجاز المهمة التاريخية والمباشرة، إزالة الاحتلال وإقامة الدولة، والاستقلال. هل كان خطابه الأخير في الأمم المتحدة مساء يوم الخميس هو التعبير الأكثر دلالة عن نهاية حقبة، مرحلة تاريخية بأكملها، من النضال التحرري الوطني، في يأس حيلتنا ووسيلتنا، لنعيد قضيتنا إلى الأمم المتحدة. لقد وقف عرفات سلفه، أبو الوطنية الفلسطينية هنا في نفس المكان والقاعة قبل أربعين عاماً، في العام 1974، وفي دعوة بلاغية مؤثرة طلب من مجمع الأمم هذا، ألا يتركوا غصن الزيتون الذي جاء به أن يسقط من يده. ولقد أبقى عرفات حتى أنفاسه الأخيرة على هذا الغصن، كما البندقية، ونجح بصورة فذة ومثيرة للإعجاب والدهشة في المزاوجة بينهما. لكنني أظن الآن أنه ما كان أمام هذا الرجل خليفته من خيار آخر يسلكه سوى هذه المحاولة بالأخير، أن يلقي بالقضية برمتها في حجر هيئة الأمم، مظلة الشرعية الدولية، وبعد ذلك، كما يبدو في الأفق، لكل حادث حديث، فهذا الحل إما أن يكون قرب هذه الساعة الحادية عشرة، أو هي نبوءة كيسنجر هذه المرة ومحمود أحمدي نجاد معاً، هذه الدولة "إسرائيل" إلى زوال، لأنها ليس لها جذور، في غضون عشر سنوات سوف تنتهي. ولكن في هذه المرة، لا تدعوا نكبة ثانية، جديدة تحدث، وقال الرجل: لن ندعها تمر. خطاب يائس يا "حماس" ربما، ولكنه يأس مفعم بالكبرياء والتحدي، وبالغضب والعنفوان والبطولة. يأس غاضب يعكس غضب شعبه. وإن ما يحسب له، شجاعته رغم هذا اليأس، اختياره عدم الهروب من المعركة، ومواصلة الثبات على موقف شعبه، وثوابته الوطنية. ولهذا التحية يجب أن ترفع له إن كان يبدو كما لو أنه يتصدى للمستحيل.