يضرب رجال الأمن ما استطاعوا وكأن الضرب يرمي الى حماية أنفسهم. لا أعني الشرطة الخاصة في تل ابيب بل الشرطة الفلسطينية في رام الله. في السبت الماضي – بصورة موزونة وباعتدال اذا قيسا بالنظراء الاسرائيليين – ومرة اخرى في يوم الاحد، وكان ذلك هذه المرة بقسوة متزايدة، حاولت الشرطة الفلسطينية ان تمنع مجموعة صغيرة من المتظاهرين التقدم الى مقر الرئاسة الفخم (المقاطعة). والحال في رام الله كما هي في تل ابيب والنبي صالح ونيويورك هي ان عنف اجهزة الامن لا يكون أبدا نزوة شخصية لقادة ومرؤوسين، فالأمر يأتي من أعلى دائما وإن كان يصعب في اللحظة الاولى ان نفهم منطقه. أظهر اعضاء مجموعة "فلسطينيون من اجل الكرامة" مسلحين بشعار "كفى للتنسيق الأمني"، أظهروا شجاعة تستحق الذكر في مواجهة الهراوات المرفوعة وقبضات أيدي خريجي الشرطة واجهزة الاستخبارات الاردنية والروسية والمصرية والفرنسية والامريكية. ولولا ان ضُرب المتظاهرون وكان الانتباه اليهم أقل. فقد أصبح الجميع الآن يتحدثون عنهم لا المشجعون الذين يتحفظون من عدد من شعاراتهم المتحمسة ومن نعت "خائن" الذي ألصقوه بعدد من ضباط الشرطة. كان الشعار الغامض لكن اللاذع للمظاهرات "ويل من ذلك العار". ويعلم كل فلسطيني ما الذي يقصده المتظاهرون – وهم شباب أكثرهم من أبناء الأفاضل يتصل آباؤهم بمؤسسات السلطة – وهم يقولون انهم ضاقوا ذرعا بالذل، وهم يُعبرون عن أشواق كثيرين. ان السلطة الاسرائيلية مثل كل سلطة غير منتخبة تحتاج بطبيعتها الى إذلال رعاياها الفلسطينيين واحتقارهم. فالكلام المتكبر لمفتش الادارة المدنية وحركة اليد الحبيبة من ضابط الارتباط الاسرائيلي، واغلاق الطريق عن المزارع والبيوت في حين تُزهر البؤر الاستيطانية في المقابل: ان كل فاصلة من وجود السيطرة الاسرائيلية مُذلة. كان سبب المظاهرات مجرد الذل في استعداد محمود عباس ان يجري لقاءا فارغا آخر مع شاؤول موفاز هذه المرة الذي حاصر جنوده ياسر عرفات حينما كان رئيس هيئة الاركان، وتشمله منظمات حقوق انسان فلسطينية في قائمة مجرمي الحرب الذين ينبغي ان يُحاكموا محاكمة دولية بسبب المس بالمدنيين. لا يبدأ التعاون مع الاذلال ولا ينتهي عند زيارة موفاز. ما هو الاذلال إن لم يكن طلب سلام فياض من محافظ بنك اسرائيل ستانلي فيشر ان تُرتب اسرائيل قرضا يبلغ 100 مليون دولار من صندوق النقد الدولي كي لا تنهار السلطة الفلسطينية وكي تستطيع ان تدفع الرواتب الى الموظفين ومنهم ناس اجهزة الامن؟ وما هو الذل إن لم يكن كلام فياض المغطى اعلاميا على الضرر الاقتصادي العظيم الذي تُسببه سياسة الحصار الاسرائيلية والضم الفعلي للمنطقة (ج) ومنع التصدير من غزة في حين يتوسل الى فيشر سرا – وكأنه ما يزال زميله في صندوق النقد الدولي لا ممثلا للسلطة التي تُسبب الانهيار الاقتصادي الفلسطيني؟. هكذا يُكشف مرة اخرى عن الصفقة الدورية التي اسمها اوسلو: فالعالم يدفع الى السلطة كي تنفق على القطاع العام الفلسطيني وفيه رجال الامن الذين عملهم ان يقمعوا أبناء شعبهم والمحتجين على جعل السلطة الفلسطينية مقاولا ثانويا للجيش الاسرائيلي والادارة المدنية و"الشباك"، وينفذون سياسة الحكومة الاسرائيلية وهي تحطيم الطموح الى الاستقلال الفلسطيني. يكشف عدد من شعارات الشباب عن فجاجة سياسية. لكن رسالتهم أعمق من الشعارات. فالمتظاهرون يطلبون ان تكف السلطة على الأقل عن معاونة الاذلال. وهذا هو اسهامهم في المطلب المتزايد لبناء استراتيجية جديدة لمجابهة السلطة الاجنبية. وهذا هو الذي جعل الضاربين الذين ينفذون أمر السلطة الفلسطينية يضربونهم وكأنهم يدافعون عن حياتهم.