أحد المفاهيم السائدة في الجيش الاسرائيلي قبل حرب لبنان الثانية ومحظورة الاستخدام اليوم في اطار ما يسمى "اعادة بناء الجيش" هو "اعداد المفهوم" في الجيش الاسرائيلي استخدموه لوصف عملية يتم فيها، في غموض ميدان القتال الحالي، تصميم القائد لنفسه مفهوما حول ما الذي يقف امامه. ذات مرة كان هذا بسيطا: العدو يلبس بزات رسمية، هدفه كان احتلال الارض وتحقيق الحسم، وهدفنا كان أن نعمل له ذات الشيء. في العشرين سنة الاخيرة لم يعد شيء بسيطا، ولا حتى مسموح القول "اعداد المفهوم". ما يجري الان في الجبهة الجنوبية هو مثال ممتاز على هذا الغموض. عندما سألت هذا الاسبوع محافل عسكرية لماذا قررت حماس التي منذ سنة (منذ اطلاق الصاروخ على باص الاطفال) حرصت على عدم أخذ المسؤولية عن اعمال معادية ضد اسرائيل، أن تضع نفسها هذه المرة بشكل بارز بهذا القدر في جبهة التصعيد الحالية، فتلقيت بضعة اجوبة معقولة سنفصلها في السياق. ولكن الحقيقة هي أن منطق العدو، بل وحت هويته، نتعلمه اليوم في جبهة الجنوب بالاساس من السير الى الوراء. قدرات الاستخبارات العملياتية بقيت جيدة مثلما رأينا في تصفية الفلسطيني يوم الاربعاء، حين حددته المخابرات كمشارك في العملية في بداية الاسبوع. بالفهم الواسع لمن يعمل ولماذا يعمل – ومتى ولماذا سيعمل في المرة التالية – الوضع اكثر غموضا بكثير. هذا هو العالم الامني الجديد وهو سيصبح اكثر تعقيدا فيما بعقد. اسرائيل تتصدى منذ أربعين سنة مع منطقة سائبة في الحدود اللبنانية، حين يكون أرباب البيت المحميين (م.ت.ف، حزب الله) يصطدمون بها في المنطقة التي هي ظاهرا تحت سيادة دولة، ولكن عمليا ليست تحت سيادة أحد. الحدود المصرية، حدود سلام مع دولة تحافظ بحرص على الاتفاق معنا ولكن قدرتها على فرض النظام في شبه جزيرة سيناء تتضاءل، تفرض تحديا اكثر اشكالية بكثير. الجيش الاسرائيلي يتصدى لكل هذا بأدوات، منظومات وبالاساس بتفكير جيش، هو بطبيعته طريقة اعداد المفهوم الدارجة لديه هي بالاسود – الابيض وبالقوى المادية. في ساعات ما بعد العملية دفع الى المنطقة بدبابات وكان هناك من تكبد عناء نقل صورها الى وسائل الاعلام لبث قوة وردع، ضرورتين بحد ذاتهما. كان واضحا بان ليس لها هدفا تطلق النار عليه، لم يكن واضحا على الاطلاق على من يمكن اطلاق النار حتى لو رأته. الدبابة هي أداة توجد لنا؛ والسؤال الكبير هو كيف نجعلها ذات صلة بالعالم الجديد، غير الخطوة السليمة بحد ذاتها التي توضع فيها صورتها المهددة في مواقع الانترنت. مسؤولية سيادة في غزة في جولة العنف قبل نحو سنة، أعلن رئيس الذراع العسكري لحماس احمد الجعبري بان قواته ستقود القتال. عمليا حماس وقفت جانبا حين قامت الجهاد الاسلامي (بالهام وتمويل من ايران) الى جانب لجان المقاومة بالصدام مع الجيش الاسرائيلي. هذه المرة قفزت حماس الى المقدمة، لعدة أسباب ظاهرة: أساسها كان المس بمسؤول حماس، كأحد أعمال الرد على العملية في بداية الاسبوع. هذه السياسة ليست جديدة: اسرائيل قررت منذ زمن بعيد بانها ترى في حماس صاحب السيادة المسؤول عن أرضه، وسترد على رجاله حتى عندما يكون واضحا أن ليسوا هم من اطلقوا النار على أراضينا. هذه سياسة ضرورية لدولة، وبالتأكيد كدرس مما حصل في حرب لبنان الثانية: فهي لا يمكنها ولا تريد أن تسمح لمن يسيطر في الجانب الاخر، سواء كانت تعترف رسميا بحكمه أم لا، بالتملص من المسؤولية. من جهة اخرى، تأخذ اسرائيل بالحسبان بانه سيكون ثمن لجر حماس الى دائرة العنف، وذلك لان القوة التي لديها أكبر من تلك التي لدى الجهاد أو المنظمات الصغيرة. رغم ذلك، أحيانا ينشأ الانطباع بان اسرائيل تريد لحماس أن تتدخل. حملة رصاص مصبوب، التي سوقت كنجاح عسكري مثير للدوار، تركت القيادة الامنية الاسرائيلية بمشاعر مختلطة. ومع أنها