غزة / تقول المفكرة الأمريكية " دوروثي لو نولت:"حينما يعيش الطفل المساواة يتعلم العدل, وحينما يعيش الأمن يتعلم الثقة بالنفس, وحينما يعيش التسامح يتعلم الصبر"... هنا في غزة , حيث لا مساواة ولا أمن أو تعاون ما الذي سيكون عليه الطفل ؟ أطفال غزة أصبحوا نتاج احتلال غاشم وأوضاع سياسية واقتصادية متقلبة, وعلاقات داخلية مضطربة, وكانت الحرب "الإسرائيلية" الأخيرة على قطاع غزة بمثابة الفيصل بالنسبة لأطفال غزة حيث تبلور مفهوم الاضطرابات النفسية وأصبحوا محط أنظار المؤسسات الأهلية والدولية. نلقي الضوء على الاضطرابات النفسية لدى أطفال القطاع ومدى الاهتمام بالرعاية النفسية لهم في التحقيق التالي: براءة تائهة بين جدران مستشفى الصحة النفسية تجد ركناً خاصاً لبراعم لم يكتمل نموها, بعضهم في غرفة مع طبيب خاص والبعض الآخر في غرفة صغيرة مليئة بالألعاب والأخصائيين النفسيين، والفرق بين الغرفتين يكمن في اختلاف التشخيص, فهناك أمراض عضوية ترجع إلى خلل في نمو الدماغ، وهناك أمراض نفسية ناجمة عن اضطرابات سلوكية. الطفلة ( إيمان ) ذات الأحد عشر ربيعاً , كانت من بين هؤلاء الأطفال, تقول والدتها:" ابنتي مصابة بما يطلقون عليه اضطراب ما بعد الخبرة الصادمة، وحدث ذلك التغير في حياتها بعد الحرب الأخيرة على غزة حيث كانت إيمان متفوقة دراسيًا، لكن مستواها الدراسي أصبح في تراجع دائم , وتعاني من التبول اللاإرادي " . وتقول سالي المصري -أخصائية نفسية-, أن حالة إيمان هي من أكثر الحالات شيوعاً حيث تعود أسباب التبول اللاإرادي إلى أسباب عضوية وأخرى نفسية من بينها اضطراب ما بعد الخبرة الصادمة، والتعرض للعنف من ضرب أو صراخ وكذلك المشاهد العنيفة في التلفزيون. وهناك حالتان أخريتان رفضتا التحدث إلينا وكان يشرف على إحداها د.حكمي الرومي اختصاصي نفسي بالأطفال, وهما لطفلين يعانيان من انفصام الشخصية ناتج عن التحرش الجنسي، يقول د.الرومي:" هناك فهم خاطئ لدى الأهل حول العلاج النفسي, ففي حالة تلك الطفلة التي تعرضت لتحرش جسدي, يهتم ذووها فقط بأخذ العلاج من أدوية وعقاقير أما العلاج الجماعي والتفريغ الانفعالي فهو وصمة عار بالنسبة لهم". أمراض الحرب ويقول د. إسماعيل أحمد ماجستير علم نفس وأخصائي صحة نفسية أن معظم الأمراض النفسية لدى الأطفال في غزة ظهرت بعد الحرب وأكثر الأمراض شيوعًا ما يسمى بـ " اضطراب ما بعد الخبرة الصادمة "، ومن أعراضه أن الطفل يتذكر الحدث بشكل مقحم لا إرادي، وكذلك مشاهدة الكوابيس المتعلقة بالحدث الصادم, وأعراض أخرى مثل الاستثارة الزائدة وتدهور المستوى الدراسي. ومن الأمراض الأخرى الاكتئاب والذي تسببه النزاعات الأسرية أو الظروف السياسية والاقتصادية السيئة، وكذلك اضطراب الحركة الزائدة الذي قد يعود إلى أسباب عضوية وكذلك إلى العنف الأسري. ويعتبر د. الرومي أن التبول اللاإرادي من أكثر الاضطرابات لدى الأطفال، وتعود أسبابه إلى التعرض للعنف من صراخ أو ضرب، وكذلك المشاهد العنيفة" متابعًا:"لوحظ ظهور شيب الأطفال بعد الحرب، حيث ظهر الشعر الأبيض لدى لأطفال اللذين تعرضوا لصدمات قوية . وتحدث د.جمال قنن أخصائي نفسي في وحدة الإرشاد بالجامعة الإسلامية عن حالة طفل مصاب بوسواس قهري متمثل بأفعال متكررة للتخلص من الجراثيم، وكذلك هناك حالات من مرض التوحد والذي يتمثل في إعاقة في النمو تستمر طيلة عمر الفرد، وتؤثر على الطريقة التي يتحدث بها، وتعود أسبابها إلى أسباب وراثية وعوامل خارجية. أرقام وإحصاءات بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة حيث قامت العديد من المنظمات الحكومية والأهلية بعمل دراسات وإحصاءات حول الأمراض النفسية لدى الأطفال، ومنها دراسة صادرة عن "جمعية أرض الإنسان" والتي خلصت إلى أن (73%) من أطفال قطاع غزة يعانون من اضطرابات سلوكية ونفسية, وكذلك دراسة صادرة عن جمعية الوداد الأهلية غزة بعنوان "الخبرات الصادمة مع مرور الوقت وعلاقتها باضطراب ما بعد الخبرة الصادمة, والمشاكل السلوكية وتأنيب الضمير لدى الأطفال"، وتمثلت أهم نتائجها