كان من الممكن توقع قيام إسرائيل بضربات مركّزة، ضد نشطاء المقاومة أو استهداف بعض ما تسميه إسرائيل "بنك الأهداف"، إثر النتائج التي ترتبت على عقد صفقة تبادل الأسرى، إلاّ أنه لم يكن من المتوقع أن يتم ذلك بعد أيام قليلة من تنفيذ هذه الصفقة، إذ إن ذلك يفضح هدف المؤسسة السياسية في إسرائيل من وراء هذا التصعيد، وهو بوضوح لا يقبل الشك، محاولة من حكومة نتنياهو للانتقام والثأر، أكثر منها رداً على ضربات صاروخية فلسطينية أو تهديداً لأمن وسلامة إسرائيل، وهكذا استهدفت القوات الإسرائيلية معسكراً للتدريب، غير مناسب لإطلاق الصواريخ، وقتلت عدداً من النشطاء المقاومين التابعين "للجهاد الإسلامي" وهي تدرك تماماً أن المقاومة وبدون أدنى شك لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا العدوان، وهذا ما حدث فعلاً، الأمر الذي أدى إلى اتساع نطاق المواجهات، وسقوط الشهداء، وإطلاق الصواريخ التي نجحت، رغم عددها الكبير في قتل مستوطن إسرائيلي واحد. والأكثر دلالة على نوايا إسرائيل التصعيدية، أن نجاح الوساطة المصرية، في عقد اتفاق لوقف إطلاق النار، لم يصمد طويلاً، عندما عادت القوات الإسرائيلية، وبلا مبرر، لخرق هذا الاتفاق، وقامت بعملية اغتيال ذهب ضحيتها شهيدان، التبرير الإسرائيلي، أن الاتفاق تم، عبر الوساطة المصرية، مع "الجهاد الإسلامي" ما منح فصائل صغيرة أخرى ـ حسب صحيفة "هآرتس"، كالجبهة الديمقراطية، كي تطلق المزيد من الصواريخ، وتصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بأن ليس هناك من تهدئة، وأن الرد الإسرائيلي سيستمر، مؤشر على أن إسرائيل، من وراء هذا التصعيد المتعمد، إنما هي التي وقتت بدء "العملية المتدحرجة" التي لا تزال مستمرة حتى الآن وإن بمستويات مختلفة. إلاّ أن أهداف التصعيد الإسرائيلي الجاري الآن، لا يرتبط فقط بالانتقام من نتائج اتفاقية تبادل الأسرى التي اعتبرها بعض الإسرائيليين مذلة للدولة العبرية، ذلك أن جملة من الأسباب اجتمعت كي تجعل من هذا التصعيد استجابة للعديد من الاستهدافات الإسرائيلية، إذ من خلال هذا التصعيد، يمكن للجيش الإسرائيلي رصد المزيد من مواقع المقاومة، والتعرف على الأسلحة الجديدة التي باتت بيد المقاومة وتقنياتها ومداها، إلاّ أن ذلك يتطلب تصعيداً متزايداً، ذلك أن المقاومة، التي استثمرت هذا الهدف الإسرائيلي، لن تكشف عن أسلحتها الأهم لمجرد تصعيد تقليدي، ما قد يؤدي إلى أن تقوم إسرائيل بضربات نوعية مركزة، يكون نتيجتها، رد فعل على مستوى يكشف عن الأسلحة التي تقول إسرائيل إنها متطورة، حصلت عليها فصائل المقاومة عبر الأنفاق، من إيران وليبيا مؤخراً. كما أن هذا التصعيد، يعيد من وجهة نظر إسرائيلية، لقوة الردع المتآكلة قدراتها، إذ إن العديد من تصريحات المستويات المختلفة في إسرائيل، تشير إلى أن الدولة العبرية، ومنذ حربها على لبنان وغزة، وامتثال حكومة نتنياهو لمعظم اشتراطات صفقة تبادل الأسرى تشير إلى أن قوة الردع الإسرائيلية، التي كانت حاسمة وغير قابلة للنقاش، باتت محل شك، حكومة نتنياهو، ومن خلال هذا التصعيد، تريد أن تشير إلى أن إسرائيل لا تزال تمتلك كل مقدرات القوة الردعية الكافية لحسم أي معركة، مع أي طرف، ولعل عدم امتثال الجيش الإسرائيلي لاتفاقيات التهدئة خلال الأيام الأخيرة، مجرد إشارة إلى أن إسرائيل وحدها هي التي تقرر متى يتوقف القتال، بصرف النظر عن جهود الوساطة المصرية، وان الجانب الآخر، هو الذي يستجدي وقف إطلاق النار، وهذا من شأنه إعادة الشعور بالثقة بالجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يستدعي من المقاومة، عدم الإقدام