عن واقعة الجبل..عبير بشير

الثلاثاء 09 يوليو 2019 02:45 م / بتوقيت القدس +2GMT
عن واقعة الجبل..عبير بشير



شكّلت "واقعة قبر شمون" في جبل لبنان، الموروث الثقافي العام الذي خلّفته مدارس الميليشيات في حرب 1975، التي انتهت عسكرياً عام 1990. لكنها لا تزال محتدمة سياسياً وطائفياً ومذهبياً، وقد جعلت من الدولة المركزية الجامعة مجموعة دويلات متنازعة، ولكل دولة مذهبها الخاص وحدودها الخاصة.
لقد تبادل بطلا "الواقعة"، وليد جنبلاط ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، اختبار قوة على أرض الجبل كجزء لا يتجزأ من مرحلة انتخابات 2018 والقانون النسبي وما نجم عنه، والذي مكّن التيار للمرة الأولى منذ العام 2005 من التغلغل الانتخابي والسياسي في الجبل وقضاء الشوف، وانتزاع أربعة مقاعد نيابية.
ومنذ انتخابات 2018، يتعرض وليد جنبلاط إلى حملة شرسة، لتطويقه ومحاصرته داخل بيئته الدرزية، خصوصاً أنه لا أحد يسعفه من حلفائه في معركته السياسية، ولكن هذه المرة انتقل الهجوم إلى قلب الجبل، وكان بمثابة انقلاب على مصالحة الجبل التاريخية. ما اضطر جنبلاط إلى المواجهة وإعادة رسم الخطوط التي لا يمكن تجاوزها.
لذلك يعتبر المراقبون، أن ما جرى في "الجبل"، أثناء زيارة وزير الخارجية جبران باسيل، أخطر بكثير، من مجرد زيارة استفزازية.
إذ إن قراراً كان اتخذ بتصفية جنبلاط سياسياً، وبدأ تنفيذه، باللعب في الحساسية الدرزية، ثم تشتيت وضع جنبلاط لبنانياً ومنعه من التأثير في بيئات أخرى. لذا يرى جنبلاط أن ما فعله في الجبل هو للدفاع عن النفس، أولاً في بيئته التي تتعرض لهجوم، ثم في موقعه السياسي العام، وهو يدرك اليوم أنه في وضع حساس بعد الحصار الذي تعرض له بعد تشكيل الحكومة اللبنانية، ومحاولة سحب قراره في الجبل من قوى أخرى.
وجاءت زيارة باسيل إلى الجبل في لحظة مفصلية انطلقت من مناخ التطويق، لذا لجأ مناصرو جنبلاط إلى قطع الطرق رفضاً للتحدي والاستفزاز، وأدى الأمر إلى سقوط قتيلين من مرافقي الوزير صالح الغريب المحسوب على منافسه الدرزي طلال أرسلان، و"حزب الله"، وجبران باسيل.
ويتوقف المراقبون، أمام طريقة تعامل باسيل، ليس مع جنبلاط فحسب، بل أيضاً مع الحكومة وكل القوى الأخرى، بمن فيهم ركن التسوية الآخر أي الرئيس سعد الحريري. وقد بعث جبران باسيل برسائل أنه مقرر في الحكومة ويستطيع تعطيلها، خصوصاً أنه يمتلك الثلث المعطل، مشترطاً إحالة حادثة "قبر شمون" على المجلس العدلي، ما يعني إدانة جنبلاط، وإدخاله قفص الاتهام. 
وبعد حادثة موكب صالح الغريب، علّق نجل جنبلاط النائب تيمور، قائلاً: "إن ما جرى في الجبل يؤكد أن الإخلال بالتوازنات لعبة خطيرة". لم يقل جنبلاط الابن إن الإخلال يؤدي إلى الحرب، لطَّفها بعبارة "لعبة خطيرة". أي إننا أمام معادلة جديدة: إخلال بالتوازنات يؤدي إلى لعبة خطيرة، وهذا درس من دروس لبنان الكبير الذي يحتفل العام المقبل بمئوية إنشائه، وهذا درس خصوصاً بين الدروز والموارنة.
ثم إننا أمام إعادة إنتاج المحميات الطائفية في لبنان، فرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لا يرضى إلا أن يكون أميراً أو سيداً لـ"محمية" الشوف، بمسيحييها ودروزها وحتى سنتها، ويعتبر حضوره في شحيم جزءاً من امتداد العروبة. ورئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، الصهر، الصاعد وعاشق التجول والمواكب والزجاج الداكن والأعداد الضخمة من المرافقين والتبجح بالجينات اللبنانية النقية، لا يرضى بأقل من تهميش الدروز وإلغاء دورهم في الشوف، بمعنى إلغاء الدور الجنبلاطي التقليدي والعودة إلى ما قبل الحرب الأهلية وزمن "الجمهورية الأولى" ونجومية كميل شمعون وشراسة بشير الجميل. 
وما قاله باسيل المهووس بلعب دور مسترد حقوق المسيحيين عن السنية السياسة، إنما لعب بالنار دون رتوش أو مواربة. 
أصلاً، الكبار في لبنان هم الذين حددوا هويات الصغار، وأسهموا في ابتكار طموحاتهم، ثم رسموا الحدود بموجب صفقات عقدت في اجتماعات مغلقة. وعندما قال أحد الوزراء الجدد في تيار الرئيس اللبناني ميشال عون: إن "المسيحيين عادوا إلى الجبل من فوق"، فإنه كان يختصر كل ما يجري. ذهنية قاصرة وجهولة، لا تدرك أنه بمخاطبة مكونات الكيان اللبناني "من فوق" أيضاً، يستفز مخاوف من لا يرتضون أن يعيشوا "تحت" كمواطنين "درجة ثانية" في دولة يحكمها بحِراب غيره (حزب الله).
وفي الحقيقة، يتصرف باسيل منذ فترة كـ"رئيس جمهورية الظل"، متجاوزاً رئيس الحكومة. وهو في ذلك يستقوي بسلاح "حزب الله"، الذي فرض عون رئيساً، ثم فرض قانون الانتخابات الذي أراده. باختصار، يتصرف على أساس أنه مرشح "حزب الله" ومحور طهران - دمشق لرئاسة الجمهورية، وبالتالي، فترئيسه محسوم.
وفق هذا الطموح، يتحرك الوزير - الصهر في كل المناطق اللبنانية، معلناً أنه لا خصوصيات لأي منطقة لبنانية. وقبل فترة قصيرة من الحادث المؤسف الذي شهدته بلدة قبر شمون، كان خطاب باسيل، لا يفتأ يذكر الشباب المسيحي الذي لم يعاصر الحرب الأهلية، بجروح تلك الحرب، ومآسيها على المسيحيين، تلك الحروب، التي لا يستطيع أحد مواجهتها إلا "المسيحي القوي"، أي تيار عون. ومن ناحية ثانية، يقول للمسيحي الأكبر سناً، الذي عاش مآسي الحرب اللبنانية 1975 و1990: إن العونيين هم الذين أعادوه إلى أرضه منتصراً "رغم أنف الخَصم" - الدرزي أو السنّي أو حتى الشيعي - وهم وحدهم قهروا ذلك الخصم بعدما كان قد تغلب على القوى المسيحية الأخرى - القوات اللبنانية - الكتائب – المردة ... هذا الخطاب، فعلياً، حملة إلغائية للقوى المسيحية المنافسة الهدف منها إخراجها من المعادلة السياسية، ومن ثم، حصر الشرعية التمثيلية المسيحية، بعون وباسيل وتيارهما.