تشير المعطيات الأولية للمشهد العربي على الصعيد السياسي إلى تحولات كبيرة بعد إنجاز الثورات التغييرية والإصلاحية العربية لمهامها، فقد أجبرت الحكومات والأنظمة على اتخاذ إجراءات وتدابير مهمة لتحقيق الإصلاح والتغيير السلمي، ورغم عدم تكرار النموذج التونسي والمصري إلى الآن إلا أن المسار العام للثورات الشعبية في ليبيا واليمن وسوريا أصبح رافعة مهمة لعملية التغيير في بنية النظام وتوجهاته الإصلاحية لتشكيل أنظمة تعددية ديمقراطية تحقق الحرية والعدل والمساواة للمواطنين، وتظهر القراءة المتفحصة أن التدخل الخارجي، خاصة الغربي للثورات في كل من اليمن وليبيا تسبب بتعطيل مسارها ومسار الإصلاح فيها، وتبدي دول عربية أخرى تعاوناً كبيراً مع الحكومات القائمة في هذا المضمار، ليس حباً في الحكام، ولكن خوفاً من انتقال الرياح إلى أراضيها بعد أن تنجز هذه الثورات مهمتها. ويمكن تقسيم الثورات في الوطن العربي إلى ثلاثة أقسام: · الثورات السلمية السريعة والتي مثلت النموذج العربي الواعد. · الثورات السلمية الإصلاحية، والتي واجهتها الحكومات بعنف، واستخدمت الخيار الأمني إلى أقصى درجة في التعامل معها، ما تسبب بتأخير الإصلاح والتغيير كما أسالت دماء الشعوب بلا مبرر، وتنقسم إلى نوعين: - الثورات التي انطلقت إصلاحية سلمية عبر حراك شعبي متعدد المستويات، والتي واجهتها الحكومات بعنف ما هيأ للتدخل الخارجي الدولي وبدعم من جامعة الدول العربية. - الثورات والاحتجاجات التي اندلعت سلمية وسقفها الحريات العامة، واستخدمت الحكومات ضدها القوة المفرطة، مما رفع سقف المطلبة بإسقاط النظام، وأدخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار. · الحركات الإصلاحية والاحتجاجية المطالبة بالحرية والديمقراطية والتي واجهتها الحكومات بإجراءات إصلاحية، أو بتشكيل لجان للحوار، فالخيار الأمني فيها محدود فيها، ولا تزال الشعوب فيها تتطلع لمزيد من الإصلاحات والتطويرات الديمقراطية. يمكن قراءة المشهد العربي نهاية العام 2011 أنظمة ذات ثلاث مجموعات من الدول والحكومات، المجموعة الأولى: حكومات الثورات التغييرية والإصلاحية والتي تعبر إلى حد كبير عن مطالب وطموحات الشعب، والمجموعة الثانية: حكومات الإصلاح المحدود والتي تمكنت من احتواء حركة الاحتجاج بإجراءات إصلاحية محدودة، والمجموعة الثالثة: حكومات الأمر الواقع مع تعديلات شكلية طفيفة لم تزل فرصة الحراك والثورة الشعبية فيها قائمة. إن أبرز التحديات التي تواجه النظام العربي ومشهده السياسي في نهاية العام، تتمثل بالقدرة على صياغة علاقات عربية تضامنية وتكاملية بين المجموعات الثلاث بعيداً عن التدخل الخارجي، فالقدرة على صياغة سياسة عربية خارجية منسقة في مواجهة التحديات الخارجية الإقليمية والدولية، ثم إمكانية الشروع بتفعيل برامج التكامل الاقتصادي العربي، والمساهمة المتبادلة في حل مشاكل الدول العربية على قاعدة تحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي، وتشجيع التوجه نحو جو وبيئة ديمقراطية عربية، وإعادة النظر بالتعامل مع المشروع الصهيوني والصراع العربي الإسرائيلي وعملية السلام وفق قواعد عربية نصف ثورية، لكنها متقدمة على الوضع السابق، والقدرة على التعاون في تطوير وبناء اقتصاد المجتمعات العربية وتخفيف القبضة الأمنية عن الشعوب والحياة السياسية والمدنية، والقدرة على فتح المجال لمزيد من حركة المال والعمالة والخبرات بين الدول العربية على قاعدة الاطمئنان إلى المستقبل، والقدرة على رسم دور عربي فاعل على المستوى الدولي، والقدرة على تجاوز مخاطر انتشار الفوضى وفشل بعض الدول العربية ودخولها في مسارات التفتت والحروب الأهلية، ويمكن القول أن تحدي إدارة المرحلة الانتقالية يمثل قمة التحديات بسبب انفراط قواعد الحياة العامة ونظم الأمن السابقة، وحاجتها لإعادة البناء على عجل بوصفها الضامن لانتقال سلمي للسلطة نحو مرحلة الديمقراطية والحرية في البلاد. ويتوقع أن تتمركز أولوية النظام العربي في نهاية العام 2011 على ثلاثة مسارات؛ الأول: التطوير والتحديث الحضاري النهضوي والاقتصادي العام، والثاني: التوصل إلى صيغ لأنظمة حكم تحظى بشرعية شعبية بعيداً عن التدخل الأمني، والثالث: زيادة فرص التضامن العربي والتكامل الاقتصادي والانفتاح الحدودي ولعب دور دولي منظم ومنسق أكثر تاثيراً خاصة إزاء قضايا العراق وفلسطين. مدير مركزدراسات الشرق الأوسط