على أي خطوة غير مدروسة بحنكة وعدم الانجرار إلى ملعب الجيش الإسرائيلي، وعدم اللجوء إلى ردود الفعل والانجرار وراء شعارات تمنح قوات الاحتلال أفضلية في اختيار شكل المعركة، زمانها ومكانها. مصلحة حكومة نتنياهو، واضحة في تصدير أزمتها عبر التصعيد العسكري في قطاع غزة، فثورة الخيام، لا تزال مستمرة، والحلول الحكومية لم تقنع المتظاهرين بفض نشاطهم وتجمعاتهم، لكن تصعيدا عسكريا من ثماره المتوقعة وقف هذا النشاط، كي تقف إسرائيل، كلها خلف حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، إن من شأن تصدير هذه الأزمات من خلال التصعيد العسكري في قطاع غزة يلجم الحركة الاجتماعية ويؤجل الاستحقاقات والمطالبات إلى أجل بعيد، بحيث يمكن لحكومة نتنياهو التهرب من الاستجابة لمطالب الحركة الاجتماعية النشطة. إلاّ أن اختبار قدرة "الوسيط المصري" على ضبط الوضع في قطاع غزة، من الناحية الأمنية تجاه إسرائيل، يشكل هدفاً لا يمكن التغاضي عنه إزاء قراءة أسباب التصعيد الإسرائيلي، من خلال الإجابة عن السؤال حول مدى قدرة مصر على الضغط على الفصائل الفلسطينية الفاعلة، باتجاه الالتزام بأي تهدئة محتملة في المستقبل، هو هدف لا يمكن الوثوق به إلا من خلال التجربة العملية، وهذا ما يحدث الآن، تدخلت القاهرة على الفور من أجل التوصل إلى توافقات تؤدي إلى وقف إطلاق النار، التزمت بها فصائل المقاومة، لم تلتزم بها حكومة نتنياهو، فهل بإمكان القاهرة، رغم ذلك، أن تمتحن قدرتها، على استمرار الضغط على الفصائل، من جديد، للالتزام بتهدئة جديدة، بعد أن تقوم إسرائيل بعدة ضربات مركزة، لصالح التأثير على الرأي العام الإسرائيلي وبعدما يكون عدد أكبر من الشهداء الفلسطينيين قد سقطوا نتيجة هذا التصعيد! وارتباطاً بهذا الهدف، فإن التصعيد الإسرائيلي الجاري الآن، والذي استثنى حركة "حماس"، واستهدف بشكل أساسي حركة الجهاد الإسلامي، يأخذ بعين الاعتبار، إيجاد شروخ في وحدة المقاومة ـ كما تعتقد إسرائيل ـ ويضع حركة "حماس"، باعتبارها القوة المهيمنة في قطاع غزة أمام اختبارات صعبة وخيارات أكثر صعوبة، إلاّ أن التزام حركة الجهاد بوقف إطلاق النار، أفشل هذا الهدف الإسرائيلي، التزاماً بمصلحة وطنية ودون الانجرار وراء مواقف فئوية فصائلية. ومع أن القوات الإسرائيلية قد زادت من حشودها العسكرية على تخوم قطاع غزة، إيذاناً باحتمالات حرب واسعة، إلاّ أن المرجح أن إسرائيل ليست في موقف يمكنها من إعلان حرب واسعة النطاق، فما كان ممكناً قبل "الربيع العربي"، لم يعد ممكناً بعده، وتخشى إسرائيل، هذه المرة، ليس من الجيوش العربية، ولكن من الحراك الشعبي، خاصة في جمهورية مصر العربية، وقد جربت إسرائيل "بروفة" ما جرى على حدودها مع لبنان وسورية قبل عدة أشهر، وهو نموذج أدى لما يمكن أن يحدث على نطاق واسع، وليس بالضرورة من خلال حشود على الحدود، بل إن الحراك الشعبي داخل الدول المجاورة من شأنه أن يشكل خطراً عليها، وليس فقط على الأنظمة، فالموقف بالغ الحساسية، إذا أخذنا بالاعتبار ما يجري في سورية، والحصار السياسي الذي فرض على إسرائيل على المستوى الدولي خلال الأشهر الأخيرة، ناهيك عن علاقاتها الأكثر توتراً مع تركياً، وما تسميه إسرائيل بالتهديد النووي الإيراني. هذا لا يمنع بطبيعة الحال، إقدام إسرائيل على مغامرة من خلال حرب واسعة، إلاّ أن ذلك يتطلب توفر جملة من العوامل، وإذا ما توفرت هذه العوامل، فإن إسرائيل مقدمة على ما تعتبره حسماً نهائياً، لن يكون كذلك في مطلق الأحوال، وحروبها السابقة، هي أكبر دليل على أنها أعجز من أن تدرك مثل هذا الحسم! Hanihabib272@hotmail.com