في الدقائق الخمس التي تحدّث فيها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل أمام جمع المصالحة، والتي علمنا فيما بعد أنّها كادت تفجّر الوضع الداخلي قبل خروجها، لم تخلُ الكلمة من عوامل التفجير، فأصابت حماس نفسها. في القرن السابق، كان التفاوض مع إسرائيل أحد أشكال الخيانة، وقُتل الكثير من الفلسطينيين تحت هذه التهمة، وكان أحدهم القيادي البارز في منظمة التحرير الفلسطينية عصام السرطاوي، في البرتغال. أسماء كثيرة حاولت فتح قنوات حوارية مع العدو، واتُّهمت بالخيانة، أو أُطلق الرصاص عليها وبالأمس القريب أيضاً، انسحبت فصائل من م. ت. ف احتجاجا على تلك المحاولات في حينه بسبب نهج ا لتفاوض مع إسرائيل، الذي انتهى بأوسلو. وتخلّل تلك الفترةايضا تراشق الاتهامات بين الأطراف الفلسطينية حول جدوى المفاوضات في ظل موازين قوى مختلفة تماماً، ومرجعيات يتمّ التحايل عليها، وراعٍ غير نزيه على الإطلاق، حتى تصاعدت تلك الاتهامات ووصلت لحد التخوين، واتهام البعض بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، وتسليم كشوفات بأسماء المناضلين وإحباط العديد من العمليات الفدائية والاستشهادية. وأخذ التناقض طابعاً تناحرياً بين برنامج المقاومة وبرنامج المفاوضات، ما أدى إلى حالة الانقسام الحالية وما تخلّلها من إعدامات وقتل على الهوية وهروب عدد كبير من قيادات السلطة السابقة، وحسم المعركة لصالح ما سماه البعض باسم "برنامج المقاومة" والذي اصطدم بكثير من المعوقات والمحاذير التي أعادته إلى مربع العقلانية وتفهم مصالح الناس وعدم المقدرة ايضا على تحمل ردّات الفعل الإسرائيلية سواء من حيث الاغتيالات أو تدمير البنية التحتية للسلطة الجديدة في غزة، ولكنّه طبق على الأرض عملياً الى حد ما. والغريب أن الشارع الفلسطيني استوعب هذا الموقف الجديد وأيّده خصوم الأمس "فريق اوسلو" الذين اتهموا بالخيانة لملاحقتهم مطلقي الصواريخ في السنوات التي سبقت الانقسام وبدأوا بدفع الأمور نحو مربع التسوية والمفاوضات من جديد، مشيرين الى "أن حماس فهمت المعادلة متأخراً، وأن تفهمها متأخراً خير من ألا تفهمها أبداً" وهذا حسب مفهوم أصحاب سلطة أوسلو بالطبع. وبالعودة إلى كلمة السيد مشعل، والتي تخطّت الآلية المعمول بها، وهي ممارسة الهدنة دون الإعلان عنها، وذلك من خلال التصريح علانية أن حماس ستعطي المفاوضات فرصة أخيرة، رغم عدم قناعتها بجدواها، وهذا بالطبع يتناقض مع كل التاريخ الذي سبق ذلك... خاصةً وأن أدبيات ووثائق الحركة ترفض من حيث المبدأ التفاوض على أرض الوقف الإسلامي، وتعتبر التفاوض على الحقوق خيانة، وأن "اليهود" لا عهد لهم، وأن المقاومة هي مفتاح الحل، وربّت حماس أجيالاً من الشباب لا تفهم من التكتيك السياسي إلا استراحة المقاتل، وغير ذلك فهو تحرك مشبوه وملعون وتجب محاربته، وهنا أصاب الدكتور محمود الزهار في تصريحاته التي انتقدت خطاب مشعل، لأن الزهار هو ابن حماس (حركة المقاومة الإسلامية) أما خالد مشعل فهو ابن حركة الإخوان المسلمين والتي تختلف حساباتها عن حسابات الحركة للأسباب التالية: أولاً: لا يوجد تناقض حقيقي بين الإخوان والمعسكر الغربي، من حيث الفهم الاقتصادي، ومن حيث الوجهة الفكرية الروحانية، وهذا لا يجعل من الإخوان عدواً استراتيجياً للإمبريالية العالمية، والتي قد تتقاطع مصالحها مع مصالح الإخوان في الحقب الزمنية المختلفة. وهذا بالطبع سيفتح آذان القيادات السياسية لنصائح القوى الإمبريالية العظمى بقبول نهج التفاوض على الحقوق. ثانياً: الوضع في سوريا، والنقمة الكبيرة التي يحملها النظام السوري على حركة الإخوان المسلمين في سوريا، واتهامهم بالوقوف وراء الأحداث هناك. وهذا سيجعل من الفرع الفلسطيني للإخوان يعيد حساباته وتحالفاته، والتي قد تتغير وبشكل مفاجئ ارتباطاً بتطورات الوضع في سوريا، وهذا سيدفع حركة حماس في اتجاه الأنظمة التي لها علاقات مع إسرائيل، وخاصة مصر وقطر والسعودية، والذين لا يقبلون بحماس كحركة مقاومة، ولكن كحزب سياسي، وجزء من النظام السياسي الفلسطيني أي جزء من المنظمة، التي اعترفت بإسرائيل وقبلت بنهج التفاوض كطريق لحل الصراع. أما ثالثاً: فهو الوضع في مصر وهنا حدث ولا حرج، فالمسألة متشابكة ومعقدة لدرجة لا تدع مجالاً للمناورة من أي طرف فلسطيني. فمصر هي أم الدنيا، ومصر هي بوابة الجنوب، ومصر هي الدولة العربية الأقوى في المنطقة والأقدر على التأثير في مسار الأحداث، وأي محاولة للاشتباك السياسي معها هي ضرب من الجنون. ورغم التحولات الدراماتيكية التي تجري الآن في مصر إلا أنها ما زالت تناور سياسياً حسب قواعد اللعبة السابقة، وهي عدم التنصل من الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وقبول منهج التفاوض كأسلوب للحل، وعدم التصادم مع المصالح الغربية في المنطقة، ولكن الجديد في الأمر أن القيادة المصرية الجديدة لن تقبل بكل ما سبق مجاناً كما كان يحدث في السابق وأنه آن الأوان لكي تدفع إسرائيل وحلفاءها ثمن هذا الدور المصري المحافظ على حالة الاستقرار في المنطقة. كل ذلك دفع الإخوة في حركة حماس كي يعيدوا حساباتهم، ولكن كحركة إخوان مسلمين، وليس كحركة مقاومة.والفارق واضح، أن المعادلة الأولى تحكمها المصالح، والثانية تحكمها الحقوق. وهنا أصاب الزهار أيضاً كحركة حماس، وأخطأ مشعل كرئيس للحركة. أما أخيراً فهو دور الإخوان المسلمين في العالم لخدمة مركز الحركة في مصر، والتي تنوي دخول الانتخابات المصرية، وهي بحاجة لكل دعم ولكن موقف حركة حماس من المفاوضات سيغذي حالة الانقسام الفلسطيني، واستمرار الانقسام يعني التصادم بين الجمهور في غزة والسلطة القائمة أي سلطة حماس والذي حصل في الماضي وأربك القيادات السياسية لحماس والإخوان لأن ذلك سيظهرهم بمظهر النسخة الكربونية للأنظمة العربية الفاسدة والتي تقتل أبناءها، وهذا ما لا تريده حركة الإخوان في مصر لأن ذلك يعني خسارة الانتخابات وتراجع الحركة مقابل مكاسب وهمية وسلطة وهمية في غزة... وبذلك تكون المصلحة العليا للإخوان بالإعلان عن احترامهم للاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، واحترام الدور الأميركي الراعي للمفاوضات العبثية مع إسرائيل لحين استقرار الوضع في مصر والمشاركة في النظام السياسي المصري، واعتراف العالم الغربي بحجم الإخوان وتأثيرهم والتعامل معهم كطرف مهم في المنطقة العربية. وبالطبع كل ما سبق لا يمكن للكادر الحمساوي استيعابه أو الترويج له وسيضعهم في موقف محرج ومخجل مع قواعدهم ومع الناس... وهنا أصاب الزهار وأخطأ مشعل. وفي الختام، كان الأجدر برئيس المكتب السياسي لحركة حماس عدم التصريح العلني بتفويض الرئيس بالاستمرار في العملية التفاوضية ضمن المعطيات الأخيرة، لأن ذلك سيضعف دور المعارضة الفلسطينية وسيضعف الرئيس كنفسه كمفوض باسم الشعب الفلسطيني، وكان الأجدر والأفضل أن يلتزم الصمت ويقبل بتفويض الرئيس و م. ت. ف. من تحت الطاولة رغم أن قناعتي تختلف مع ذلك... وأنا واثق من أن القبول بشروط التسوية الحالية لن يجلب لنا سوى المآسي وسيؤسس لحالة انقسام جديدة.