المقال الذي نشره دافيد غروسمان في "هآرتس" ("لماذا من مات"، 24/2) يقض المضاجع ويقلب الامعاء. لقد أثبت غروسمان مرة اخرة شجاعته العامة وحساسيته الاخلاقية حين لم يخشى اطلاق صرخة ضحايا الاحتلال وأن يقذف في وجوهنا حقيقة وجود مظالم لا يطيقها العقل وهي ترتكب باسمنا ونيابة عنا. المصير المر لعمر ابو جريبان، الذي اصيب في حادثة طرق وحبس، وبعد ذلك القي به جريحا على قارعة الطريق على أيدي أفراد من شرطة رحوفوت، حيث ترك يموت، وهو يصرخ الى السماء. وقد أنقذ غروسمان هذه القصة، التي هي واحدة من بين قصص كثيرة، من النسيان وعدم الاكتراث ووضعها أمامنا في الصفحة الاولى في "هآرتس". غروسمان كتب عن فعلة غير قانونية على نحو ظاهر، بل انه يشير الى أن سلطات القانون تعمل في هذا الشأن وان كان بتكاسل. ولكن غروسمان لا يستخلص الاستنتاج اللازم من ادعائه هو نفسه: فبينما يتهم الموقف العام المرتاح بالنسبة للاحتلال كمسؤول عن الحالة الخاصة، ظاهرا، لخرق القانون من جانب الفاعلين، فانه لا يضفي مكانة غير قانونية على وضع الامور الذي اتاح هذا التسيب: لا يستخلص الاستنتاج اللازم في عدم شرعية الاحتلال بأسره. واضح للعيان، بل ان غروسمان يشير الى ذلك صراحة أن مقاله استمد الالهام من قصة "الاسير" بقلم س. يزهار، الذي يصف ترددات جندي اسرائيلي في حرب الانبعاث، الذي يتردد في اطلاق سراح أسير عربي. لغة غروسمان في المقال هي حقا لغة قصة يزهار. لغة تداعيات روح، ترددات وكذا أقوال لاذعة. ولكن في شيء واحد مبدئي يختلف مقال غروسمان عن قصة يزهار. فيزهار يطرح مسألة المسؤولية الشخصية في ضوء وضع من الامور هو قانوني على نحو ظاهر بالذات. وذلك لانه لدى يزهار يدور الحديث عن أسير حرب، حتى وان كان أسره عديم السبب العسكري المقنع، الا أنه فعل قانوني بموجب قوانين الجيش في أوضاع الحرب. وعليه، مقابل غروسمان، الذي يصرخ ضد خرق القانون ويطالب بالحفاظ على تنفيذه، فان المطلب الاخلاقي الذي يطرحه يزهار من بطله يترجم الى مطلب لخرق القانون. صحيح أنه في نهاية المطاق يتملص بطل يزهار من المسؤولية، ولكن أخذ المسؤولية المطلوبة منه يخرج عن نطاق الحكم الاخلاقي الكوني ويتجه الى مجال القانون الذي تتحداه قصة يزهار وتتحدى الفعل القانوني. مقابل يزهار يقلص غروسمان مسألة المسؤولية بالتحذير من خرق القانون النابع من الانغلاق الاخلاقي ومن الكبت. غير أن غروسمان يؤكد بذلك عمليا شرعية الاحتلال. وعليه فانه حتى التعميم عن انعدام احساس الاسرائيليين الذي يستخلصه غروسمان من هذا الحدث الفظيع لا يربطه بعدم شرعية الاحتلال وبكونه كله، من حيث الاساس مثابة جريمة حرب. كما أن لغة تعابير الاحتلال يقبلها غروسمان ببساطة ويسمي ابو جريبان "ماكث غير قانوني" – فيؤكد بذلك شرعية الاحتلال. وهذا على ما يبدو هو السبب في أن اخذ المسؤولية الذي يطالب به غروسمان من العموم الاسرائيلي يقلصه الى انغلاق اخلاقي خلقه الاحتلال دون أن يتناول انعدام الشرعية التي أتاحت ذلك: "ولكن عندها افكر – فان من يلقي بشعب كامل على قارعة الطريق منذ 45 سنة، ويدير له ظهر المجن، وينجح في أن يبني لنفسه حياة لا بأس بها على الاطلاق، في ظل كبت متطور على نحو عجيب، عبقري، لمسؤوليته عن الوضع واضافة الى ذلك أيضا ينجح في أن يتجاهل معنى التشويه والجنون الذي خلقه على مدى هذه السنين في اطار منظومات حياته هو نفسه – فلماذا يتأثر بعمر واحد كهذا؟". من مقال غروسمان يمكن الاستنتاج، ضد نيته على ما يبدو، في أنه كان يمكن للامر ان يكون ظاهرا بشكل مختلف. ظاهرا كان يمكن اقامة احتلال في ظل الحفاظ على القانون، أي بطريقة متنورة وديمقراطية، دون القاء شعب كامل على قارعة الطريق. وفضلا عن ذلك، فانه يفهم من المقال بانه اذا ما وعندما نلغي الاحتلال المفسد، فسيكون بوسعنا مواصلة الوجود المتنور لدولة اسرائيل الصغيرة والعادلة التي قبل 67. غير أنه في هذا أيضا يختلف المقال عن قصة يزهار الذي لم يخشى من أن يتحدى ايضا شرعية حرب 1948. صحيح أنه في نهاية المطاف تملصت أجوبة يزهار من المسؤولية تجاه القانون. يزهار عضو الكنيست ايضا صوت ضد الغاء الحكم العسكري. ولكن الاسئلة التي طرحها هي اسئلة بعيدة الاثر باضعاف تلك التي طرحها غروسمان الذي احتجاجه الاخلاقي، الهام واللاذع، على الافعال الرهيبة التي تنبع من عدم تنفيذ القانون يعيد في نهاية المطاف تأكيد شرعية غير المشروع بشدة: عدم شرعية الاحتلال بأسره.