مريع مشهد أعضاء مجلسي النواب والكونغرس الأميركيين، وهم يقاطعون، عشرين مرّة، خطاب بنيامين نتنياهو، بالتصفيق، وفي أغلب الأحيان وقوفاً. إنه مشهد زعيم تاريخي كبير تفوق قوته وتأثيره، قوة وتأثير سيد البيت الأبيض، الذي لم يحظ بمثل هذا الترحيب الحماسي الذي حظي به نتنياهو في عقر دار الإدارة الأميركية.هل علينا، بعد كل هذا الذي شاهدناه في المؤسسة التشريعية الأميركية، أن نصدق أن الرئيس أوباما يجرؤ على تحدي نتنياهو، أو أنه قادر على العمل لدفع عملية السلام، التي تتطلب جرأة في الموقف، وضغطاً على إسرائيل؟لقد كان احتفال المؤسسات التشريعية الأميركية بنتنياهو، مشهد وداع للدور الأميركي، ولعملية السلام، وهو ذاته مشهد يستمد منه رئيس الوزراء الإسرائيلي المزيد من العنجهية والمزيد من التطرف والعدوانية.بالتأكيد يدرك أعضاء مجلسي النواب والكونغرس، معنى المفردات التي وردت في خطاب نتنياهو، وربما يدرك أغلبيتهم أن ذلك الخطاب، موجّه أولاً، وبلغة متحدية، للرئيس الأميركي قبل أي شخص آخر.لقد أفرغ نتنياهو الكلمات القليلة التي أطلقها الرئيس أوباما بشأن حدود العام 1967، من مضامينها، وحوّلها إلى شيء آخر، شروط أخرى لا تجد ولن تجد من الفلسطينيين مَن لديه الاستعداد للتعامل معها. لا قدس ولا عودة للاجئين، ولا عودة لحدود الرابع من حزيران 1967، ولا تخلّياً عن الحدود مع الأردن، وفوق هذا وذاك يترتب على الفلسطينيين أن يوافقوا على استمرار الاستيطان والتهويد، وعلى الاعتراف بيهودية الدولة.هكذا يحظى نتنياهو بدعم كامل من ائتلافه الحكومي، ويحظى بدعم واسع من الجمهور الإسرائيلي، ويحظى بدعم كاسح من مؤسسة القرار الأميركي، ما يجعله طاووساً فريداً من نوعه ومقامه.من الواضح أن نتنياهو الذي يدرك من أين تؤكل الكتف الأميركية، سيكون الأشد تأثيراً في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، وما لم –وهذا مستبعد- يجازف الرئيس أوباما باتخاذ مواقف حازمة تعيد للبيت الأبيض هيبته ومكانته، ما لم يحصل ذلك، فإن الولايات المتحدة قد تتورط في الكثير من المشكلات، والأكيد أنها ستفقد ما تبقى من مصداقيتها، إنْ بقي منها شيء.يترتب على أوباما الرئيس، أن يقرأ جيداً معاني المشهد الاحتفالي حتى على مستقبله كمرشح لولاية رئاسية ثانية، فهو إنْ سقط في اختبار التحدي الإسرائيلي، فإنه بالتأكيد سيتحول عمّا قريب إلى مواطن أميركي ولا يحظى سوى بلقب الرئيس السابق، أو الرئيس الأول والأخير من أبناء جلدته وأصله.حتى الآن، ألحق نتنياهو بأوباما أكثر من إهانة، وأكثر من هزيمة، ابتداءً من تراجعه عن الموقف من الاستيطان، وانتهاءً بالموقف من شروط المفاوضات وحدود الدولة الفلسطينية.ربما كانت هذه الهزائم والإهانات التي تجرعها الرئيس الأميركي مجرد إشارات، فضلاً عن إشارات أخرى، تمهد لتراجع مكانة الولايات المتحدة، التي ستحل بعد سنوات قليلة، الثانية بعد الصين من حيث المساهمة في الانتاج العالمي، وعندها سيدرك المؤرخون أن إسرائيل قد ساهمت في إضعاف حليفتها الأكبر والأقوى.المشهد ذاته الذي يحتفل به المتطرفون في إسرائيل والولايات المتحدة مخجل لكل مَن لا يزال يراهن على دور مقبول، ولو بالحد الأدنى، للولايات المتحدة، في تحقيق السلام، ويفترض أن يكون مخجلاً لكل مَن لا يزال يفكر بخيار المفاوضات السياسية في ظل الوقائع القائمة، كطريق لتحصيل ولو القليل من الحقوق.خطاب نتنياهو، إعلان صريح، وصاخب، عن موت عملية السلام، وهو خطاب يفتح الصراع على غاربه، وبكل الأشكال والوسائل المتاحة، إنه خطاب حربي بامتياز وعدواني بامتياز وعنصري بامتياز.خطاب نتنياهو يشكل صفعة قوية للعرب، وحتى للفلسطينيين وللإسرائيليين، الذين يتوهمون إمكانية تحقيق سلام مع دولة تتدهور نحو العنصرية، فشلت رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على اتفاقية كامب ديفيد، من تحقيق بعض القبول لها في أي شارع عربي.ومن الخطاب يتأكد كل فلسطيني غيور، مدى خطورة الانقسام الفلسطيني الذي وقع لأربع سنوات، وما كان يؤديه ذلك الانقسام من خدمة لإسرائيل، ويتأكد أيضاً مدى أهمية وضرورة وحيوية الوحدة الفلسطينية. مرفوض المنطق الذي تحدث به نتنياهو عن استعداده للاعتراض في الأمم المتحدة بدولة فلسطينية مقابل تمزيق خطاب المصالحة، هو مرفوض لو كان نتنياهو صادقاً، وهو مرفوض أيضاً لأن الكل يعرف بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يتمتع بصفة أكثر من تمتعه بالكذب والخداع.ليس علينا، بالطبع، أن نعلن الحرب على إسرائيل أو الولايات المتحدة، بقدر ما أن المطلوب إنهاء هذا التردد والتأخير في تنفيذ بنود المصالحة، حتى تتسنى إعادة بناء الوضع الفلسطيني من جديد، وعلى أسس جديدة، بما في ذلك إعادة صياغة خياراتنا واستراتيجتنا. إن المستقبل واعد للفلسطينيين وقضيتهم، وما عليهم سوى أن يؤهلوا أنفسهم للتعامل الإيجابي مع وضع عربي متغير لصالحهم، ومع رأي عام دولي يتغير لصالحهم أيضاً