قطفت فلسطين أولى الثمرات الطيبة التي أنتجتها هذه الانتفاضات الثورية الشعبية العربية، والتي نجحت حتى الآن في تونس ومصر، فبمنتهى السرعة والبساطة واليسر تحقّقت المصالحة الفلسطينية وفتح معبر رفح، وهو ما بدا تحقيقه شبه مستحيل في ظلّ العهد المصري البائد. وكانت الانتفاضات العربية عموماً قد استلهمت في أدائها روح الانتفاضات الفلسطينية، وبخاصة انتفاضة الأقصى (أيلول/سبتمبر 2000) واستمدّت الثقة من وقائع المقاومة المسلّحة في كلّ من العراق ولبنان وفلسطين، وبذلك تأخذ الدورة الطبيعية، التكاملية، مجراها الطبيعي في الحياة العربية العامة بعد أن تتخلّص من السلطات الحاكمة الفاسدة التي تعطّلها.ومن باب التذكير بما لا يحتاج إلى تذكير نقول انّ المشروع الاستيطاني الصهيوني لم ينهض ضدّ الفلسطينيين حصراً وتحديداً، فهو اصطدم بهم أولاً، وواصل محاولات تدميرهم واستئصالهم، في طريقه لإخضاع واستعباد العرب والمسلمين عموماً. وإذا كان أصحاب المشروع الإنكليز، في لندن وواشنطن، قد حرصوا على إظهار الصراع فلسطينياً/يهودياً فذلك لأسباب تكتيكية، عملية ميدانية، لا تخفى على عاقل. وبالرغم من ذلك برزت العقبة الفلسطينية، لوحدها وفي حدّ ذاتها، عقبة صلبة كأداء يستحيل التغلّب عليها، وهي واجهت شبه منفردة وشبه عزلاء المشروع الاستعماري الصهيوني الذي يستهدف الأمة كلّها.عشية انتفاضة الأقصى الخالدة الذكر، قبل حوالي عشر سنوات، وفي ظلّ النظام الرسمي العربي الفاسد الضاغط على الشعب الفلسطيني ومقاومته، كانت القيادة الفلسطينية منهمكة في محاولة وضع قرارات هيئة الأمم (القرار 242 وتفرعاته) على طريق التنفيذ، وليس موضع التنفيذ! غير أنّ الأمريكيين والإسرائيليين المخادعين كانت لهم حساباتهم وترتيباتهم الأخرى المناقضة لإعلاناتهم، فكانت حادثة اقتحام المرتزق شارون للحرم القدسي، وكانت الانتـــفاضة الشعبية الفلسطينية، حيث أبسط الناس لم تخدعهم الألاعيب، وأدركوا أنّ الحادثة الشارونية تعني الإصرار على تقويض الأقصى، وعلى ابتلاع الضفة الغربية بصفتها ما يسمّونه ’يهودا والسامرة’.لقد هبّ الشعب الفلسطيني في انتفاضة الأقصى كرجل واحد. وهو كان يعتقد أنّه سوف يلقى التأييد التام والدعم بلا حدود من الأنظمة العربية، بخاصة بعد أن تسلّم شارون مقاليد إدارة الحرب. غير أنّ المواجهة أبرزت عدداً من المفاجآت، منها إحجام النظام الرسمي العربي عن نجدة الفلسطينيين، بل تحوّله إلى جدار سميك عازل يحاصرهم ويحول دون تواصلهم وتفاعلهم مع أشقائهم في الأقطار الأخرى، ويتعاون مع الدوائر الدولية المعادية من أجل إخماد انتفاضتهم.في المقابل، فوجئ الأمريكيون والإسرائيليون بصمود الشعب الفلسطيني واستبساله، وتدافعه للاستشهاد أطفالاً ونساءً ورجالاً، فزجّوا في الميدان بمعظم ثقلهم العسكري، وانطلقوا في عمليات التدمير والقتل على أوسع نطاق. وبينما الحال كذلك في فلسطين المحتلة كانت إدارة جورج بوش تواجه مفاجأة المقاومة العراقية التي قلبت حساباتها رأساً على عقب، ووضعت مشاريعها الإستراتيجية الإقليمية والدولية في مهبّ الريح، الأمر الذي دفعها إلى الاتجاه نحو تحقيق تهدئة، أو هدنة، على الجبهة الفلسطينية كي تتفرّغ تماماً للشأن العراقي، وكي تسهّل على الحكّام العرب مساعدتها في الشأن العراقي. غير أنّ التمهيد لتحقيق تلك التهدئة، أو الهدنة، اقتضى اغتيال عدد من القادة الفلسطينيين، من أبرزهم الشهيدان ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين!لقد زار وفد من مجلس الشيوخ الأمريكي فلسطين المحتلة حينئذ، في معرض العمل على تهدئة الجبهة الفلسطينية، وقالوا للإسرائيليين صراحة أنّه لا بدّ من تحقيق بعض ’الإنجازات السلمية’ من أجل ’تحسين وضع الولايات المتحدة في العراق’! وأيضاً من أجل نيل الدعم الشعبي الأمريكي للعمليات الحربية في العراق! وردّ شارون أنّه مع نجاح الأمريكيين في العراق، وأنّه مستعدّ لتقديم ’بعض التنازلات’!على مدى حوالي أربع سنوات ألحق الأمريكيون والإسرائيليون أضراراً وإصابات فادحة بالشعب الفلسطيني الثائر، لكنّ إنجازاتهم العسكرية تحولت إلى ما هو أسوأ من الخسائر حين عجزوا عن إرغام الفلسطينيين على الرضوخ سياسياً، وقد راحوا يعزّون أنفسهم بأنّ المقاومة الفلسطينية مهما تصاعدت لن تخرج عن نطاق السيطرة، ولن تشكّل أبداً خطراً جدّياً..الخ! لقد كانوا يعوّلون على خدمات النظام الرسمي العربي، وعلى تحالف الخيانة والانتهازية والجهل، وعلى نجاحهم في العراق ومن ثمّ نجاحهم الإجمالي إقليمياً ودولياً.لعلّ من المفيد هنا، وروح انتفاضة الأقصى تحوّم اليوم في أجواء فلسطين، أن نعرض بالأرقام بعضاً من النتائج الحربية لتلك الانتفاضة على الجبهتين الفلسطينية والإسرائيلية، وهي أرقام تشير إلى تعادل نسبي في الخسائر، الأمر الذي أذهل الأمريكيين والإسرائيليين: حتى شهر آب/أغسطس 2004، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين 3474، منهم 780 طفلاً و239 امرأة، بينما قتل من الإسرائيليين 1001، أي أنّ النسبة 3 إلى 1. وبلغ عدد الجرحى الفلسطينيين 55138، أمّا الجرحى الإسرائيليون فقد بلغ عددهم 11356. وبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين 8000، بينما بلغ عدد الإسرائيليين الفارين من الخدمة العسكرية 10000، إضافة إلى تراجع هجرة المرتزقة إلى فلسطين من 60 ألفاً عام 2000 إلى 9 آلاف عام 2004. وقد دمّر الصهاينة تماماً 6757 منزلاً فلسطينياً، وصدّعوا 65 ألفاً، وأغلقوا 12 جامعة ومؤسسة تعليمية عليا، وعطّلوا الدراسة في 125 مدرسة، وقصفوا 216 مؤسسة تربوية، وحوّلوا 43 مدرسة إلى ثكنات عسكرية، وجرّفوا 68011 دونماً من الأراضي الزراعية، واقتلعوا 1134471 شجرة، ودمّروا 288 بئراً و1153 خزّان مياه، أمّا عن الإسرائيليين فقد خسروا في مواجهة الانتفاضة 8 في المائة من الناتج ’القومي’، أي ما يعادل ثمانية مليارات ونصف المليار دولار، وأغلقت أبوابها 36 ألف مصلحة تجارية، وتراجع معدّل الاستثمارات الأجنبية بنسبة 70 في المائة، وانخفضت قيمة العملة بنسبة 25 في المائة، وبلغت نسبة البطالة 288 ألفاً..الخ!إنّه تناسب نسبي في الخسائر مدهش حقاً، على الرغم من استحالة المقارنة بين الطرفين في ما يتعلّق بالقوة المادية/العسكرية والسياسية/الرسمية، وعلى الرغم من محاصرة الشعب الفلسطيني، وعزله والانفراد به، وصعوبة تعويضه خسائره من ضروريات الحياة ، بينما الإسرائيليون يغرفون من محيطات تعويضاً عن خسائرهم، فكيف لا نتفاءل بانتفاضة فلسطينية قادمة لن تكون محاصرة ومعزولة عن انتفاضة الأمة بمجملها؟ ’ كاتب سوري