في أن الأطفال في غزة -رغم مرور أكثر من عام ونصف من الحرب-يعانون من مشاكل سلوكية معظمها ما تزال مرتفعة, وأن الإناث والأطفال الذين تتراوح أعمارهم من (10- 13 ) سنة هم الأكثر تأثرًا بالخبرة الصادمة. وكذلك دراسة أجراها برنامج غزة للصحة النفسية تبين أن كل طفل فلسطيني تعرض لأكثر من تسعة أحداث صادمة. وأشارت الدراسة إلى أن 60% من الأطفال تعرضوا لصدمة نفسية متوسطة، و6.7% منهم تعرضوا لصدمة نفسية بسيطة، في حين أن 33.3% من الأطفال تعرضوا لصدمة نفسية شديدة. وذكرت الدراسة أن 15.6% يعانون بدرجة خفيفة من أزمة ما بعد الصدمة، في حين أن 62.2% يعانون بدرجة متوسطة، في حين أن 20% يعانون بدرجة شديدة. كما أظهرت الدراسة وجود علاقة طردية بين تعرض الأطفال للأحداث الصادمة ودرجة الاضطرابات النفسية الناتجة عن ذلك. ويقول د.عايش سمور مدير مستشفى الأمراض النفسية بغزة:"إن 30% من الأطفال في القطاع يعانون من مشكلة التبول اللاإرادي بسبب استحكام الخوف، بالإضافة إلى مشاكل عصبية أخرى مثل: قضم الأظافر، والأحلام الليلية المخيفة، وآلام جسيمة غير معروفة السبب والبكاء والانطواء. ويضيف:"منذ مطلع العام الجاري زادت نسبة الأطفال الذين يترددون على المستشفى، حيث نستقبل حالياً 33 طفلا شهرياً، أي أن ذلك يمثل زيادة بنسبة 30% عما كانت عليه الأمور العام الماضي". ما بين المنظمات الأهلية والحكومية في الماضي كانت الصحة النفسية تابعة للرعاية الأولية حيث تم إنشاء الوحدة النفسية عام 1996 لكنها انفصلت عنها عام 2010 حيث أصبحت للصحة النفسية إدارة عامة مستقلة تتبعها ثلاث دوائر هي: دائرة التطوير والتدريب، ودائرة الخدمات، ودائرة التأهيل، وأصبحت الجهات المقدمة للصحة النفسية تقتصر على وزارة الصحة ووكالة الغوث، والمؤسسات غير الحكومية مثل: مؤسسة إنقاذ الطفل، وجمعية الوداد الأهلية، وجمعية أرض الإنسان وغيرها من المؤسسات الأهلية في غزة, أي أنه لا يوجد مستشفى متخصص بالأمراض النفسية لدى الأطفال بل تقتصر الرعاية النفسية لهم على وحدات تابعة وليست مستقلة, ورغم وجود بعض أشكال التعاون بين جميع هذه الجهات سواء الحكومية أو غير الحكومية؛ إلا أن الرعاية النفسية للأطفال في غزة تواجه بعض المعيقات فكما تقول المصري : " لا يتوافر لدينا إمكانيات لتجهيز غرفة ألعاب متكاملة للأطفال المرضى، وما تم تجهيزه مسبقاً اقتصر على جهود الأطباء الشخصية". ويرى محمد اليازوري والذي يعمل رسالة ماجستير حول الصحة النفسية والمجتمعية في غزة أن الرعاية النفسية في غزة غير كافية، وتحتاج إلى تكاتف الجهود بين جميع الجهات؛ مفسرًا ذلك بأن "المؤثرات السلبية الخارجية من الاحتلال والأوضاع السياسية والاقتصادية ستطول، وبالتالي يجب الاهتمام بالأطفال بشكل أكبر خاصة أولئك الذين يعيشون على الحدود حيث ينعدم لديهم الترفيه والأمان فلا بد من عمل مرافق ترفيهية أكبر كإجراء وقائي على الأقل". ويشير د.أحمد إلى أن ارتباط مفهوم الصحة النفسية بثقافة خاطئة لدى الأهل هي من أهم المعيقات في تقدم الصحة النفسية، ولإحداث الوعي الكافي لدى الأهل فإن معظم المؤسسات تنظم ندوات توعية، وتثقيف في المدارس والروضات، إلى جانب التوعية المجتمعية كما في برنامج غزة للصحة النفسية حيث تتم توعية الجمهور عن طريق برامج دورية ثابتة في بعض الإذاعات المحلية، بالإضافة إلى دوريات ونشرات لها دور كبير في تغيير النظرة للمرض النفسي. من المسؤول؟؟ بين النزيف الداخلي للأخوة الفرقاء وسياط الألم التي يصليها الاحتلال على أطفالنا تضيع الطفولة، وتختفي براعم الأمل، فهل سيأتي اليوم الذي تتفتح فيه زهرة أطفال فلسطين وتنجلي عنهم الغمة التي ضاقت بهم، ويبقى السؤال لا يجاوز مداه عن المسئولية التي يلقي بها المسئولون كالكرة في الملعب بين بعضهم البعض، حيث تقدَّر الأموال التي صرفتها السلطات على التحويلات الصحية وتكاليف العلاج بالخارج تفوق تكاليف بناء المستشفيات الكبرى والمتخصصة وتدريب الكادر البشري وتأهيله فهل فقد مسئولونا حاسة الإدراك لتغيب عن أعينهم هذه الحقيقة؟