استغرقت نحو ثلاثة أسابيع وعرضت في اسرائيل كشبه حرب، الا انها لم تغير من الاساس الوضع في الجنوب، بل ولم تحقق هدوء بعيد المدى، مثل ذاك السائد في الشمال. يحتمل الا يكون ممكنا تحقيق كل هذا دون احتلال غزة، الامر الذي لم يرغب فيه احد حقا؛ ولكن مرة اخرى، مثلما في حرب لبنان الثانية، الخطاب المبالغ فيه للقادة واستمرار القتال الى ما يتجاوز حافة جدواه خلقا مطلبا جماهيريا لانجاز، الوضع على الارض ببساطة لا يمكن أن يوفره. كل جولة من المواجهة مع حماس، التي من الواضح انها لا تريد رصاص مصبوب 2، ولا حتى شيئا اصغر منه بكثير، تسمح لاسرائيل بنوع من التعديل الصغير. منظومة "قبة حديدية" وان لم تكن كاملة الاغلاق، تحسن الفرصة بانهائها بضرر بالحد الادنى في الارواح في طرفنا، وبالمقابل المس بالطرف الاخر بشكل ناجع. في ختام هذه الجولات يكون احساس بان تكتيكيا حقق الجيش الاسرائيلي انجازات وإن كان لا يمكن أن يكون معنى لترتيب يأتي بعد العنف – إذ لا يوجد ترتيب كهذا. ولكن في دولة تتعاطى مع قدرات جيشها بقلق قدسي، وتهرع بشكل غير متوازن حين يخيل لها بانه لا يتغلب على اعدائه في كل مواجهة، مهما كانت صغيرة، تبدو حتى هذه الانتصارات الصغيرة ضرورية. وبالتالي، ضرب الجيش الاسرائيلي مسؤول حماس – وهذه المرة المنظمة المسيطرة في غزة قفزت الى المقدمة. اسباب ذلك على ما يبدو أكثر تعقيدا. تقارير من غزة تبين أن حماس توجد في حالة ضغط: الحياة في القطاع لم تصبح أسهل في السنوات الخمسة من حكمها. الجهاد الاسلامي، لجان المقاومة وما يسمى عندنا بتعابير ضخمة "الجهاد العالمي" تعرض حماس كمنظمة سمنت وترهلت، هجرت طريق المقاومة وعمليا تحاول أن تعيش الى جانب اسرائيل اكثر مما تحاول القتل بها. هذه الضغوط حاولت حماس ازالتها بعض الشيء في الجولة الحالية. الطرفان يديران القتال مثل قنفدين: بحذر شديد. كل واحد يقول لنفسه ان الطرف الاخر يرد فقط أن ينهي هذا بسلام ولا احد يرى انجازا حقيقيا يمكن تحقيقه. كل واحد يعرف بان ضربة بالصدفة لمقذوفة صاروخية أو لصاروخ من طائرة يمكن أن تشعل نارا كبيرة: في معركة الصورة هذه المجتمع الذي في الخلفية، الذي يحاول الخائضون للقتال تلبية ارادته أكثر مما يؤمنون بانهم يمكنهم أن يحققوا له حسما، لن يوافق على التوقف وسيطالب بالتصعيد في حالة سقوط مقذوفة صاروخية على روضة اطفال او مس صاروخ بالمدنيين. الرسائل التي ترسل الى وسائل الاعلام مهدئة؛ الاقوال لمصر – الوسيط المنشغل بمشاكله الداخلية وليس لديه حقا الوقت لنا – هي "هيا نجد السبيل للانتهاء من هذا". باستثناء انه في هذه الاثناء الجنوب يتلقى النار، وسكانه الذين يعانون لا يفهمون – وعن حق، من ناحيتهم، كيف أن كل هذه القوة غير قادرة على ان تحقق لهم حقا أساسيا، يعتبر شمالي اسدود طبيعيا وبسيطا. السوريون على الجدران قطاع غزة هو القسم الاوضح في القصة. جنوبه تقع حدود برية طويلة، توشك على أن تضع في السنوات القادمة أمام الجيش الاسرائيلي تحديات صعبة. جدار الحدود، حين سيستكمل، سيكون عائقا ناجعا في وجه مهاجري العمل والمهربين. ولكن بحد ذاته، لن يكون فيه ما يوقف خلية ارهابية مصممة ومسلحة، وبالتأكيد لن يمنع النار من الاراضي المصرية على اسرائيل. في الجانب الاخر تقع أرض سائبة، بطبيعتها المادية، هوية سكانها وبالاساس رب بيتها تعطل جزءا من الوسائل الاستخبارية التي لاسرائيل في جبهات اخرى. ليس كل ما هو مسموح في لبنان مسموح في مصر، وبالتأكيد ليس التوغلات العلنية الى الاراضي التي في السيادة المصرية. المنطقة مأهولة بحجم ضئيل، وبعشائر بدوية يصعب على نحو خاص جمع المعلومات الاستخبارية من داخلها. في الجيش الاسرائيلي اشاروا هذا الاسبوع الى التطرف الديني الذي طرأ في أوساط جزء من البدو في سيناء. ولكن منفذي العملية هذا الاسبوع، اذا كنا سنصدق الفيلم الذي نشر، جاءوا من مصر ومن السعودية، واستعانوا بمعاونين محليين دوافعهم من غير الضروري أن تكون ايديولوجية: المال هو شيء ملموس في اوساط السكان من الذين يرتزقون بعدم احترام من تهريب الاشخاص والبضائع. الجدار، الذي يفترض أن يقلص جدا تيار المتسللين الى اسرائيل سيجعل صعبا جدا مصدر الرزق هذا. يحتمل بالتأكيد ان حتى بعد استكماله، ستجد قوات الجيش الاسرائيلي نفسها في صراع مستمر على استكماله، حيال بدو سيسعون الى احداث ثغرات فيه. هذا صراع القوة العسكرية، سواء كانت بالدبابات او حتى بوسائل متطورة، تتحدث فيه قليلا جدا. القيود شديدة، المعنى السياسي لخطأ ما يمكن ان يكون خطيرا. وبالذات وسائل قديمة ظاهرا، مثل الاستخبارات الميدانية لقوات يقظة، كفيلة بان تكون اكثر نجاعة من القوة التكنولوجية التي تخدم اسرائيل جيدا في جبهات اخرى. جهاز الامن يعرض التغييرات في العالم العربي، بما فيها صعود الاخوان المسلمين في مصر، وكدليل على الحاجة للحفاظ على المنظومات الهجومية للجيش الاسرائيلي، إذ توجد امكانية أن تصبح الحرب المتماثلة – التقليدية مرة اخرى امكانية واقعية. ولكن يخيل أن سيناريو اكثر معقولة هو انتشار نموذج الحدود المصرية الحالية الى حدود اخرى ايضا. المظاهرة في يوم النكبة في العام الماضي، والتي تحولت الى هجوم على الجدار الحدودي مع سوريا تعطي لذلك تلميحا اوليا. هناك أيضا، الاستعداد في المنطقة والاستخبارات الميدانية كانت ذات معنى اكبر بكثير من التحليل المسبق الذي اعتمد على وسائل اكثر تطورا بكثير. اذا كانت سوريا بعد الاسد ستصبح، مثلما يتوقع الكثيرون، دولة مشكوك أنها تؤدي دورها وممزقة من الداخل، معقول أن يسعى جزء من الضغط الى الخروج عبر الحدود مع اسرائيل، الحدود الاكثر هدوء لدينا منذ 1975. قلقون على الحدود كل هذا يرتبط حتى بالموضوع الامني المدني الاكثر سخونة، والذي سيوفر عناوين رئيسة كبرى ابتداء من الاسبوع القادم. توصيات لجنة بلاسنر، التي جاءت لتخلق بديلا لقانون طل. اذا ما تضمنت وظائف الجيش الاسرائيلي من الان فصاعدا جزءا اكبر من سلاح الوضع، الذي يحافظ على الحدود الطويلة في وجه المتسللين، المخربين والاعداد الذين هم هكذا وكذلك، فان احتياجاته من القوى البشرية كفيلة بان تتغير. ذات مرة سألت اليعيزر شتيرن، رئيس شعبة القوى البشرية السابق، ماذا كان الجيش سيفعل لو الغيت دفعة واحدة تسوية "توراته ايمانه"، وكمية كبيرة من الاصوليين تجندت بالفعل. كنت سأقيم كتائب أمن جاري تحافظ على الحدود، قال شتيرن بنصف فم – وهو لا يؤمن بان مثل هذا الامر سيحصل بالفعل، وعلى علم جيد باشكاليته في ترتيبات الحياة للجيش – وأقلص الاستخدام للاحتياط. يحتمل بالتأكيد، أن في السنوات القادمة سيحتاج الجيش الاسرائيلي الى مزيد من جنود الامن الجاري كهؤلاء. التفوق التكنولوجي، قدرة حركة القوات والقوة الجوية، التي هي أساس مفاهيم القتال الحالية في الجيش، كفيلة الا تكون مناسبة للوضع في الحدود. من أجل هذا يحتاج الجيش، الذي لا يزال يتصدى لنتائج تغير التهديدات والثورة التكنولوجية، الى اعادة اعداد المفهوم لعالمه من جديد. المنظومة المدنية التي تلفه تحتاج هي ايضا الى اعادة صوغ العالم الذي تحيا فيه، مطالبها من الجيش وما يتعين عليها أن توفره له. هذه مهمة كبيرة تحتاج الى التخطيط، تنسيق التوقعات بين القيادة السياسية والعسكرية والتنفيذ الدقيق للقرارات. من يتصفح التقريرين الاخيرين لمراقب الدولة من حقه أن يشكك في أن يتم هذا. فبعد ما يقوله المراقب لنا عن الطريقة التي لا تنفذ فيها القرارات، عن طبيعة واداء قيادة الامن القومي، او عن الاداء المخلول سلطة الطوارىء الوطنية يجب أن يكون جد متفائل كي يؤمن بان الواقع الجديد على الحدود سيجلب معه أيضا التغيير اللازم.